هل تريد الصين حقاً أن تصبح عملتها اليوان بديل الدولار في الهيمنة على الاقتصاد العالمي؟ قد تكون إجابة هذا السؤال مفاجئة في ظل التقارير المتوالية عن جهود بكين لإحلال عملتها محل الدولار، وتعاون بعض الدول مثل روسيا وحتى السعودية حليفة واشنطن مع بكين في هذا الاتجاه!
واحتدم الجدل الدائر حول إلغاء الدولرة على مدار العام الماضي، بعد أن تأججت الفكرة بسبب استخدام واشنطن للنظام المالي العالمي -الذي يُهيمن عليه الدولار- كسلاح ضد روسيا نتيجة الحرب الأوكرانية، وقبل ذلك ضد دول مثل إيران.
وبناءً عليه، بدأت مختلف الدول في تكديس العملات غير الدولارية والأصول البديلة، من أجل استخدامها في التجارة وتخزينها كاحتياطيات.
وهنا يأتي دور اليوان الصيني.
إذ تحظى العملة الصينية بلحظتها تحت الأضواء الآن، بصفتها المنافس المحتمل لنظام المدفوعات العالمي الذي يهيمن عليه الدولار الأمريكي. وقد أبرمت الصين صفقات مع دول مثل روسيا، بالتزامن مع تطلعها لتوسيع استخدامات عملتها دولياً. ولا يمثل اليوان العملة الوحيدة المنافسة للعملة الخضراء، لكنه يظل المنافس الأشهر في ظل التوترات الأمريكية-الصينية وتحالف بكين مع روسيا في الحرب.
ومع ذلك، سيكون من الصعب على أي أصل أو عملة أن تطيح بالدولار الأمريكي من عرشه. وفي الوضع الراهن، سنجد أن استخدام عملة اليورو يحل في المرتبة الثانية بعد العملة الخضراء، وبفارقٍ كبير.
والأهم من ذلك أن بكين نفسها لا تريد أن يتحول اليوان إلى عملة احتياطية كبيرة في العالم، بحسب تصريح خبير في الاقتصاد الصيني لموقع Business Insider الأمريكي.
لماذا لا تريد الصين أن تجعل اليوان بديل الدولار؟
تقرير لموقع Business Insider الأمريكي عرض ثلاثة أسباب لعدم رغبة الصين في إلغاء دولرة الاقتصاد العالمي وعدم جعل اليوان بديل الدولار في الوقت الحالي على الأقل.
لا تريد الصين السماح للأموال أن تدخل وتخرج من اقتصادها بدون قيود
تبدو الصين حريصةً على زعزعة الهيمنة الأمريكية العالمية، لكنها تود فعل ذلك بشروطها وفقاً لروري غرين، كبير خبراء الاقتصاد الصيني في شركة TS Lombard الاستشارية بلندن.
إذ كتب غرين في مذكرةٍ بتاريخ 28 أبريل/نيسان إن بنك الشعب الصيني تحرّك بحذرٍ على مدار العقد الماضي، من أجل الترويج لاستخدام اليوان بدرجةٍ أكبر دون الإخلال بالأمن المالي، ومن المستبعد أن تحاول الصين إفساد تلك الديناميكية الآن.
ويجري الحفاظ على هذا الاستقرار من خلال استخدام ضوابط رأس المال، التي تُحكم السيطرة على حجم الأموال التي تدخل وتخرج من الاقتصاد الصيني، مما يؤثر بدوره على أسعار صرف العملات الأجنبية.
وتميل سياسة بكين إلى فرض تلك الضوابط في المعتاد، لأنها تعتبرها شروطاً مسبقة أساسية لصياغة سياسة نقدية مستقلة وذات سيادة بحسب غرين.
ونتيجةً لتلك الضوابط، يقول غرين إن "بكين لن تتمكن من تحرير حسابها الجاري بالكامل مطلقاً، لكنها ستظل قادرةً على الاستمرار في تدويل الرنمينبي".
ومن المرجح أن تسعى بكين لبناء نطاق نفوذ عملتها لدى الدول التي تتعاون معها تجارياً بشكلٍ نشط، بدلاً من الضغط لتحويل اليوان إلى عملة الاحتياطي العالمي المُهيمنة. كما رجّح غرين في حديثه إلى الموقع الأمريكي أن بكين ستركز على تفكيك هيمنة الدولار الأمريكي داخل بعض أجزاء العالم في المقابل.
ومع ذلك، فقد تكون هناك مساحة للمناورة في موقف بكين.
إذ قال أبيشور براكاش، الرئيس التنفيذي لشركة The Geopolitical Business الاستشارية الكندية، خلال حديثه إلى الموقع الأمريكي: "لطالما كان خيار تغيير الصين لضوابط رأس المال قائماً. لكن السؤال الذي يدور في خلد بكين هو ما إذا كانت البيئة العالمية ستدعم هذا الأمر أم لا -وهل هناك ما يكفي من الدول التي ستتبنى اليوان؟ ستكون إجابة هذا السؤال اليوم هي نعم، بالتزامن مع إبرام العديد من الدول لاتفاقيات من أجل استخدام اليوان بالفعل، مما يمنح الصين الإشارة التي تحتاجها لتغيير توجهها".
يصعب عليها تحمل تكلفة عجزٍ مالي مستمر مثل الولايات المتحدة
تأتي مكانة وهيبة الدولار الأمريكي كعملة احتياطية مقابل ثمن يجب دفعه -ويتمثل في عجز الحساب الجاري الأمريكي.
ويرجع السبب إلى أن الطلب العالمي على الدولار الأمريكي أكبر من الطلب الأمريكي على الواردات، التي تُدفع قيمتها بالعملة الخضراء أيضاً.
ولهذا تضطر الولايات المتحدة إلى التعامل مع معدلات عجز متزايدة دائماً من أجل الحفاظ على مكانة عملتها الاحتياطية.
ويتمثل عيب إدارة عجز الحساب الجاري في أنه يترك البلاد عرضةً لخطر التقلبات غير المتوقعة في تدفقات رأس المال العالمية، بحسب وكالة Bloomberg الأمريكية.
بينما أوضح جون كيمب من وكالة Reuters البريطانية في عام 2009 أن الولايات المتحدة تُعاني عجزاً في الميزانية والحساب الجاري بحجمٍ أكبر من غالبية الدول الأخرى، وذلك لمجرد أنها الدولة التي تُصدر عملة الاحتياطي العالمي الرئيسية.
وأردف كيمب: "ارتفع الطلب على الأصول الاحتياطية مع توسع الاقتصاد العالمي. ولن تتمكن الولايات من إمداد الأجانب بتلك الأصول إلا إذا سجلت عجزاً في حسابها الجاري، ثم أصدرت التزامات يُهيمن عليها الدولار لتمويل العجز".
في ما أوضح غرين أن الصين تمثل ثاني أكبر اقتصادٍ في العالم اليوم، لكنها لا تستطيع تحمل كلفة إدارة عجزٍ دائم بالطريقة التي تفعلها الولايات المتحدة.
وأضاف غرين: "ليست الصين راغبةً سياسياً ولا قادرةً اقتصادياً على إدارة عجز مستدام في الحساب الجاري، وتوفير إمدادات كافية من أصول الرنمينبي حول العالم -إلا في حال إجراء إصلاح هيكلي كبير".
بكين لا تريد الاحتفاظ بأصول كبيرة مقومة باليوان
تُمثّل هيمنة العملة الخضراء تحدياً رئيسياً لأي عملةٍ أخرى تنوي منافسة الدولار الأمريكي على لقب عملة الاحتياطي العالمي المُهيمنة.
ويعد دور اليورو أكبر من دور اليوان في الوقت الراهن.
ففي أبريل/نيسان، مثّل الدولار الأمريكي 43% من إجمالي المدفوعات الدولية عبر شبكة سويفت، ومثل اليورو 32% من تلك المدفوعات. بينما أُجرِيَت 2.3% فقط من تحويلات السويفت بعملة اليوان.
وفي الوقت ذاته، استحوذ الدولار الأمريكي على حصة الأسد (54%) من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية في الربع الرابع من 2022، بحسب بيانات صندوق النقد الدولي.
واستحوذ اليورو على 20% من تلك الاحتياطيات، بينما شكّل اليوان 2.5% فقط من الاحتياطيات.
ويُشير هذا إلى غياب التنوع الكبير في الخيارات المتاحة كأصول احتياطية -مما يمثل مشكلةً بالنسبة للبنك المركزي الصيني وفقاً لغرين.
ويرجع السبب إلى أن المؤسسة ستضطر للاحتفاظ بكميات كبيرة من سنداتها المُقوّمة باليوان -كما يفعل الاحتياطي الفيدرالي، الذي يحتفظ بكمية ضخمة من أصوله في الأوراق المالية للخزانة.
وبالنظر إلى ما سبق من مشكلات، استبعد غرين أن يتفوق اليوان على العملة الخضراء.
وتأتي هذه العقبات في مقدمة تحديات أخرى خارجةٍ عن سيطرة الصين، ومنها جمود النظام المالي العالمي، بحسب تصريح المؤرخ نيال فيرغسون لشبكة CNBC الأمريكية في الأول من مايو/أيار.
تخشى أن يضعف اليوان القوي من تنافسية صادراتها
وقد يكون سبب إضافة للأسباب السابقة التي ذكرها الموقع الأمريكي منها أن تحول اليوان الصيني لعملة الاحتياط الدولية، يتطلب أن يكون عملة قوية، مثل الدولار، وهذا قد يؤدي لارتفاع الصادرات الصينية، وبالتالي قد يؤثر عليها، خاصة أن بكين تعتمد في ترويج صادراتها على عامل تنافسية السعر مقارنة بالدول الأكثر تقدماً كالولايات المتحدة، ودول شمال أوروبا وتحديداً، ألمانيا، وهي دولة منتجاتها قائمة على شهرتها وتقدمها التكنولوجي أكثر من التنافسية السعرية.
فاليوان القوي قد يضر صادرات الصين من هواتف أوبو وشاومي في منافستها مع سامسونغ أكثر مما يضر الدولار القوي "أي فون" (الذي يصنع أصلاً في الصين) لأنه يحتل الشريحة العليا من السوق، واليوان القوي قد يضر صادرات شركات السيارات الصينية التي تعتمد بشكل أساسي على انخفاض أسعارها، ولكن لن يضر اليورو القوي كثيراً صادرات ألمانيا من شركات مثل مرسيدس وبي إم دبليو التي تعتمد على اسمها العريق وجودتها العالية وتقنيتها المتقدمة.
كما أن الاقتصاد الأمريكي يعتمد بشكل كبير على صادرات الخدمات، وهي ميزة غير متوفرة لبكين ولا غيرها، إضافة إلى أن الاقتصاد الأمريكي يعوض عجزه التجاري بتدفق الأموال والاستثمارات الأجنبية على أسواقه المالية الكبيرة والعميقة والمنفتحة والمعروفة جيداً للمستثمرين، وهي ميزة لا تتوفر لبكين أيضاً
فقوة الاقتصاد الأمريكي وتنوعه وبالأخض عمق أسواقه والشفافية التي تميزه ما زالت مفتقدة لدى الصين، الأكثر غموضاً بالنسبة للعالم الخارجي.
وفي الوقت ذاته تستفيد بكين من وضع أمريكا الحالي كأكبر مستورد في العالم لأنها في الواقع أكبر سوق لمنتجات بكين التي تعد أكبر مصدر في العالم.
وهناك مفارقات تتعلق بقوة الاقتصاد الأمريكي أنه الثالث في التصدير لسنوات (أصبح الثاني في 2022 بسبب ارتفاع أسعار الطاقة) والأول في الاستيراد، وهذا يعني أنه إذا كانت الصين هي مصنع الأول وورشة العالم الكبرى، فإن أمريكا هي مصرف العالم والمستورد الأكبر، وبالأخص السوق الأكبر لصادرات بكين التي تعتمد على ازدهار أمريكا ونهمها الاستهلاكي، مما يجعل قوة الدولار مقابل اليوان ميزة للصين؛ لأنها تجعل صادراتها أرخص في السوق الأمريكية.
إضافة لذلك، فإن هيمنة الدولار، ليست نابعة من قوة اقتصاد أمريكا وحده بل تحالفاتها مع أوروبا وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، وهي الدول الرئيسية في التجارة والتكنولوجيا في العالم.
كما أن أمريكا وحلفاءها بحوزتهم الجزء الأكبر من المراكز والمؤسسات والأسواق المالية العالمية، إضافة لدورهم المؤسس والمهيمن على المنظمات الاقتصادية والمالية المتعددة الجنسيات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
كتب غرين: "تدفع الجغرافيا السياسية والثقل الاقتصادي الصيني عجلة تبنّي الرنمينبي (اليوان) في التجارة والاحتياطيات المحفوظة -وهو أمر سيتواصل. ومن المؤكد أن زيادة الاستخدام الدولي للرنمينبي سيوفر قنوات لخرق العقوبات، لكن الدولار ليس عرضةً لأي تهديدٍ حقيقي".
يؤشر كل ما سبق ليس لاستحالة إيجاد بدائل للدولار، ولكن أن الأمر يحتاج إلى وقت، ويبدو أن الصين التي هي القاسم المشترك في معظم الخطط السابقة، تسعى لإيجاد بدائل للدولار ولكن بشكل تدريجي، وبطريقة لا تؤثر على استفادتها هي نفسها من قوة الدولار، بحيث عندما يحين الوقت أو عندما يسارع الغرب لمحاصرتها تكون بدائل الدولار قد نضجت وجاهزة للعمل، بل قد تحاول ساعتها الإجهاز على هيمنته التي دامت عقوداً طويلة.