في الوقت الذي كان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، منتظراً في باريس أو موسكو، فإذا بطائرته تحط في لشبونة، ما يدعو للتساؤل حول سر قفز البرتغال إلى سلم أولويات الجزائر، على حساب عواصم أبرز وأثقل في ميزان دبلوماسية البلد العربي.
زيارة الرئيس تبون، "المفاجئة" إلى العاصمة البرتغالية لشبونة، لم يسبقها الكثير من الضجيج، إلا أنه جرى الاتفاق بشأنها منذ نهاية العام الماضي، خلال زيارة وزير الخارجية البرتغالي جواو كرافينيو، إلى الجزائر.
لشبونة، العاصمة الأوروبية الثانية التي يزورها تبون منذ توليه سدة الحكم في 2019، بعد زيارته للعاصمة الإيطالية روما في مايو/أيار 2022، ما يعكس رغبة الجزائر في إحياء علاقاتها التاريخية مع البرتغال بالتوازي مع فتور العلاقات مع إسبانيا.
وزيارة تبون، التي كانت مقررة إلى باريس في 2 مايو/أيار الجاري، قبل أن تتأجل، تعكس الخلافات بين البلدين، وصعوبة إجرائها قبل تجاوز الملفات المعقدة والمثيرة للجدل.
بينما زيارة موسكو، أكثر حساسية وأعقد، رغم العلاقات الجيدة بين البلدين، إلا أن الضغوط الأمريكية على الجزائر، ومحاولات تصنيفها ضمن الحلف الروسي، رغم تبنيها سياسة الحياد بشأن الحرب في أوكرانيا، يجعلها أكثر تريثاً وحذراً.
في حين ترفض الجزائر استقبال رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، الذي أبدى رغبته في زيارتها، بالنظر إلى الخلافات بشأن تغيير موقف بلاده التاريخي إزاء مستعمرتها السابقة (إقليم الصحراء)، وتبنيها للمقترح المغربي بشأن الحكم الذاتي للإقليم.
هذا ما جعل البرتغال تحظى بالأولوية، خاصة أن البلدين يتمتعان بعلاقات تاريخية، يراد إحياؤها مجدداً.
تطابق في المواقف
"الجزائر والبرتغال تجمعهما نظرة متطابقة في العديد من القضايا الدولية"، هذا التصريح للرئيس تبون، من البرتغال، يختصر الأسباب التي دفعته لزيارة لشبونة قبل أي عاصمة أوروبية باستثناء روما، التي تعد الزبون الأول للغاز الجزائري، بل الشريك التجاري الأول.
وأبرز هذه الملفات الدولية، التي تباحث فيها الرئيس الجزائري مع نظيره البرتغالي؛ ليبيا، ومالي ودول الساحل، وإقليم الصحراء، وفلسطين، وفق ما صرح به تبون.
أما الرئيس البرتغالي فوصف العلاقات بين البلدين بأنها "قوية"، وأشاد بالدور التاريخي للجزائر في دعم الديمقراطية في بلاده.
حيث دعمت الجزائر المعارضة البرتغالية في وجه النظام العسكري الديكتاتوري الذي قاده أنطونيو سالازار (1936- 1970).
وأزال الرئيس البرتغالي مارسيلو دي سوزا، اللبس بشأن موقف بلاده إزاء إقليم الصحراء، وقال، عقب المحادثات التي جمعته مع نظيره الجزائري في 23 مايو/أيار، إن موقف بلاده "ثابت ويحترم ويدعم دور الأمم المتحدة وقراراتها بشأن قضية الصحراء، وتسعى إلى تحقيق مبادئ الديمقراطية في هذا الشأن".
وهذا التصريح يتطابق مع الموقف الجزائري بشأن إقليم الصحراء، ما يفسر إجراء الزيارة في موعدها دون تأجيل.
تطويق إسبانيا
لا شك أن الجزائر من خلال تعزيز علاقاتها مع البرتغال إنما تسعى بالدرجة الأولى لزيادة الضغط على حكومة سانشيز، من خلال نقل تحالفها الدبلوماسي في شبه الجزيرة الإيبيرية من مدريد إلى لشبونة.
للجزائر ورقتان رئيسيتان تلعبهما في البرتغال، أولاهما أنها توفر نحو 82% من احتياجات البلاد من الغاز الطبيعي، وفق وزير الاقتصاد البرتغالي أنطونيو كوستا سيلفا.
حيث تستورد البرتغال ما لا يقل عن 2.5 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز الجزائري.
وثانيهما، أن البرتغال ترى أنها مَدينة للجزائر بالتخلص من النظام العسكري الديكتاتوري والتحول نحو الديمقراطية، بفضل احتضانها لمعارضين، ودعمهم قبل الإطاحة بنظام سالازار العسكري الفردي.
وفي هذا الصدد، يقول وزير الخارجية البرتغالي أوغوستو سانتوس سيلفا، خلال زيارته إلى الجزائر في مارس/آذار 2022، إنّ "البرتغال عليها دين للجزائر لأنها لعبت دوراً مهماً في مسار دمقرطة البلاد، ودعمت المعارضة الديمقراطية ضد الديكتاتورية فيها".
وأضاف الوزير البرتغالي أن الجزائر لعبت دوراً بارزاً في عام 1975، خلال التوقيع على اتفاقية سمحت باستقلال العديد من الدول الإفريقية، التي استعمرتها البرتغال، في الجزائر، وهو ما شكّل ميلاد دول تتحدث اللغة البرتغالية (أنغولا، وموزمبيق، وغينيا بيساو…).
وهذان الأمران (الطاقة ودعم المعارضة الديمقراطية) يجعلان العلاقات الجزائرية البرتغالية ذات طبيعة خاصة ومرتبطة بوثاق اقتصادي وتاريخي متين.
ويمكن للبرتغال بحكم قربها الجغرافي من الجزائر أن تكون بديلاً للسلع التي كانت تستوردها الأخيرة من إسبانيا، كما يمكن أن تكون سوقاً للصادرات الجزائرية خارج المحروقات خاصة، تلك التي كانت تصدِّرها إلى إسبانيا.
فرغم العلاقات الممتازة بين البلدين إلا أن حجم التجارة البينية في عام 2022، لم يتجاوز 1.4 مليار دولار، منها 1.1 مليار دولار صادرات جزائرية، غالبيتها إيرادات الغاز الطبيعي، و300 مليون دولار فقط صادرات برتغالية.
إلا أن هذه الزيارة من شأنها تشجيع التبادل التجاري بين البلدين، لكن ذلك سيكون حتماً على حساب الشركات الإسبانية، التي لم تتجاوز صادراتها للجزائر خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري سوى 10 ملايين دولار فقط.
بينما بلغت خسائر الشركات الإسبانية من غلق السوق الجزائرية في وجهها نحو 800 مليون دولار، وفقاً للحسابات الأولية الصادرة عن الدائرة الجزائرية الإسبانية للتجارة والصناعة.
هذا ما دفع شركات إسبانية لمطالبة حكومة سانشيز، بإيجاد حل لما سمته "الحصار التجاري الجزائري على أنشطتها" بعد انخفاض كبير في صادراتها، على خلفية أزمة دبلوماسية بين البلدين بسبب قضية إقليم الصحراء.
وإذا تمكنت البرتغال من افتكاك السوق الجزائرية، فإن الشركات الإسبانية قد تخسر زبائنها في البلد العربي حتى ولو عادت العلاقات بين البلدين إلى مجراها.
الطاقات المتجددة
أكثر ما يثير اهتمام الجزائر في التجربة البرتغالية قدرتها على التحول السريع نحو الطاقات النظيفة، حيث تمثل الطاقات المتجددة نحو 60% من إنتاج الكهرباء في البلاد.
الجزائر التي لها قدرات طبيعية مهمة من حيث ساعات الإشعاع الشمسي (نحو 4 آلاف ساعة في السنة)، ناهيك عن طاقة الرياح، تسعى لإنتاج 15 ألف ميغاواط من الطاقات المتجددة في آفاق 2035.
هذه الكمية لا تسمح لها فقط بتغطية الطلب المحلي من الكهرباء بل تسمح أيضاً بتوفير كميات أكبر من الغاز الطبيعي للتصدير.
حيث تنتج الجزائر نحو 130 مليار متر مكعب، صدرت منها 56 مليار متر مكعب العام الماضي، وتستهلك قرابة 50 مليار متر مكعب، والبقية يعاد ضخها في الآبار النفطية والغازية بهدف رفع مردود الآبار.
إذ تسعى الجزائر لرفع صادراتها من الغاز الطبيعي إلى 100 مليار متر مكعب سنوياً، من خلال تكثيف عمليات التنقيب والإنتاج، وأيضاً الاعتماد أكثر على إنتاج الكهرباء من مصادر متجددة لتوفير الغاز للتصدير.
ويمثل المنتدى الاقتصادي، الذي افتتحه الرئيس الجزائري ورئيس الوزراء البرتغالي، في لشبونة، والذي جمع رجال الأعمال في البلدين، فرصة لزيادة الاستثمارات البرتغالية في الجزائر، والتي لا تتجاوز 60 مليون دولار، ووعدت الحكومة البرتغالية بمضاعفتها خمس مرات خلال الأعوام الخمسة المقبلة.
وتم خلال الزيارة التوقيع على اتفاقية شراكة بين مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري وكونفدرالية الشركات البرتغالية، واتفاقيتي الحوكمة الرقمية والتبادل الثقافي، وإعلان نوايا لتعزيز التعاون الثنائي، ومذكرة تفاهم حول المؤسسات الناشئة والابتكار.
ويراهن الرئيس البرتغالي على أن زيارة نظيره الجزائري لبلاده ستدفع بعلاقات التعاون الثنائي إلى "مستوى أرقى".
وركز على "مجال التعاون الدبلوماسي والأمني والاقتصادي، على غرار قطاعات الطاقة المتجددة والسياحة والتعليم".
فالبرتغال تسعى لمنافسة إسبانيا في استقطاب السياح الجزائريين الذين كانوا يتوجهون إلى إسبانيا، وأيضاً الطلبة الذين كانت تستهويهم الجامعات الأوكرانية للدراسة.