تحدثت مصادر عن انسحاب الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان من محادثات الهدنة مع الدعم السريع بقيادة حميدتي، بوساطة السعودية وأمريكا، فماذا يحدث؟ وما تأثير هذا التطور على القتال في السودان؟
كان السودان قد شهد، منذ يوم 15 أبريل/نيسان 2023، انفجاراً عنيفاً في الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد، الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
الوساطة السعودية-الأمريكية، التي انطلقت في جدة قبل 3 أسابيع بين وفدي المعسكرين المتصارعين على السلطة في السودان، كانت قد أدت إلى الاتفاق على هدنة مؤقتة دخلت حيز التنفيذ مساء الإثنين 22 مايو/أيار وانتهت بعد أسبوع، ثم تم الإعلان الثلاثاء 30 مايو/ أيار عن تمديدها لأسبوع آخر.
انسحاب الجيش السوداني من مفاوضات الهدنة
صحيح أن الهدنة، التي لا تهدف إلى تسوية الصراع سياسيا بشكل دائم وإنما تمت لأغراض إنسانية فقط، لم ينتج عنها توقف إطلاق النار بشكل تام، إلا أن حدة القتال في الخرطوم كانت قد تراجعت بشكل لافت، وهو ما أعطى بارقة أمل أن يتم احتواء الصراع ومنعه من التحول إلى حرب أهلية ممتدة.
لكن الأربعاء 31 مايو/ أيار حمل أنباء غير مبشرة بالمرة، حيث تحدثت تقارير إعلام محلية عن تعليق الجيش السوداني مشاركته في مفاوضات جدة، دون أن تصدر بيانات رسمية تنفي أو تؤكد تلك الأنباء.
مصدر دبلوماسي سوداني ذكر لرويترز أن الجيش علق المحادثات مع قوات الدعم السريع حول وقف إطلاق النار وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وهو ما أثار مخاوف من أن يواصل الصراع، الذي اندلع منذ أكثر من ستة أسابيع، إراقة الدماء.
كانت تلك المحادثات قد بدأت بين طرفي الصراع في أوائل مايو/ أيار وأسفرت عن التوصل إلى إعلان مبادئ ينص على الالتزام بحماية المدنيين. كما أفضت إلى اتفاق الطرفين على وقف إطلاق النار لفترتين قصيرتين لكن تقارير ذكرت أنهما انتهكاه مرارا.
أبرز بنود تلك الهدنة تعلقت بعدم سعي أي من الطرفين إلى تحقيق مكاسب ميدانية خلالها، أما البنود الأخرى فتعلقت بالجوانب الإنسانية وعدم عرقلة وصول المساعدات إلى محتاجيها أو نهب تلك المساعدات، مع وجود آلية لمراقبة الالتزام بوقف إطلاق النار من خلال ممثلين من السعودية وأمريكا وطرفي الصراع.
وكانت فيكتوريا نولاند، وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية، قد قالت، قبيل التوصل إلى الهدنة الأسبوع الماضي، إن المفاوضين الأمريكيين "يشعرون بتفاؤل حذر" إزاء الحصول على التزام بالمبادئ الإنسانية ووقف لإطلاق النار، لكنهم يدرسون أيضاً الأطراف التي يمكن استهدافها بالعقوبات ما لم يوافق الفصيلان المتحاربان على ذلك.
وتسعى أمريكا حاليا للمساهمة في احتواء الصراع، من خلال الوساطة السعودية التي تنخرط فيها واشنطن ومن خلال التلويح بعقوبات على من لا يلتزم بوقف إطلاق النار، فيما يراه أغلب المراقبين سعيا أمريكيا لإنقاذ مصالحها في المنطقة، على الرغم من أن سياسات أمريكا لعبت دورا رئيسيا فيما وصلت إليه الأمور في السودان، فكيف حدث هذا؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية كانت قد قدمت إجابة مباشرة عن هذا السؤال في تحليل لها بعنوان "السياسات الأمريكية مهّدت الطريق للحرب في السودان"، رصد كيف فوّتت واشنطن وحلفاؤها الغربيون الفرصة على السودانيين الطامحين إلى التخلص من الحكم العسكري، من خلال التركيز على المصالح الغربية الضيقة في اللحظات الحاسمة.
على أية حال، مراقبة وقف إطلاق النار في السودان لا تعني إرسال مراقبين أمريكيين أو سعوديين إلى السودان فعليا، وإنما تتم عملية المراقبة عبر الإنترنت، وهو ما قد يفسر عدم الالتزام الفعلي بالوقف التام لإطلاق النار، إضافة إلى صعوبة تحديد الطرف البادئ بعملية اختراق الاتفاق وإطلاق النار أولا أو السعي لتحقيق مكاسب على الأرض.
ماذا يعني ذلك لصراع السودان؟
قال سكان لرويترز إن اشتباكات عنيفة اندلعت في جنوب العاصمة الخرطوم وفي مدينة أم درمان المقابلة لها على الضفة الأخرى من نهر النيل حتى وقت متأخر مساء الثلاثاء.
ويعتمد الجيش على القوات الجوية والمدفعية، بينما تتفوق قوات الدعم السريع بسلاحها الخفيف في المعارك الدائرة في شوارع الخرطوم. واتفق الجانبان على تمديد وقف إطلاق النار الذي استمر أسبوعا لخمسة أيام أخرى قبيل موعد انتهائه الذي كان مقررا مساء الاثنين.
تشهد الخرطوم ومنطقة العاصمة الكبرى القتال الأعنف، وامتدت الاشتباكات إلى في مناطق أخرى مثل إقليم دارفور في أقصى غرب البلاد. وتعرضت مناطق في العاصمة لأعمال نهب كبيرة وتعاني من انقطاع متكرر للكهرباء والمياه. وتوقفت معظم المستشفيات عن العمل.
ونقلت الأمم المتحدة وبعض وكالات الإغاثة وسفارات وبعض هيئات الحكومة المركزية السودانية عملياتها إلى بورتسودان بولاية البحر الأحمر، وهي مركز شحن رئيسي ولم تشهد اضطرابات تذكر.
وفي وقت متأخر من مساء الثلاثاء، قالت قوات الدعم السريع في بيان إنها ملتزمة بوقف إطلاق النار "على الرغم من الانتهاكات المتكررة" من جانب الجيش.
وقبل الإعلان عن تمديد اتفاق وقف إطلاق النار، قال مصدر عسكري لرويترز إن الجيش اشترط انسحاب قوات الدعم السريع من المباني السكنية والمستشفيات لتمديد الاتفاق، واستمرت المحادثات حول شروط الهدنة بعد تمديد وقف إطلاق النار لخمسة أيام.
السعودية والولايات المتحدة تراقبان تنفيذ وقف إطلاق النار عن بعد، وقال البلدان إن طرفي الصراع انتهكا الاتفاق لكنهما سمحا بوصول المساعدات إلى ما يقدر بنحو مليوني شخص. وتسبب الصراع في مقتل المئات ونزوح ما يقرب من 1.4 مليون شخص من ديارهم ومن بينهم ما يربو على 350 ألف شخص عبروا الحدود إلى بلدان مجاورة.
وتداولت وسائل إعلام سودانية، الأربعاء، أنباء عن تعليق الجيش مشاركته في مفاوضات جدة بالسعودية، ففي خبر مقتضب، ذكر موقع "الراكوبة أون لاين" المحلي (خاص)، أن الجيش السوداني علق مشاركته في مفاوضات جدة. ونقل نفس المعلومة، موقعا صحيفتي "الجريدة" و"راديو دبنقا"، فيما لم يصدر تعليق رسمي من الأطراف الرسمية المنخرطة في المفاوضات.
رواية الجيش ورواية الدعم السريع
على الرغم من أن الجيش السوداني لم يصدر بيانا ينفي أو يؤكد تعليق مشاركته في المفاوضات، إلا أن المصادر المحسوبة على القوات المسلحة السودانية تحدثت، لوسائل إعلام محلية وإقليمية، عن إحباط البرهان وباقي قيادات الجيش من عدم وجود ضغط كاف على قوات الدعم السريع للخروج من الأحياء السكنية، حيث يتمركزون.
فمنذ بدأت الاشتباكات، أخلت قوات الدعم السريع معسكراتها في ولاية الخرطوم أو أجبرت على الانسحاب منها، وانتشرت تلك الميليشيات المسلحة بشكل مكثف وسط الأحياء السكنية واستولت على مستشفيات ومراكز مدنية أخرى، حتى تفوت على الجيش استخدام أبرز نقاط قوته وهو سلاح الطيران.
ويتبادل الجانبان الاتهامات بشأن استهداف المدنيين والمنشآت المدنية، حيث تتهم قوات الدعم السريع، التي يصفها الجيش بأنها "متمردة"، الجيش بقصف المناطق المدنية بالطائرات والمدفعية الثقيلة، وهو ما ينفيه الجيش متهما الدعم السريع بأنهم يتخذون من الأحياء السكنية والمنشآت المدنية دروعا يحتمون بها وينطلقون منها لمهاجمة معسكرات الجيش.
ومن المستحيل تقريبا التأكد من مدى دقة أي من الروايتين بطبيعة الحال، لكن الواضح هو أن طرفي الصراع يبذلان أقصى ما بوسعهما لحسم معركة الخرطوم بشكل كامل، وتبدو كفة الجيش أرجح في ظل السيطرة الجوية المطلقة، لكن ذلك لا يعني أن الدعم السريع في موقف ضعيف لدرجة الاستسلام أو الفرار، حيث من يهرب منهم يتعرض للإعدام، لا بأيدي الجيش وإنما بأيدي قادة الدعم السريع أنفسهم.
ويكثف الدعم السريع هجماته على قاعدة وادي سيدنا الجوية، التي يبذل الجيش السوداني كل ما في وسعه حتى لا يفقد السيطرة عليها، لأنها مفتاح لاستراتيجيته العسكرية المتمثلة في قصف قوات الدعم السريع من الجو، بينما يقاتل لاستعادة السيطرة على الخرطوم والمدينتين الأخريين. وبالتالي فإنه أمر أساسي لتلك الاستراتيجية أن تظل السيطرة على القاعدة للجيش قبل أن يدخل أي وقف لإطلاق النار حيز التنفيذ.
فقاعدة وادي سيدنا الجوية، التي تقع شمالي أم درمان، على بعد 22 كلم من مركز العاصمة السودانية الخرطوم، تضم مطاراً مدنياً، وبالمحاذاة منها تقع الكلية الحربية بمعاهدها المتخصصة مثل المشاة والمظليين، وأيضاً "مجمع الصافات للتصنيع العسكري"، المتخصص في الصيانة والصناعة والتطوير والتحديث لمختلف أشكال الطائرات المدنية والعسكرية.
وتلعب قاعدة وادي سيدنا الجوية، الدور الأبرز في هجمات الجيش على قوات الدعم السريع، وخاصة معسكرات القوات داخل الخرطوم الكبرى (نحو 11 معسكراً)، ونقاط تمركزها بالمحاور الاستراتيجية وبالأخص رؤوس الجسور، التي تربط مدن العاصمة الثلاث (الخرطوم، خرطوم بحري، أم درمان).
والقاعدة مؤمنة شرقاً عبر نهر النيل، وأقرب جسر منها للعبور من ضفة خرطوم بحري إلى ضفة أم درمان يقع جنوب المنطقة العسكرية بوادي سيدنا، ويدعى جسر حلفايا، ويخضع لسيطرة الجيش، ما يصعب أكثر من قدرة قوات الدعم السريع على المناورة لاستهداف القاعدة الجوية.
الخلاصة هنا هي أن تلويح الجيش بالانسحاب من مفاوضات الهدنة في جدة ربما يكون ورقة ضغط حتى يضمن مراقبة أكثر صرامة لمدى التزام الدعم السريع ببنود الهدنة الإنسانية وربما إجبار تلك القوات على الخروج من المناطق السكنية وهو ما يمثل ميزة ميدانية هامة للجيش، الذي يمتلك سلاح الطيران.