وقفت السيدة الفلسطينية جميلة بعد القصف الإسرائيلي تحت هيكل منزلها المدمر، وقالت: "لقد دمروا منزلنا فوق رؤوسنا مباشرة.. كنا هنا مع عائلاتنا وأطفالنا، ودون أي تحذير بدأوا في إطلاق النار وإرسال الصواريخ لمهاجمتنا من جميع الاتجاهات"، ولكن لم تكن هذه أكبر مصائب جميلة، فلقد سبق لإسرائيل اغتيال ابنها، ولها ابن ثانٍ هارب من الاحتلال الإسرائيلي.
كان كل ما تبقى من الجدار الخارجي لمنزل عائلة جميلة أبو شلال المكون من طابقين في بلاطة على أطراف مدينة نابلس عبارة عن لوحين هيكليين من الخرسانة. وتصدّعا تصدعاً سيئاً وانحرفا بدرجة خطيرة بعد غارة إسرائيلية، لكن جميلة وقفت تحتهما غير خائفة ويعتريها الغضب، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
وبعد نهاية الغارة الأولى، فجأة دوَّى انفجار قوي في الهواء.. وعاد الإسرائيليون.
ولجزءٍ من الثانية، تجمّد كل من حول المنزل، ثم انطلق هدير الأصوات البشرية عبر أكبر مخيم للاجئين وأكثرها اكتظاظاً في الضفة الغربية؛ وتعالت أولاً صرخات الأطفال الصغار، التي غطى عليها على الفور صراخ الرجال الأكبر سناً، ثم صيحات ليختبئ الجميع.
"نحن معتادون على هذا"
وقال محمد الطيراوي، بينما تعلو وجهه ابتسامة ساخرة: "نحن معتادون على هذا". والطيراوي، البالغ من العمر 40 عاماً، هو زعيم الفرع السياسي لجماعة كتائب شهداء الأقصى، التي يصنفها الاتحاد الأوروبي وأمريكا منظمةً إرهابية. وظل يتحقق باستمرار من هاتفه المحمول لمتابعة الأنباء عن الغارة الإسرائيلية والهجمات المضادة الفلسطينية التي تلتها.
ووصلت أنباء عن دخول وحدة مكافحة الإرهاب التابعة لقوات الاحتلال الإسرائيلي إلى المخيم في شاحنة مثلجات، تلتها وحدة عسكرية. واستمر تبادل إطلاق النار قرابة ساعتين قُتِل خلاله أحد المارة ويبلغ من العمر 19 عاماً وأُصِيب عدد كبير من الأشخاص؛ من بينهم طفلان.
نجل جميلة هرب من الاحتلال كما فعل في الغارة السابقة
وكان من بين أهداف الغارة، بحسب الفلسطينيين، نجل جميلة أبو شلال الذي اتهمه الإسرائيليون بالضلوع في نشاط مقاوم. وقد هرب كما فعل قبل ثلاثة أسابيع عندما تعرض منزلها للهجوم.
وصارت مثل هذه الحوادث تتكرر أكثر فأكثر في الضفة الغربية خلال العام الماضي. وفي نفس اليوم، فتح مسلحون فلسطينيون النار وأصابوا 5 إسرائيليين كانوا يقودون سياراتهم على طريق قريب.
وتحذر الأمم المتحدة من أنَّ هذا العام يسير على الطريق ليكون الأكثر دموية في الضفة الغربية منذ انتهاء الانتفاضة الثانية في عام 2005.
الشبان المقاومون يظهرون بعد خروج الاحتلال الإسرائيلي
وقال جيش الاحتلال الإسرائيلي إنَّ الغارة على مخيم بلاطة كانت على الأقل العملية العاشرة "لمكافحة ما وصفه بـ"الإرهاب" في المخيم هذا العام. وبعد أن انتهى الأمر اختفى الجنود وعربة المثلجات وحل مكانهم حشود من الشبان الفلسطينيين في الشوارع وهم يصرخون ويطلقون النار في السماء.
كان الإعجاب المرتبط بالمقاومة المسلحة في المخيم واضحاً تماماً، حيث ركض الأطفال في سن الخامسة والسادسة خلف المقاتلين، وجمعوا أغلفة الرصاص الفارغة بفرح. وأمامهم، حمل المُشيِّعون جثة القتيل البالغ من العمر 19 عاماً.
قلتوا ابن جميلة خلال مشاركته في جنازة أحد النشطاء
كانت جميلة أبو شلال قد رأت كل ذلك من قبل. فقد قُتِل أحد ابنائها، ويُدعَى رياض، برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي في عام 2004 في جنازة أحد النشطاء الفلسطينيين، وكان عمره وقتها 15 سنة. وقالت جميلة: "كلما استمر الاحتلال، سنواصل جهودنا لتحرير أرضنا من الإسرائيليين.. لدينا الحق في المقاومة".
وبنت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) مخيم بلاطة في عام 1950 بهدف إيواء 5000 لاجئ في البداية. واليوم صار موطناً لأكثر من 33000، يعيشون جميعاً في منازل ضيقة ومتداعية داخل منطقة تبلغ مساحتها حوالي 0.25 كيلومتر مربع.
وكانت الظروف أسوأ من أي وقت مضى الأسبوع الماضي.
فقد أدى إضراب عمال الأونروا المحليين لمدة أربعة أشهر بشأن الأجور وسط أزمة تمويل إلى تعطل حتى أبسط الخدمات الأساسية في مخيم بلاطة ومخيمات اللاجئين الأخرى. وتسرّبت مياه الصرف الصحي الملوثة إلى الأزقة الضيقة، وتناثرت القمامة على الأرض، وفاضت المخلفات الكبيرة عند المدخل من أكياس القمامة التي انسكبت على الطريق. وكان الأطفال الصغار يلعبون في مكان قريب غافلين، بينما أغلقت جميع مدارس المخيم الأربع أبوابها نتيجة الإضراب الذي انتهى يوم الجمعة 16 يونيو/حزيران.
عيادة المخيم لم تفتح أبوابها إلا ليومين خلال الأربعة أشهر الماضية
ولم تفتح عيادة بلاطة الصحية الوحيدة – التي تخدم 60 ألف شخص من بلاطة وخارجها – أبوابها إلا لمدة يومين في الأشهر الأربعة الماضية.
وقال أحمد تشوكان، رئيس اللجنة الشعبية الفلسطينية في بلاطة: "الناس ليسوا فقط بدون علاج – فهم أيضاً بلا دواء"، مضيفاً أنَّ زميلاً مسؤولاً عن مرضى السرطان كان يطلب تبرعات على الشبكات الاجتماعية.
وأدى هذا التدهور في الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاتمة بالفعل، إلى جانب التذبذب نحو اليمين في إسرائيل وفساد وتحجُّر السياسة الفلسطينية، إلى خلق قنبلة موقوتة.
الأطفال يصنعون أسلحتهم بأنفسهم، والمراهقون يبيعون ذهب أمهاتهم لشرائها
وبدأت مجموعات مسلحة جديدة -مثل عرين الأسود ولواء بلاطة- في الظهور، يغذيها شبان محبطون وعاطلون عن العمل لا يستطيعون الزواج ولا تكوين أسرة.
ويعمل الشباب على دراجات نارية مع بنادقهم الهجومية من طراز "إم 16" متدلية من أكتافهم كـ"مراقبين"، يبحثون عن وحدات عسكرية إسرائيلية سرية، التي غالباً ما تتسلل متخفية إلى المخيم قبل شن الهجمات.
وقبل مداهمة الاحتلال الإسرائيلي، أشهر شاب في العشرينات من عمره يجري دورية في الشوارع مسدساً صنعه بنفسه من الخردة المعدنية والبارود. وقد أصيب بعد ذلك في القتال وهو الآن في المستشفى وقد ضُمِد ذراعه وكتفه.
وقال الطيراوي، الممثل السياسي لكتائب شهداء الأقصى، إنه حتى الأطفال في سن المدرسة الابتدائية يمارسون صنع مثل هذه الأسلحة. بينما يفضل المسلحون المراهقون الأكبر سناً شراء المزيد من الأسلحة الاحترافية المتوفرة بسهولة في السوق السوداء. وأوضح: "كثير منهم باعوا ذهب أمهم ليحصلوا عليها".
وحذر من أنَّ ثوران الشعب الفلسطيني ضد كل من السلطات الإسرائيلية والقيادة الفلسطينية أمر لا مفر منه. وأكد: "نحن تحت الضغط؛ الجميع يضغط علينا؛ لذلك سيأتي الانفجار ضد الجميع".