لا يزال الهجوم الذي نفذه شرطي مصري على نقطة حدودية مع إسرائيل وأسفر عن مقتل وإصابة 5 من جنود الاحتلال، غامضاً رغم وجود 3 روايات من الجانبين، فماذا حدث؟ وما تداعيات الحادث؟
كانت مصر وإسرائيل قد قالتا إن ثلاثة جنود إسرائيليين قد قُتلوا بالقرب من الحدود بين البلدين، السبت 3 يونيو/حزيران، في حادث نادر نفذه شرطي مصري من قوات حرس الحدود، فقد حياته خلال الاشتباك.
ورغم مرور يومين على الحادث، الذي وقع عند أول معبر حدودي تم افتتاحه بين مصر وإسرائيل في أعقاب توقيع اتفاقية السلام بينهما، فإن تفاصيل الحادث لا تزال غير واضحة، وقالت الدولتان إنهما فتحتا تحقيقاً مشتركاً في الحادث.
بيانات متضاربة بشأن الحادث وملابساته
كانت إسرائيل هي الطرف الأول الذي أعلن عن الحادث، بينما التزمت القاهرة الصمت لساعات طويلة قبل صدور البيان الأول بشأن الحادث. ومع توالي البيانات من الجانبين، يمكن القول إن هناك 3 روايات أساسية.
أولى هذه الروايات جاءت في بيان أصدره المتحدث العسكري المصري عبر صفحته الرسمية على فيسبوك، أعلن فيه عن مقتل 3 من عناصر التأمين الإسرائيلي وعنصر تأمين مصري جراء مطاردة عناصر تهريب مخدرات على خط الحدود الدولية مع تل أبيب.
"فجر اليوم، السبت، قام أحد عناصر الأمن المكلفة بتأمين خط الحدود الدولية بمطاردة عناصر تهريب المخدرات، وأثناء المطاردة قام فرد الأمن باختراق حاجز التأمين، وتبادل إطلاق النيران، مما أدى إلى وفاة 3 أفراد من عناصر التأمين الإسرائيلية وإصابة اثنين آخرين، إضافة إلى وفاة فرد التأمين المصري أثناء تبادل إطلاق النيران".
والرواية نفسها تناولتها أيضاً وسائل إعلام إسرائيلية نقلاً عن مصادر في جيش الاحتلال، لكن كانت روايات أخرى مختلفة. إذ نقلت صحيفة جيروزاليم بوست رواية عن متحدث باسم جيش الاحتلال، مفادها أن الشرطي المصري نفذ عملية استهداف لنقطة حراسة حدودية إسرائيلية كان يوجد بها عنصران من جيش الاحتلال، مجند ومجندة، قتلهما، وظل مختبئاً لمدة تقترب من 6 ساعات.
وبعد اكتشاف مقتل العنصرين، في أعقاب عدم ردهما على الاتصالات اللاسلكية، وصلت تعزيزات من جيش الاحتلال مصحوبة بطائرة مسيرة كشفت مكان الشرطي المصري، الذي تبادل إطلاق النار مع قوات الاحتلال فأردى عنصراً ثالثاً وأصاب اثنين آخرين قبل أن يفقد حياته. وبحسب تلك الرواية، فإن الشرطي المصري كان يحمل سلاحه العسكري من نوع كلاشينكوف ونسخة من القرآن الكريم.
أما عن كيف تمكن الشرطي المصري من اقتحام السور الحدودي، فقد زعمت تلك الرواية أنه تمكن من نزع جزء من السلك الشائك أو استخدم سلماً لتسلُّقه للعبور إلى الجانب الإسرائيلي من الحدود، وقتل العنصرين وانتظر حتى وصول مزيد من القوات واشتبك معهم.
إلا أن المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي كشف لاحقاً عن تفاصيل جديدة حول الحادث، قدم فيها رواية مختلفة لكيفية دخول الشرطي المصري الحدود الإسرائيلية والطريقة التي تم اكتشاف وجوده.
المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي قال إن الشرطي المصري لم يدخل الحدود من فتحة في السياج ولم يتسلقه، بل دخل من خلال ممر طوارئ مخصص لمرور القوات الإسرائيلية إلى الجانب المصري من الحدود في حالة الحاجة، بحسب ما نقلته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية: "نحو الساعة الـ4:15 صباحاً، كان هناك آخر اتصال مع الجنديين اللذين كانا في الموقع، وبعد 5 ساعات (نحو الساعة الـ9:00) عثر عليهما مقتولين".
كما أشار المتحدث إلى أن "طائرة مسيرة هي التي رصدت الشرطي لاحقاً، وكان على عمق كيلومتر ونصف داخل الحدود بعد تسلله، وبدأت المواجهة وتبادل إطلاق النار معه".
روايات إسرائيل ومصر.. كثير من الأسئلة بلا إجابات
لكن الروايات الثلاث تحمل ثغرات واضحة، أولاها أين كان جيش الاحتلال طوال الساعات الست تقريباً التي تفصل بين مقتل الجنديين ووصول تعزيزات وتبادل إطلاق النيران مع الشرطي المصري والذي نتج عنه مقتل وإصابة 3 جنود إسرائيليين آخرين، واستشهاد الشرطي المصري خلال تلك المواجهة؟
أين كان الشرطي المصري مختبئاً طوال تلك الساعات؟ وهل لم يلفت غيابه عن نقطة تمركزه زملاءه وقيادة نقطة الحراسة المتمركز فيها؟ الأسئلة كثيرة ولم تقدم البيانات الرسمية من الجانبين، إسرائيل ومصر، إجابات محددة لها، وذلك بعد مرور أكثر من 36 ساعة على وقوع الاشتباك.
صحيفة Haaretz الإسرائيلية نشرت تقريراً يركز على تداعيات هجوم الحدود المصرية، قائلةً إنه "يفضح الضعف في استعداد الجيش الإسرائيلي وقصور تجهيزاته"، حيث نقلت عن السلطات الإسرائيلية وصفها للهجوم بأنه حدث خطير وشاذ سواء في ظروفه أو في نتائجه التي شهدت وقوع عدد معتبر من القتلى. فالهجمات المشابهة على هذه الحدود قليلة إذا قورنت بالحدود الأخرى لإسرائيل، ولم يشهد العقد الماضي هجمات شنَّها فرد أمن مصري على جنود إسرائيليين.
وتثير التفاصيل الأولية التي قدمها الجيش الإسرائيلي عدة أسئلة. فقد قُتل الجنديان (المنتميان إلى كتيبة المشاة المختلطة "بارديلاس") في بداية العملية وهما في موقع حراسة منعزل عن بقية القوات وبمنأى عنها. وبالتالي فإن تحقيق جيش الاحتلال يركز في أحد جوانبه على معرفة ما إذا كان عدد جنود الخدمة في المنطقة كافياً؛ وما إذا كانت النوبات طويلة إلى حد يعجز معه الجنود عن البقاء متأهبين طوال الوقت.
إذ صرح جيش الاحتلال الإسرائيلي بأن الرقيب ليا بن نون، والرقيب أول أوهاد دهان كانا في وردية خدمة مدتها 12 ساعة، لكن هذه ليست الثغرة الوحيدة، فالتأخر في وجود رد فعل يقترب من 6 ساعات يمثل علامة استفهام كبيرة أخرى، فما الوقت المنقضي حتى إرسال وردية التحقيق إلى موقع الحراسة بعد انقطاع الاتصال مع الجنديين؟
من جهة أخرى، جرت العادة في الحوادث المماثلة على حدود إسرائيل مع الأردن أو مصر، بأن تتهم عمّان أو القاهرة الشرطي أو الجندي الذي قام بالعملية بأنه "مختل عقلياً"، لكن هذه الحجة ضعيفة التفسير في غالب الأحيان. وتزعم صحيفة Haaretz الإسرائيلية أن التفسير الأقرب إلى المنطق أن المهاجم قد تأثر بدعوات تشدد أيديولوجية من منظمات متشددة، أو أن دافعه التضامن مع المقاومة الفلسطينية للاحتلال.
كما يتتبع المحققون مساراً آخر يأتي فيه الهجوم في سياق الانتقام لإحباط عملية تهريب مخدرات. فقد تصدى جيش الاحتلال قبل نحو ثلاث ساعات من الهجوم لمحاولة تهريب مخدرات (تقدر قيمتها بنحو 400 ألف دولار أمريكي) عبر الحدود، وعلى بعد ثلاثة كيلومترات شمال الموقع الذي تعرض للهجوم. وهؤلاء المهربون مسلحون وكثيراً ما أطلقوا النار على الجنود الذين تعرضوا لهم. لكن ذلك يتعارض مع حقيقة أن الجاني كان فرداً في قوات الأمن المصرية، ما يرجح أن مهاجمة الجنود الإسرائيليين هي الدافع الأساسي وراء هذا الهجوم.
هل يؤثر الحادث على علاقات مصر وإسرائيل؟
على الرغم من التنسيق الأمني الوثيق والصداقة العلنية في السنوات الأخيرة بين تل أبيب والقاهرة، فإن الهجوم قد كشف عما يصفه الإسرائيليون حالياً بالثغرة: وهي أن الحدود في هذا القطاع طويلة، والقوات المنتشرة قليلة، والاستخبارات ضعيفة التأهب، ومن ثم يُمكن لمهاجم حازم التدبير أن يخترق الحدود بسهولة ويترك وراءه قتلى وجرحى.
ومنذ أن وقع الهجوم، تجري محادثات مكثفة بين المسؤولين العسكريين الإسرائيليين والمصريين لإعادة الهدوء على الحدود، وتحديد ما إذا كان أي شخص قد ساعد فرد الأمن في التخطيط للعملية أو أُخبر بها قبل وقوعها.
إضافة إلى ذلك، فإن التعاون مع مصر له حدود معينة، والقوة المتعددة الجنسيات والمراقبين الذين تقودهم الولايات المتحدة في سيناء ليس منها فائدة تُذكر. ومن ثم إذا كانت هذه العملية تُنذر بأن الأمور تتجه نحو مزيد من الاضطراب، فربما يتجه جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى زيادة الموارد والمعدات المخصصة لتأمين هذه المنطقة، وربما حتى الاستعانة بقوات أعلى تدريباً، ولو لمدة محدودة على الأقل.
أما على المدى الطويل، فربما تقتضي هذه العملية مراجعة تدابير الدفاع الإسرائيلية بأكملها، والنظر فيما إذا كانت القوات والمراكز ووسائل المراقبة متوازنة الانتشار على طول هذه الحدود، لا سيما أنها أطول من بقية المناطق الحدودية الإسرائيلية (السياج يبلغ طوله نحو 240 كيلومتراً).
وفي هذا السياق، غالباً ما تصدر عن اليمين الإسرائيلي فور وقوع هذه العمليات آراء ضعيفة الحجة وتكاد تكون آلية، فقد سارع داني دانون، سفير إسرائيل السابق لدى الأمم المتحدة وعضو لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست عن حزب الليكود، إلى التصريح بالادعاء المعتاد في هذه الأحوال، وكتب على موقع تويتر: "يجب أن تتغير قواعد الاشتباك في الحال. فالسفسطة القانونية تقيِّد أيدي المقاتلين الذين يدافعون عن الوطن، وتكلفنا ثمناً باهظاً"، لذا "يجب أن نضع حداً لهذا".
والحقيقة هنا هي أن المعلومات الواردة في هذه التصريحات لا أساس لها، فصحيحٌ أن مهربي المخدرات يعملون في المنطقة، وبعضهم يطلقون النار أحياناً على قوات الجيش لمنعها من التحرك حتى اكتمال عملية التهريب، ولكن بمجرد إطلاق النار على الجنود فإن لديهم السلطة الكاملة للرد على المهاجمين، وإطلاق النار عليهم بهدف القتل، دون التحري عما إذا كان مطلق النار مهرباً أم مهاجماً له أهداف أخرى.
السؤال الآخر الذي يواجهه الجيش الإسرائيلي هو تحديد ما إذا كان الخطر على طول الحدود المصرية قد ازداد إلى حدٍّ يستدعي نشر قوات أعلى تجهيزاً. علاوة على ذلك، صار من الواضح منذ سنواتٍ أن المخابرات الإسرائيلية باتت أقل اهتماماً بالحدود المصرية وأنها تصرف مواردها ومعداتها التكنولوجية إلى المناطق المضطربة عند حدود لبنان والأراضي المحتلة، فهل تشير هذه العملية إلى ضرورة زيادة التدابير الموجهة إلى الحدود المصرية؟
كما أن السياج المرتفع وصعب التسلق الذي أقيم على الحدود المصرية منذ أكثر من عقد من الزمان، وإن كان يخدم الغرض منه -بإيقافه تدفق طالبي اللجوء والمهاجرين لأسباب اقتصادية من إفريقيا- إلا أنه ليس محكم الإغلاق.
والدليل على ذلك أن شبكات التهريب البدوية على جانبي الحدود كثيراً ما تنجح في تجاوز تدابير الجيش والشرطة. وقد يؤدي نجاح هذه العملية إلى محاولات أخرى لتقليدها، وإرسال مهاجمين إلى إسرائيل من قطاع غزة عبر سيناء، أو اختطاف جندي على الحدود.
الخلاصة هنا هي أن هذا الحادث النادر على الحدود المصرية الإسرائيلية ستكون له تداعيات كبيرة على طبيعة الوجود الإسرائيلي في المنطقة، أما تأثيره على العلاقات بين تل أبيب والقاهرة فلا يبدو أنه سيكون سلبياً؛ في ظل التعاون بين الجانبين والتحقيق المشترك الذي يجري حالياً. إذ قال جيش الاحتلال ومصدران أمنيان مصريان لـ"رويترز"، إن مسؤولين من مصر وإسرائيل يحققون في الواقعة بتعاون كامل.