كان الإسرائيليون والفلسطينيون والسلطات الدولية ينظرون إلى الضفة الغربية سابقاً باعتبارها برنامجاً إرشادياً من نوعٍ ما لفض الاشتباك الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، بل كان البعض ينظر إليها باعتبارها نموذجاً أولياً محتملاً لدولة فلسطينية مستقبلية.
لكنَّ تصاعد التوتر في المنطقة في الأيام الأخيرة بين فصائل المقاومة وجيش الإحتلال والمستوطنين اليهود المتطرفين يؤكد فشل تلك الرؤية، ويرفع من أسهم فصائل المقاومة على حساب السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
إذ يشهد شمال الضفة الغربية توتراً غير مسبوق من قِبل إسرائيل ضد فصائل المقاومة التي باتت تخرج للعلن بالضفة الغربية خلال السنوات الأخيرة، ومداهمات شبه يومية من جانب جيش الاحتلال لإلقاء القبض على عناصرها، والتي غالباً ما تنتهي بصورة مميتة، وأعمال انتقامية من جانب المستوطنين اليهود المتطرفين، الذين هاجوا في أرجاء القرى الفلسطينية وأضرموا النيران في الممتلكات، كما يقول تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
ومع تصاعد التوترات، يضغط الائتلاف الحاكم بقيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو –والذي يضم أحزاباً يمينية وقومية متطرفة ترفض أي محادثات مع القيادة الفلسطينية- باتجاه رد فعل عسكري قوي على العمليات. وتضغط الحكومة أيضاً من أجل توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.
أدَّى هذا المزيج المتقلِّب إلى واحدة من أكثر السنوات دموية في الضفة الغربية منذ أكثر من 10 سنوات. فمن بين 140 فلسطينياً قُتلوا على يد الإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية حتى الآن هذا العام، كان نحو 86 في شمال الضفة الغربية، معظمهم في منطقتي جنين ونابلس.
بدأ التوتر الأسبوع الماضي بمداهمة إسرائيلية مميتة يوم الإثنين، 19 يونيو/حزيران، في مدينة جنين شمالي الضفة الغربية، وأدَّت إلى معركة امتدت لساعات قُتِلَ فيها 7 فلسطينيين، بينهم فتاة تبلغ من العمر 15 عاماً، وذلك بحسب مسؤولي الصحة الفلسطينيين. وأُرسِلَت مروحيات مسلحة إسرائيلية إلى المنطقة للمرة الأولى منذ مطلع عقد الألفية من أجل تأمين القوات التي كانت تحاول استخراج جنود جرحى وعربات مدرعة أُعطِبَت نتيجة انفجار عبوة ناسفة قوية زُرِعَت بجانب أحد الطرق.
أعمال انتقامية إسرائيلية
وفي اليوم التالي، قَتلَ مسلح فلسطيني 4 مدنيين إسرائيليين قرب مستوطنة عيلي الإسرائيلية وفي وقت متأخر من يوم الأربعاء، 21 يونيو/حزيران، أسفرت غارة جوية إسرائيلية من طائرة مُسيَّرة بدون طيار عن مقتل ثلاثة مسلحين فلسطينيين في سيارة قال جيش الإحتلال إنَّها كانت قد أطلقت لتوها النار على موقع إسرائيلي في شمال الضفة الغربية وشنَّت هجمات ضد المستوطنات اليهودية في المنطقة.
أدَّى قتل الإسرائيليين الأربعة في عيلي إلى إشعال موجات من الأعمال الانتقامية يومَي الثلاثاء والأربعاء، 20 و21 يونيو/حزيران، من جانب المتطرفين الإسرائيليين، الذين عاثوا فساداً في البلدات والقرى الفلسطينية، بما في ذلك بلدة ترمسعيا شمال مدينة رام الله، وهي مقر السلطة الفلسطينية. وتُعَد ترمسعيا منطقة موسرة نسبياً والكثير من سكانها هم أيضاً مواطنون أمريكيون.
وصف نتنياهو هجمات المستوطنين بأنَّها غير مقبولة، قائلاً: "دولة إسرائيل هي دولة قانون. ومواطنو إسرائيل جميعاً مُلزَمون باحترام القانون". وأدان الجيش الإسرائيلي عنف المستوطنين، وقال إنَّ قوات الأمن دخلت البلدة لإخماد الحرائق ومنع الاشبتاكات وجمع الأدلة، وإنَّ الشرطة الإسرائيلية تُحقِّق في الحادث.
لكن بالرغم من سيطرة القوات الإسرائيلية الشاملة على المنطقة، وسلسلة من الأعمال الانتقامية ذات الدمار المماثل من جانب المستوطنين في فبراير/شباط الماضي، فإنَّها تبدو عاجزة عن منعها.
ومع أنَّ التوتر في شمال الضفة الغربية في تصاعد على مدار الأشهر الأخيرة، فإنَّ الوضع آخذ بالتدهور منذ سنوات، في ظل تصاعد موجات العنف وانحسارها منذ انهيار مباحثات السلام قبل عقد من الزمن تقريباً.
كانت إسرائيل في عام 2005 قد فكَّكت 4 مستوطنات يهودية حول جنين وانسحبت أيضاً من قطاع غزة الساحلي الفلسطيني على أمل تقليل التوتر في المنطقة والإشارة إلى إحراز تقدم نحو التوصل إلى تسوية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
السلطة "خارج اللعبة"
ومن المفترض أن تمارس السلطة الفلسطينية حكماً ذاتياً محدوداً في أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، ولديها قوات أمنية يصل تعدادها إلى 60 ألف فرد؛ لكنَّها غائبة عن معاقل المسلحين الفلسطينيين في الجزء الشمالي من الضفة مثل جنين ونابلس.
يقول زكريا القاق، وهو خبير فلسطيني في الأمن القومي: "هنالك اشتباك كامل بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية الصغيرة، والسلطة الفلسطينية خارج اللعبة، على الهامش، أو ليست موجودة فعلاً. لقد عدنا إلى المربع واحد. ليست هناك أوسلو. ليس هناك شيء".
ودعا المتشددون الإسرائيليون، بمن فيهم وزير الأمن القومي اليمين المتطرف إيتمار بن غفير، إلى عملية عسكرية إسرائيلية واسعة في الضفة الغربية على غرار الاجتياح الذي قامت به إسرائيل للمدن الفلسطينية في عام 2002 في ذروة الانتفاضة الفلسطينية الثانية حين هاجم الانتحاريون المدن الإسرائيلية.
لكنَّ كثيراً من الخبراء الأمنيين الإسرائيليين يقولون إنَّ الأوضاع لا تُبرِّر شن هجوم كبير. فقال يعقوب عميدرور، مستشار الأمن القومي السابق لنتنياهو، متحدثاً عن ضحايا الانتفاضة: "في 2002، كان لدينا 130 قتيل شهرياً". وقتل المهاجمون العرب في هذا العام حتى الآن 29 إسرائيلياً.
وأضاف: "هنالك الكثير من السلاح في الضفة، والسلطة الفلسطينية لا تقوم بوظيفتها وعلينا أن نتعامل مع الأمر بمفردنا"، لافتاً إلى أنَّ الميليشيات الفلسطينية المسلحة اليوم في الضفة الغربية في معظمها جماعات محلية تتحرك دون بنية تحتية تنظيمية.
وإلى جانب التحرك بصورة أكثر ضد فصائل المقاومة، تُركِّز حكومة نتنياهو على توسيع المستوطنات. فعلى الفور بعد هجمات عيلي، أعلن نتنياهو خططاً لبناء ألف وحدة استيطانية هناك. وبالإضافة إلى ذلك، يُتوقَّع أن تدفع السلطات الإسرائيلية بخطط لبناء 4 آلاف وحدة استيطانية أخرى في لقاء مزمع الأسبوع المقبل.
وسهَّلت الحكومة يوم الأحد، 18 يونيو/حزيران، عملية الموافقة على بناء مستوطنات إسرائيلية جديدة في الضفة الغربية المحتلة ونقلت الإشراف عليها من وزير الدفاع إلى وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وهو ناشط استيطاني سابق يميني متطرف يؤيد ضم إسرائيل للضفة الغربية.
وفي مارس/آذار الماضي، ألغى البرلمان الإسرائيلي التشريع الذي يمنع المستوطنين من دخول المستوطنات اليهودية الأربع في الضفة الغربية التي أُخليَت عام 2005.
وبحسب تقرير لإيشان ثارور، الكاتب في السياسة الخارجية بصحيفة The Washington Post الأمريكية ، يقول منتقدو التوسع الاستيطاني في إسرائيل إنَّ نتنياهو قد منح الضوء الأخضر للفصائل المتطرفة المؤيدة للمستوطنين داخل ائتلافه الحكومي للدفع بأجندة تسعى لضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية بحكم الأمر الواقع، علماً بأنَّ الضفة الغربية تمثل موطناً لثلاثة ملايين فلسطيني وتُشكِّل معظم الأراضي التي من شأنها أن تُشكِّل الدولة الفلسطينية المستقبلية.
العنف يولد العنف
ويشير ثارور إلى أنَّ هنالك ترسيخاً للسيطرة الإسرائيلية الفعلية على الأراضي الفلسطينية، وإضعاف وتراجع متزايد لأهمية القيادة الفلسطينية التقليدية، وإشارات متزايدة على أنَّ عملاً إسرائيلياً أكثر عدوانية قد يكون قاب قوسين أو أدنى. كل ذلك في الوقت الذي يعيش فيه ملايين الفلسطينيين دون نفس القدر من الحقوق والحريات السياسية التي يتمتَّع بها جيرانهم.
وحسب التقرير، حذَّر مسؤولون إسرائيليون من أنَّ موجة أكثر تطوراً من الحراك المسلح الفلسطيني ربما تتجذَّر. ويقول الفلسطينيون إنَّ السلطات الإسرائيلية وجماعات المستوطنين تثير العنف من أجل تعزيز سيطرتها على الأراضي المحتلة بصورة أكبر. وقد أثارت إدارة الرئيس جو بايدن في الولايات المتحدة غضب اليمين الإسرائيلي من خلال تراجعها عن بعض الخطوات السابقة التي اتخذتها إدارة ترامب والتي خدمت الحركة الداعمة للاستيطان. لكن بالرغم من الحديث عن "فتور" في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، لم يُظهِر البيت الأبيض استعداداً كبيراً لاستغلال معظم رأس ماله السياسي وطاقته الدبلوماسية لتحويل المسار الحالي لحكومة نتنياهو.
ووصفت صحيفة The Washington Post الخطاب العام لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأنَّه يثير التطلعات لحل الدولتين في حين يعترف ضمناً بواقع كم أنَّ إمكانية تحقيق ذلك الآن بعيدة. في المقابل، تنظر العديد من المنظمات الدولية وجمع متزايد من الباحثين التقليديين إلى الوضع السائد في إسرائيل باعتباره واقع "دولة واحدة" يعيش فيه الفلسطينيون تحت السيطرة الإسرائيلية في ما تعتبره منظمة العفو الدولية ظروفاً تشبه "الأبارتيد" أو الفصل العنصري.
ودعت مجموعة من الباحثين في الولايات المتحدة المسؤولين الأمريكيين إلى التوقف عن التمكين الضمني لهذا الوضع الراهن، تماماً مثلما فعلوا طوال جيل من الزمن منذ صياغة اتفاقيات أوسلو التي تحتضر حالياً في التسعينات. ورأى هؤلاء الباحثون أنَّه في ظل غياب الدولة الفلسطينية المنفصلة، يتعين على صانعي السياسة الأمريكيين الدفع باتجاه المساواة في الحقوق لكل مَن يعيش داخل تلك الحدود.
رفض كبار المدافعين عن إسرائيل في واشنطن هذا الاستنتاج بشدة، مُشيرين إلى أنَّه يرقى إلى كونه دعوة لمحو إسرائيل باعتبارها الدولة اليهودية الوحيدة في العالم. ورأى آخرون أنَّ مجموعة الباحثين قلَّلت أو أغفلت الدور الفلسطيني في الأزمة.
بدوره، كتب مايكل كوبلو، من منتدى السياسة الإسرائيلية في الولايات المتحدة: "ما تفعله هذه الحكومة الإسرائيلية، بصورة أسرع وأشمل من أيٍ من سابقاتها، هو إثبات حقيقة واقع الدولة الواحدة… والتعجيل باليوم الذي يصبح فيه تصوُّرها أمراً واقعاً على الأرض أيضاً".