قبل 8 سنوات، أرسلت أمريكا قواتها إلى شمال شرقي سوريا بهدف محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، فمتى وكيف ينتهي الوجود الأمريكي هناك؟ وما علاقة الحرب الجيوسياسية مع روسيا بهذا الوجود؟
إذ أعلنت الولايات المتحدة، الأربعاء 14 يونيو/حزيران، أنها سترسل مقاتلات إف-22 إلى سوريا؛ لمواجهة التهديدات الروسية. وتسلط هذه الخطوة الضوء على كيفية تحوُّل المهمة العسكرية، التي بدأت بهدف محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، إلى صراعٍ جيوسياسي أوسع نطاقاً.
وتناول تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني هذا الصراع في تقريرٍ عنوانه "سوريا: كيف ستُنهي الولايات المتحدة وجودها؟"، يرصد التطور الذي شهده الوجود الأمريكي على الأراضي السورية واحتمالات إنهاء هذا الوجود الذي بات يبدو "أبدياً".
لماذا أرسلت أمريكا قوات إلى سوريا؟
كانت القوات الأمريكية قد وصلت إلى شمال شرقي سوريا عام 2015 ضمن عملية العزم الصلب، حيث تعاونت مع تحالف دولي وميليشيات قوات سوريا الديمقراطية ذات الأغلبية الكردية، بهدف صد تنظيم داعش بعد اجتياحه لمساحات شاسعة من سوريا والعراق المجاور، وانتهت تلك المواجهة في عام 2019 بهزيمة تنظيم الدولة على الأرض، حسبما أعلنت واشنطن أكثر من مرة.
ولا تزال المهمة الأمريكية ناجحة على الصعيد العسكري، فخلال شهر رمضان من العام الجاري، نفّذ تنظيم داعش 19 هجوماً فقط داخل سوريا. ويمثل الرقم انخفاضاً بنسبة 37% عن الرقم المسجل خلال الفترة نفسها من العام الماضي، كما يُعَدُّ أقل بـ70% من الرقم المسجل في عام 2020، وفقاً للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.
واليوم، تقول واشنطن إنها تتعاون مع حلفائها الأكراد بصفةٍ أساسية، لاستهداف عناصر داعش عبر تقديم المشورة والمساعدة، كما تساعد القوات الأمريكية في حماية نحو 10 آلاف مقاتل سجين، وعشرات الآلاف من أفراد أسرهم -غالبيتهم من النساء والأطفال- الذين يقبعون في مخيمات اللاجئين البائسة.
لكن بعد مضي ثماني سنوات على وصول القوات الأمريكية إلى شمال شرقي سوريا، يقول النقاد إن احتمالات مغادرة واشنطن اليوم لا تختلف كثيراً عن احتمالات مغادرتها عندما كان تنظيم داعش في أوج قوته.
حيث قال روبرت فورد، السفير الأمريكي الأسبق لدى سوريا، في حديثه إلى موقع Middle East Eye البريطاني: "تُمثل منطقة شمال شرقي سوريا التعريف الأمثل للحرب الأبدية. ليست عمليةً باهظة التكلفة لعدم وجود خسائر في صفوف الأمريكيين، ولهذا تمر مرور الكرام. بينما يستمر الوجود الأمريكي هناك عاماً تلو آخر".
وبشكل عام، تمثل سوريا فشلاً ذريعاً للسياسة الخارجية الأمريكية على مدى أكثر من عقد من الزمان، وكان موقع Responsible Statecraft الأمريكي قد نشر تقريراً يتناول موقف الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن من الملف السوري، من منطلق أنه ورث أزمةً عمرها 10 سنوات ولا تزال تشكِّل تحدياتٍ استراتيجية وإنسانية حادة، راصداً أن "الإدارة الجديدة" لديها فرصةٌ لإعادة تقييم سياسة الولايات المتحدة إزاء سوريا، وإعطاء الأولوية للدبلوماسية لتعزيز المصالح الأمريكية.
لكن يبدو أن شيئاً من ذلك لم يحدث بعد أكثر من عامين ونصف من تولي بايدن المسؤولية، بل تتجه الأمور إلى مرحلة جديدة لا علاقة لها بالهدف الاستراتيجي الرئيسي لواشنطن وهو إزاحة نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
"استنزاف إيران وروسيا"
يأتي التبرير الرسمي للوجود الأمريكي بموجب تصاريح استخدام القوة العسكرية لعامي 2001 و2002، والتي مررها الكونغرس في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول. لكن محاولات بعض أعضاء الكونغرس لعرقلة العملية قد أخفقت في كسب التأييد، وذلك ضمن جهودهم الرامية إلى تقييد سلطات الرئيس في الحرب.
إذ تحدث الموقع البريطاني إلى أندرو تابلر، الزميل الأقدم في مركز أبحاث Washington Institute for Near East Policy، ومدير الشأن السوري السابق في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض. وقال تابلر: "يُعَدُّ الاحتفاظ بـ900 جندي في سوريا بمثابة تكلفة منخفضة للغاية مقابل قتل الأشرار من تنظيم الدولة الإسلامية ومنع روسيا، وإيران، ودمشق من تعزيز سيطرتهم على البلاد".
وهو ما يعني أن الولايات المتحدة أصبحت في مواجهةٍ ضد إيران وروسيا، اليوم. بينما قال بسام إسحاق، الدبلوماسي من مجلس سوريا الديمقراطية في واشنطن، للموقع البريطاني: "يتمثل السبب الوحيد لاحتفاظ الولايات المتحدة بوجودها داخل سوريا في تصريحها بأنها تحارب الإرهاب. لكن الغرض الأساسي من ذلك الوجود الآن هو استنزاف إيران وروسيا".
يُذكر أن بشار الأسد يسيطر على ثلثي الأراضي السورية حالياً بمعاونة موسكو وطهران. ومع قرب انتهاء الحرب الأهلية في بلاده، حوّل الأسد أنظاره الآن إلى محاولات العودة للحظيرة الإقليمية.
وقد عادت سوريا إلى الجامعة العربية، في إطار التحولات الكبرى بالمنطقة، بعد أن اتخذ وزراء خارجية دول الجامعة العربية قراراً بإعادة الدولة التي مزقتها الحرب إلى التكتل العربي، في نجاح لجهود التطبيع مع النظام السوري، والتي دفعتها الإمارات والسعودية بوتيرةٍ سريعة في الأشهر الأخيرة، مع فورة نشاط دبلوماسي ملحوظة، وحضر بشار الأسد القمة العربية الأخيرة في السعودية.
ويؤمن المحللون بأن أحد أهداف الأسد طويلة الأجل تتمثل في استرداد شمال شرقي سوريا، وهي منطقة خصبة تاريخياً وتضم حقول النفط الوحيدة في البلاد. كما يؤمن المحللون بأن دمشق وداعميها رفعوا وتيرة تحركاتهم ضد الولايات المتحدة لتحقيق ذلك الهدف.
"روسيا تدخل لعبة الحرب بالوكالة"
تحدث مسؤولون أمريكيون عن زيادة في عمليات التحليق الجوي الروسية فوق القواعد الأمريكية خلال الربيع الجاري. كما تتوخى واشنطن الحذر من وكلاء إيران. حيث قال كبير قادة الولايات المتحدة في المنطقة مؤخراً، إن إيران شنت 78 هجوماً على القواعد الأمريكية في سوريا، وذلك منذ يناير/كانون الثاني عام 2021.
وأوضح مايكل نايتس، خبير الميليشيات ومؤسس موقع Militia Spotlight، خلال حديثه إلى MEE: "تقول كل المؤشرات إن الميليشيات الإيرانية تستعد لنمطٍ أكثر عدوانية في هجماتها ضد الولايات المتحدة. وترى تلك الميليشيات أن لديها فرصة في طرد الولايات المتحدة من شمال شرقي سوريا".
ففي مارس/آذار، اصطدمت طائرة مسيرة انتحارية بقاعدة أمريكية في الحسكة بسوريا، لتقتل مقاولاً دفاعياً أمريكياً وتجرح ستة جنود.
وقال نايتس إن هجوم الطائرة المسيرة تصادف مع توقيت إنزال رادار المنشأة لإجراء أعمال الصيانة. ووصف نايتس الهجوم بأنه كان "متقدماً على نحوٍ خاص"، مشيراً إلى أن منفذي الهجوم كانت لديهم "معلومات استخباراتية محلية أو ربما دعم روسي من الأعلى".
وزادت المخاوف من أن القوات الأمريكية باتت معرضةً لخطرٍ أكبر بعد تقريرٍ صدر في يونيو/حزيران. إذ قال التقرير إن إيران وسوريا وروسيا تعزز تعاونها بهدف إخراج الولايات المتحدة من شمال شرقي سوريا، عن طريق استهداف خطوط الاتصال الأرضية بالقنابل المتطورة.
فيما قال نايتس: "يفكرون بجديةٍ شديدة في التفاصيل العملية التكتيكية للهجوم على مركبات هامفي وكوغار الأمريكية. وقد بدأت روسيا تدخل لعبة الحرب بالوكالة".
"ما يريده الأسد"
لكن فورد قال إن الولايات المتحدة عادةً ما تبالغ في تقدير أهمية شمال شرقي سوريا بالنسبة لدمشق وداعميها، ويؤمن بأن هذا العامل قد أسهم في انجراف الولايات المتحدة داخل المنطقة دون تحديد نهاية واضحة لوجودها.
حيث أوضح فورد: "يحافظ المسؤولون في واشنطن على قناعتهم بأن الوجود الأمريكي في شمال شرقي سوريا يمثل ورقة ضغط كبيرة. وربما يرغب الأسد والإيرانيون في استعادة المنطقة، لكنهم ليس بحاجةٍ إليها. إذ يستطيع الأسد النجاة بسيطرته على المراكز السكانية في غرب سوريا. كما أن الوجود الأمريكي لا يمنع الإيرانيين أو الروس من فعل ما يحلو لهم".
ثم أضاف أن "الغارات الجوية الإسرائيلية هي التي تؤذي إيران، وليس القوات الأمريكية المؤلفة من 900 جندي".
لكن تابلر يقول إن الوجود الأمريكي لم يكتسب أهميةً إلا بعد الحرب في أوكرانيا، وسط المؤشرات على زيادة التعاون بين طهران وموسكو. إذ أفاد للموقع البريطاني قائلاً: "أحياناً يكون الحرمان من الموارد أفضل ما يمكنك فعله. وإذا كنت ترغب في إحباط التحالف الروسي-الإيراني الجديد، فسوف تكتشف أن الوجود الأمريكي مهم".
ولا يتوقع الغالبية أن تغادر الولايات المتحدة في أي وقتٍ قريب. فعندما انسحبت القوات الأمريكية جزئياً من شمال شرقي سوريا في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2019، أثار ذلك انتقادات تقول إن الولايات المتحدة تتخلى عن حلفائها الأكراد.
وتنظر تركيا إلى قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة باعتبارها امتداداً لحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأنقرة كجماعةٍ إرهابية. كما تشعر إدارة بايدن بالحساسية تجاه الشكل الذي سيبدو عليه انسحاب أمريكي آخر من المنطقة، وذلك في أعقاب الانسحاب الفوضوي للقوات الأمريكية من أفغانستان.
لا نهاية تلوح في الأفق لوجود أمريكا في سوريا!
قال سام هيلر، خبير الشأن السوري في Century Institute ببيروت، للموقع البريطاني: "ليست هناك نهاية للوجود الأمريكي في سوريا، لكن هناك نظرة عامة تقول إن الانسحاب سيكون فوضوياً للغاية".
بينما يمكن تقليص الوجود الأمريكي بطرقٍ أخرى. إذ يعقد حلفاء واشنطن من الأكراد محادثات مع دمشق بشأن صفقة سياسية محتملة، لكن ليست هناك مؤشرات تُذكر على إحراز أي تقدم. ويشكك الباحثون في أن الأسد -ابن الأقلية العلوية السورية- سيحقق استفادةً كبيرة من منطقةٍ يهيمن عليها الأكراد والمسلمون السنة، كما يشككون في قدرته على أن يسيطر عليها.
وأوضح هيلر: "تتمثل الجائزة الكبرى بالنسبة لدمشق في عقد صفقة مع الأتراك. فهناك حدود لما تستطيع قوات سوريا الديمقراطية تقديمه لسوريا".
وبعد نجاح الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات الأخيرة وبداية ولاية رئاسية جديدة مدتها خمس سنوات، هناك اليوم مؤشرات على تطلُّعه للانضمام إلى المعسكر الإقليمي وإصلاح العلاقات مع نظام بشار الأسد. حيث التقى وزراء خارجية تركيا وسوريا وروسيا وإيران في موسكو الشهر الماضي، ضمن أرفع مستوى من المحادثات تجريه تلك الدول منذ اندلاع الحرب السورية.
لكن البعض يشعرون بالقلق حيال زيادة شعور واشنطن بالرضا عن النفس، بالتزامن مع دخول المهمة الأمريكية في شمال شرقي سوريا عامها الثامن. ويقول الخبير السوري بكلية أوبرلين محمود مسلاط، الذي ينحدر من عائلة بارزة في المنطقة، إن التوترات بين المجتمعات الكردية والعربية ستعني استمرار وجود مستوى من الاستياء دائماً. ويستطيع تنظيم الدولة الإسلامية استغلال ذلك الاستياء.
وأردف في حديثه إلى الموقع البريطاني: "لا تريد الولايات المتحدة أن تستمع إلى هذه الفكرة. بل تكتفي بإغداق الأموال على الشيوخ. والناس في حالة جوعٍ الآن، ولهذا يلتزمون الصمت".
"العرب السنة لا يثقون بالأكراد، والأكراد لا يثقون بالأتراك، ولا أحد يثق بالولايات المتحدة. لكن روسيا وإيران تتحدثان إلى الجميع، بينما تجلس الولايات المتحدة دون حراك"، بحسب مسلاط.