فاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية التركية يوم الأحد 28 مايو/أيار، ليصبح بذلك أحد أبرز الزعماء في التاريخ السياسي الحديث للبلاد، ويُبقي على دوره الممتد في الشؤون العالمية سنوات قادمة.
أعلن رئيس هيئة الانتخابات التركية فوز أردوغان، بعد حصوله على نسبة 52.13% من الأصوات، وحصول منافسه زعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو على نسبة 47.87% من الأصوات، وذلك بعد فرز أكثر من 99% من صناديق الاقتراع.
كذلك فإن فوز الرئيس التركي بالانتخابات يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من حكمه: مرحلة تجاوزت فيها جاذبية أردوغان الشخصية العواكس الناجمة عن الانخفاض في شعبية حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه، والذي فقد حصة من شعبيته في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التي عصفت بالبلاد، ويُتوقع أن يكون العمل على حلِّها الشغل الشاغل للرئيس خلال السنوات القادمة من حكمه، بحسب تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
خالف فوز أردوغان توقعات مراكز الرأي العام المقربة من المعارضة، والتي رجَّحت هزيمته في ظل الأزمات المتراكمة على البلاد خلال الأشهر التي سبقت الانتخابات، فقد تعاقب على البلاد ارتفاع التضخم، ثم الزلازل الكارثية في فبراير/شباط، ما أدى إلى تراجع شعبية الرئيس التركي في استطلاعات الرأي. ثم جاء احتشاد أحزاب المعارضة -على اختلاف اتجاهاتها وآرائها- هذه المرة ليكون أكبر تحدٍّ سياسي لحكم أردوغان منذ توليه السلطة في البلاد.
أردوغان.. "المدبر البارع"
على الرغم من ذلك كله، فقد أثبت الرئيس التركي مرة أخرى أنه لا يزال ذلك المدبِّر البارع الذي اكتسب مهارته هذه منذ نشأته في أزقة إسطنبول وشواطئها، وحافظ عليها بعد انتقاله إلى القصر الرئاسي، ثم نجاته من محاولة الانقلاب على حكمه في عام 2016، ومناوراته لاكتساب النفوذ في العلاقات مع روسيا والغرب وجميع أنحاء العالم.
قال أردوغان في حشد من مؤيديه المجتمعين للاحتفال بانتصاره في ساحة القصر الرئاسي في أنقرة خلال الساعات الأولى من يوم الإثنين 29 مايو/أيار: "سنُعيد تشكيل الموازين العالمية مرة أخرى"، و"ستحظى تركيا بالقوة والمكانة الفريدة في هذا النظام العالمي".
أما كليجدار أوغلو، فقد تحدث من مقر حزبه في أنقرة بعد إعلان أردوغان النصر مساء الأحد 28 مايو/أيار، وقال: "كان علي أن أفعل كل ما بوسعي لكي أضمن لكم العيش في دولة عادلة، وسأواصل قيادة تلك المعركة"، وقد "أبرزت هذه الانتخابات إرادة الشعب في تغيير النظام الاستبدادي على الرغم من كل الضغوط".
يبلغ أردوغان من العمر 69 عاماً، وهو يبدأ عقداً ثالثاً من حكمه بعد أن شغل منصب رئيس الوزراء والرئيس منذ عام 2003. وقد برهن -أطول زعماء البلاد خدمة- خلال ذلك على الجاذبية الباقية لنموذجه السياسي، الذي يمزج بين الإسلاموية والقومية، بين الملايين من أنصاره في تركيا.
دبَّر أردوغان لانتصاره خلال الأشهر الأخيرة بخطوات لطالما اتبعها في حملاته الانتخابية: الوعود الانتخابية القوية، واستنفار الولاء الوطني، والاستفادة من زلات خصومه. وقدَّم الرئيس التركي لناخبيه صورة الاستقرار التي افتقر إليها منافسه، الموظف المدني السابق كليجدار أوغلو، الذي ساد الاضطراب حملته الانتخابية، بعد أن ادعى كذباً تقدمه في مساء الجولة الأولى من الانتخابات في 14 مايو/أيار، ثم تبين تأخره بفارق ملحوظ عن منافسه.
قال جيم جيفري، السفير الأمريكي السابق في تركيا والذي كان له تعامل شخصي مع أردوغان: "إنه يحافظ على رباطة جأشه عند التعرض للضغوط"، وهو "حازم في أموره وعلاقاته. فهو يعرف ما يفعل، والمشروعات التي يُشرف عليها. وهذا أمر يستحسنه الناخبون عموماً، والناخبون الأتراك خصوصاً".
في أعقاب الإعلان عن فوزه، تدفقت مكالمات التهنئة والرسائل من قادة العالم. وكتب الرئيس الأمريكي جو بايدن في تغريدة على تويتر: "أتطلع إلى مواصلة العمل معاً في تحالفنا بالناتو بشأن القضايا الثنائية والتحديات العالمية المشتركة".
مسار الرجل السياسي
ينحدر أردوغان من مدينة ريزا الواقعة في منطقة البحر الأسود، حيث كان والده يعمل بحاراً، ثم انتقلت الأسرة إلى إسطنبول، وارتقى أردوغان في صفوف الحركة الإسلامية، ليصبح عمدة المدينة في التسعينيات. ولفت الأنظار بما وفره لسكان المدينة من خدمات المياه الجارية وتوصيل الغاز لفقراء المدينة، وبعد أن تولى رئاسة الوزراء، أشرف على إنجاز طفرة اقتصادية رفعت ملايين الأتراك إلى الطبقة الوسطى، وعززت طموحاته الرامية إلى تحويل تركيا إلى قوة عالمية.
رداً على الانتقادات التي وجهت له بتشديد قبضته على السلطة، دافع أردوغان عن مشروعه السياسي، الذي قال إنه يرتكز على بناء دولة تركية قوية، وحماية الديمقراطية من تدخلات الجيش، لا سيما في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة على حكمه في عام 2016.
وقال أردوغان في فاعلية انتخابية في إسطنبول يوم 25 مايو/أيار: "لقد قطعنا معاً ما يعادل قروناً من التقدم في مسيرة تركيا نحو الديمقراطية والتنمية".
في ظل تعثر الاقتصاد والاضطراب الذي حلَّ بالبلاد بعد الزلازل التي وقعت في مدن الجنوب في فبراير/ِشباط، دخل الرئيس التركي الانتخابات ومعه ميزة رئيسية واحدة على خصمه: براعة تدابيره الجيوسياسية التي وسَّع بها نفوذ تركيا في المنطقة، لا سيما الاستفادة من صراع القوى بين روسيا والغرب.
على مدار العام الماضي، تعزز وصف أردوغان داخل تركيا بالزعيم العالمي البارز لتوسطه في محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا؛ وبيعه الأسلحة إلى كييف؛ وحرصه في الوقت نفسه على توسيع علاقات أنقرة الاقتصادية مع موسكو. وقد تمسك برفض انضمام السويد إلى حلف الناتو، ما لم توافق على شروط تركيا المتعلقة بمكافحة أنشطة حزب العمال الكردستاني، وهو موقف يحظى بشعبية سياسية في تركيا، وقد منحه نفوذاً على حلفاء غربيين آخرين.
في هذا السياق، قال مراد شيشكو، الذي يبلغ من العمر 22 عاماً ويعمل فني إلكترونيات، لقد "أصبحنا دولة يُسمع لها في العالم. وقد قلَّل من اعتمادنا على الدول الأجنبية". وأشار شيشكو إلى أن هذه الانتخابات كانت أول انتخابات يشارك فيها، وقد صوَّت فيها لأردوغان.
شقوق في صفوف المعارضة
في المقابل، بدأت الشقوق تظهر في الحملة الانتخابية للائتلاف المعارض منذ وقت مبكر. فقد انشقت زعيمة أحد أحزاب المعارضة عن التحالف، واتهمت زعيم المعارضة بفرض ترشيحه للرئاسة على بقية الأحزاب رغم وجود مرشحين آخرين أصلح منه. وعلى الرغم من أن كليجدار أوغلو أنكر ذلك، وأن الزعيمة المنشقة عادت إلى الائتلاف، فإن صورة الانقسام أضرت بالحملة.
قال بوراك كادركان أستاذ الاستراتيجية في كلية الحرب البحرية الأمريكية، إن "أردوغان ترك المعارضة تفكِّك نفسها بنفسها. فقد قدَّم نفسه في هيئة القائد المستقر، الذي قد لا تحبه، لكنك تعرفه حق المعرفة".
واستفاد أردوغان كذلك من موارد الدولة في شق طريقه إلى النصر، فقد سارع بالبدء في حملة لبناء منازل جديدة لضحايا الزلزال؛ ورفع الحد الأدنى للأجور لموظفي الخدمة المدنية. ومع اقتراب موعد الانتخابات، قدم الغاز الطبيعي المخصص للاستهلاك المنزلي مجاناً لمدة شهر.
قال راسم طوران، صاحب متجر بحي السليمانية في إسطنبول: "بالطبع لا يمكن لأحد أن يقول إن الاقتصاد في حالة جيدة، وأي شخص يدعي ذلك متهم في عقله. لكن نحن نثق بقدرة [أردوغان] على إصلاح الأمور وتجاوز هذه المشكلات"، لذا "نمنحه فرصة أخرى".
على الرغم من ذلك، استمرت نتائج استطلاعات الرأي قبل الانتخابات تشير إلى تأخر أردوغان، وواصل كليجدار أوغلو حملاته الانتخابية، مشدداً فيها على أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة، والدعوة إلى إحياء الديمقراطية في البلاد. وهاجم موقف أردوغان من الهجرة إلى البلاد، متعهداً بترحيل ملايين اللاجئين.
في المقابل، تعهد الرئيس التركي بحملة انتخابية هادئة، احتراماً لذكرى ضحايا الزلزال، وركز في المرحلة الأولى للحملة على الفعاليات الصغيرة، مثل افتتاح مشروعات مختلفة في جميع أنحاء البلاد.
تكتيكات الفوز
ومع اقتراب موعد الانتخابات، غيَّر أردوغان مساره، وبدأ المرحلة الثانية من حملته بمسيرة انتخابية حاشدة في إزمير -وهي معقل رئيسي للمعارضة على ساحل بحر إيجة- وكانت هذه الفاعلية بداية لحملة انتخابية مكثفة على مدار أسبوعين استدعى فيهما حشوداً ضخمة، واشتد في خطابه وانتقاداته لكليجدار أوغلو، متهماً إياه بالانحياز إلى "الإرهابيين" لتحالفه الانتخابي مع حزب الشعوب الديمقراطي -المتهم بأنه ذراع سياسية لحزب العمال الكردستاني- وكونه "مناصراً للمثليين".
استنفر أردوغان كذلك المشاعر القومية، فأرسل حاملة طائرات حديثة التدشين -وهي الأولى في البلاد- إلى مضيق البوسفور وأوقفها أمام قصر توبكابي، الذي كان في يوم من الأيام مقراً للسلاطين العثمانيين، ليعرض على الناس ما وصلت إليه البلاد من تقدم في صناعات الأسلحة، وقدراتها العسكرية المتزايدة. وقد أدى ذلك إلى حلول الاعتزاز بمكانة تركيا في العالم محل المخاوف الاقتصادية لدى كثيرين من الناخبين.
قال رمضان إيبس، الذي يعمل في مجال التسويق وصوَّت لأردوغان، أثناء انتظاره في الطابور لزيارة السفينة "تي سي جي أناضول" بعد الجولة الأولى من الانتخابات: "إنها أول مرة على مدار قرن من إنشاء تركيا الحديثة نتمكن من فعل ذلك"، وقد "أثرت رؤية هذا النجاح في تصويتي".
وقد أشارت صحيفة The Financial Times البريطانية إلى أن أردوغان نجح في الحفاظ على تأييد قاعدة ناخبيه من المتدينين والمحافظين في جميع أنحاء منطقة الأناضول، بعد أن تمسك بالتأكيد على القيم العائلية والمعركة ضد الإرهاب، ونجاحاته في إبراز مكانة تركيا في العالم منذ توليه الحكم عام 2003.
ولفتت الصحيفة البريطانية إلى أن كليجدار أوغلو الذي بدأ حملته بوعود الانفتاح و"الربيع القادم" على البلاد، سرعان ما تحول إلى خطاب قومي أكثر حدة بعد تخلفه عن أردوغان في الجولة الأولى، وتعهد بطرد ملايين اللاجئين قسراً من البلاد.
أما صحيفة The Washington Post الأمريكية، فقالت إن حلفاء تركيا في الخارج، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، سيتعيَّن عليهم أن يتعاملوا مع أردوغان -الشريك الذي تستعصي تحركاته على التوقع، والوعر في تعاملاته- الذي استفاد من علاقات حكومته مع مختلف الجهات الفاعلة الدولية، مثل روسيا، لتعزيز مكانته السياسية محلياً.
وذهبت صحيفة The WSJ في ختام تقريرها إلى الرأي ذاته، إذ قالت إن تركيا وإن لم تتضح وجهتها الاقتصادية في المرحلة القادمة بعد، إلا أن العالم سيتعيَّن عليه تكييف نفسه على التعامل مع أردوغان، والتأقلم مع كون تركيا تحت قيادته عنصراً رئيسياً في الساحة العالمية.