تكشف التسوية التي تم التوصل إليها بشأن صفقة سقف الديون الأمريكية عن تشوهات كبيرة في أولويات أغنى بلد في العالم.
ولم يكن أهم موضوع في الشؤون الدولية في الأسابيع القليلة الماضية هو الحرب في أوكرانيا، أو العلاقات المشحونة بين الغرب والصين، أو الانتخابات التركية، أو حتى الخطر الوجودي المتمثل في تغير المناخ والاحتباس الحراري.
كان أهم موضوع هو الصراع الغامض بين الديمقراطيين والجمهوريين حول رفع سقف ديون الولايات المتحدة، وهو مقدار الأموال التي سيسمح الكونغرس للحكومة الفيدرالية الأمريكية باقتراضها من أجل خدمة الالتزامات المالية المُتعاقَد عليها مسبقاً.
تعثر الاتفاق على سقف الديون الأمريكية كان سيسبب أزمة كبيرة
توصَّل قادة الجانبين، الرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيس مجلس النواب كيفين مكارثي، إلى اتفاق مبدئي خلال عطلة نهاية الأسبوع، لبدء الإصلاح لمدة عامين. يأمل الأمريكيون فقط في إمكانية جمع عدد كافٍ من الأصوات بين الحزبين بسرعة كافية للحاق الموعد النهائي، في 5 يونيو/حزيران، الذي أعلنته وزيرة الخزانة جانيت يلين، ذلك الموعد الذي ستكون بعده الولايات المتحدة- التي كانت أكبر مُقرِض في العالم سابقاً- متخلفةً عن السداد.
يأمل الجميع في تصويت سريع، حيث إن التخلف عن السداد من شأنه أن يوجه ضربة مدمرة للاقتصاد الأمريكي والثقة في قيادة البلاد، سيمنع مدفوعات الضمان الاجتماعي من الخروج إلى المتقاعدين، وربما يأخذ جزءاً كبيراً من الثروة العامة من خلال انخفاض سوق الأوراق المالية وأدوات الاستثمار، أما أوروبا، التي يرتبط اقتصادها ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتحدة، فستتضرر بشدة من النكسات العكسية، ما يؤدي إلى تدمير الثروة على نطاق هائل هناك أيضاً.
الضرر الذي قد يتعرض له الاقتصاد العالمي قد يصل حتى لأكبر خصوم الولايات المتحدة.
في الواقع لم يُكشَف مَن هم الضحايا المحتملون لهذه الأزمة إن وقعت.
سيكونون مليارات الأشخاص في الجنوب العالمي، الذين سيتضررون من أزمة التخلف عن السداد في الولايات المتحدة، على الأقل بنفس السوء الذي كانوا عليه أثناء الصدمات المزدوجة للغزو الروسي لأوكرانيا وجائحة كوفيد-19، التي لا يزال معظمهم يعانون من جرّائها.
تفاصيل صفقة سقف الدين الأمريكي تكشف عن انحلال النظام في أغنى دولة بالعالم
على هذه الخلفية، فإن التسوية المقترحة في حد ذاتها ليست بأي حال من الأحوال شيئاً يجب أن يُلهم الثقة في دور أمريكا الرائد في العالم. في الواقع هي لائحة اتهام قاسية.
لا يتعلق الأمر بالطبيعة المصطنعة والذاتية بشكل أساسي للأزمة، حيث اتخذ الكونغرس روتيناً متناقضاً يتمثل في تمرير ميزانية سنوية، والمطالبة بشكل منفصل بموافقته على مدفوعات الديون على نفس النفقات التي سمح بها.
يدور الحديث هنا على ما تقوله تفاصيل الحزمة عن الانجراف الواضح بشكل متزايد وانحلال النظام الأمريكي نفسه، كانت الصحافة الأمريكية مليئة مؤخراً بمقالات تحفيزية حول قوة البلاد ومرونتها العظيمة واستمرار ثروتها وقوتها، ومع ذلك، وبطرق تتجاوز المقارنات الإحصائية السهلة، فإن صفقة سقف الديون تعج بعلامات مقلقة للغاية.
النظام الضريبي الأمريكي يتعرض للهجوم من الأثرياء
بُرِّرَ الدعم المتزايد لدائرة الإيرادات الداخلية في الولايات المتحدة بشكل عقلاني من خلال سنوات من تراجع فاعلية الوكالة في توفير خدمة العملاء الأساسية- أي معالجة الإقرارات الضريبية للمواطنين بسرعة- ولكن أيضاً في البحث عن حالات الغش، وخاصة الجزء الثري نسبياً من الجمهور، الذين يهربون بصورةٍ كبيرة من التدقيق عن كثب. في الأشهر الأخيرة خرج السياسيون الجمهوريون والمتحدثون البارزون عبر شاشات التلفزيون الأمريكية وهم يتحدثون عن دائرة الإيرادات الداخلية، كما لو كان يعمل بها أفراد عصابات من شيكاغو منذ ثلاثينيات القرن الماضي، هدفهم هو ابتزاز الأموال منهم.
لا يستمتع أحد بالاضطرار إلى تسليم جزء كبير من دخله إلى سلطات الضرائب، لكن هذا لا يتعلق بالأشخاص العاديين. إن زيادة فاعلية ونزاهة دائرة الإيرادات الداخلية الأمريكية تتعلق بأمرين أساسيين، الأول هو الحفاظ على واحدة من أهم القدرات الأساسية لأي دولة تعمل بشكل جيد، وهي تحصيل الضرائب. والثاني، وهو أكثر أهمية، هو الحفاظ على شرعية النظام الضريبي من خلال التأكد من أنه لا يمكن التلاعب به بسهولة، وأن أولئك الذين يمتلكون أكثر الوسائل نفاذاً غير قادرين على تجنب وصوله إليهم.
المشرّعون اتفقوا على التوسع في تمويل الجيش الأمريكي، فيما يستمر في بناء أسلحة فاشلة
وفيما يتعلق بمسألة حيوية أخرى، وهي الإنفاق العسكري، يبدو أن الطرفين كانا قادرين على التوصل إلى اتفاق بسهولة أكبر، ولكن بدلاً من إعادة التأكيد على كيفية عمل النظام فإن الإجماع بين الحزبين- والذي يبدو أنه يشترك في الاعتقاد بفكرة أن الإجابة على كل تحدٍّ أمني للولايات المتحدة هي المزيد من المال- هو في الواقع علامة أخرى على وجود خلل وظيفي عميق. يمكن دائماً تقديم الحجج المعقولة لنفقات الميزانية الجديدة لوزارة الدفاع.
إن التنافس بين الولايات المتحدة والقوى العالمية الأخرى على القوة والنفوذ يتغير طوال الوقت، مع دخول مجالات معقدة جديدة حيز التنفيذ الآن، والتي نادراً ما كانت موجودة حتى قبل خمس إلى عشر سنوات مضت. فكر في السرعة المتزايدة لعسكرة الفضاء، والحرب الإلكترونية، والذكاء الاصطناعي، والأسلحة التي تفوق سرعة الصوت، والعدوان الروسي في أوكرانيا، والتنافس مع الصين في البحر، وغير ذلك الكثير.
لقد أصبح تساهل الحزبين طويل الأمد مع وزارة الدفاع يعني أن الإنفاق على أنظمة الأسلحة الفاشلة أو التي عفى عليها الزمن أو التبديدية يكاد يكون من المستحيل التحقق منه. هنا يمكن أن نسرد قائمةً طويلة، فكّر في السفينة القتالية الساحلية، التي تم الترويج لها على أنها سفينة حربية ذات دويّ عالٍ للمستقبل، عندما تم تكليف أول سفينة في عام 2008، ولكن التقييم الخاص للبحرية بعد أربع سنوات كان: "غير مناسبة للعمليات القتالية ضد أي شيء ما عدا القوارب الصغيرة والسريعة والمسلحة الخفيفة". وأفادت التقديرات المبكرة بأن تكلفتها المتوقعة عند 220 مليون دولار لكل سفينة، وبحلول عام 2011، ارتفعت تكلفة الوحدة إلى 1.8 مليار دولار.
إن النهج المسرف من الحزبين لتمويل الجيش هو في نهاية المطاف قصير النظر، لأنه يقوم على الاعتقاد بأن الأجهزة هي أهم مصدر لقوة الدولة، والأساس النهائي لمكانتها في العالم. عندما توصل المفاوضون إلى اتفاق، على أن الكونغرس سيصوت عليه هذا الأسبوع، ونأمل في الوقت المناسب لتجنب التخلف عن السداد، وجدت هذه الحقيقة تعبيراً في المكان الذي قُدِّمَت به أكبر التنازلات.
التنازلات لإتمام الصفقة جاءت على حساب التغير المناخي وقسائم الطعام
أصبحت المعركة ضد تغير المناخ خاسرة- وقد كانت أحد التحديات الوجودية التي يواجهها الناس في كل مكان الآن- أمام مشروع خط أنابيب جديد في ولاية فرجينيا الغربية وشيء يُطلق عليه اختصاراً السماح بالإصلاح، وهو ما يعني السماح لمشاريع النفط والغاز الأخرى بالمضي قدماً بسرعة أكبر نحو التنمية.
في غضون ذلك، روج آخرون لفرض متطلبات العمل المتزايدة لأشياء مثل قسائم الطعام وأشكال أخرى من الدعم العام، وهو انعكاس لدرجة من الدناءة التي تُعد فيها الولايات المتحدة غريبة بين أغنى بلدان العالم. هذا بصرف النظر عن أن مثل هذه الإجراءات من غير المرجح أن توفر الكثير من المال.