اندلعت اشتباكات متقطعة في السودان، رغم الهدنة بين الجيش والدعم السريع، ما يطرح تساؤلات بشأن المحاصَرين في الخرطوم، فما مصير هؤلاء الضحايا المنسيين؟
كان السودان قد شهد، منذ يوم 15 أبريل/نيسان 2023، انفجاراً عنيفاً في الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد، الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
ومع دخول الهدنة المؤقتة، التي نتجت عن الوساطة السعودية-الأمريكية، حيز التنفيذ مساء الإثنين 22 مايو/أيار، تراجعت حدة القتال في الخرطوم بشكل لافت رغم الخروقات المتقطعة، في بارقة أمل أن يتم احتواء الصراع ومنعه من التحول إلى حرب أهلية ممتدة.
لكن الاشتباكات المتفرقة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع عادت الخميس لتُبدد الهدوء النسبي في العاصمة الخرطوم، ما زاد من خطر انهيار الهدنة التي من المفترض أن تستمر لمدة أسبوع.
ماذا عن المحاصرين في الخرطوم؟
منذ اندلاع الصراع في السودان فرّ أكثر من 1.3 مليون شخص من منازلهم هرباً أو ذهبوا إلى أماكن أخرى في البلاد أو عبر الحدود، لكن ملايين آخرين ما زالوا محاصرين في الخرطوم ومدينتي بحري وأم درمان الشقيقتين، غير قادرين على مغادرة ساحة المعركة المركزية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
ونشرت وكالة Associated Press الأمريكية تقريراً عن أولئك الذين لا يستطيعون الفرار من القتال في السودان، وكيف يواجهون الخطر واليأس في كل لحظة.
محمود واحد من هؤلاء الضحايا المنسيين، ولا يكاد يغادر شقته الصغيرة في شرق الخرطوم. انقطعت الكهرباء عنه معظم الشهر الماضي، لذلك عانى من حرارة الصيف، وعندما يخرج للبحث عن الطعام يترك هاتفه المحمول وراءه بسبب اللصوص في الشارع، وعندما يخرج يكون خائفاً من أن قذيفة مدفعية قد تنفجر في منزله.
يحاول محمود، الذي يعمل باحثاً، وهو منهك ومرتبك وعاجز عن الفرار من العاصمة السودانية التي دمرها الصراع، حجب الواقع المحيط به. وبالنسبة له ولملايين مثله كل يوم هو صراع للعثور على الطعام والحصول على الماء وشحن هواتفهم عند انقطاع الكهرباء، طوال الوقت يجب عليهم تجنب المقاتلين والمجرمين في الشوارع، الذين يسرقون المشاة ويعاملونهم بوحشية، وينهبون المتاجر، ويقتحمون المنازل لسرقة أي شيء ذي قيمة يمكنهم العثور عليه.
أصبح العثور على الدولارات أمراً صعباً وخطيراً، كما هو حال الاحتفاظ بها، فهي هدف للناهبين. من المثير أن تطبيق "بنكك"، التطبيق المصرفي لبنك الخرطوم، يستمر في العمل معظم الوقت، إذ أصبح شريان الحياة بالنسبة للكثيرين، حيث يسمح للمستخدمين بتحويل الأموال وإجراء المدفوعات إلكترونياً.
يستخدم محمود التطبيق للدفع لمالك المتجر الوحيد الذي يزوره لشراء السلع المعلبة، خلال الأسابيع التي انقطعت فيها الكهرباء كان صاحب المتجر يعطيه ما يحتاج إليه، ويسمح له بالدفع لاحقاً، تضع شركة التكنولوجيا التي عمل بها محمود قبل القتال 30 ألف جنيه سوداني- حوالي 50 دولاراً- على حساب التطبيق الخاص به كل بضعة أسابيع.
ومنذ اندلاع الاشتباكات بين الجيش السوداني بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، في صراع عنيف على السلطة، تحولت الخرطوم من مدينة هادئة في السابق إلى ساحة معركة حضرية، قُتِلَ فيها أكثر من 800 مدني، بحسب نقابة الأطباء السودانية.
انعدام الأمن في شوارع عاصمة السودان
الهدنة التي بدأت مساء الإثنين هي السابعة في هذا الصراع الدموي، وأدت بالفعل إلى انحسار القتال في أجزاء من المدينة، لكنّ المعارك والقصف مستمران رغم التعهد الذي أدلت به كلتا القوتين في السعودية. وتعرضت المناطق السكنية والمستشفيات للقصف من قبل الغارات الجوية للجيش، بينما استولت قوات الدعم السريع على المنازل وحولتها إلى قواعد.
غالباً ما يكون الخطر المباشر هو المسلحين واللصوص في الشوارع. قال وليد، وهو من سكان شرق الخرطوم، للوكالة الإخبارية الأمريكية، إنه شهد عدة مواجهات مرعبة. في إحدى الحالات رأى حوالي 30 من مقاتلي قوات الدعم السريع، بدا أن بعضهم لم يتجاوز 15 عاماً، يعذبون أحد المارة ويلوحون بأسلحتهم إليه ويأمرونه بالاستلقاء على الأرض، ثم يصرخون فيه ليقف.
لا يستطيع الكثيرون تحمل تكلفة المغادرة، يريد محمود الوصول إلى إثيوبيا، ثم البرتغال، حيث عُرض عليه العمل باحثاً، لكنه لا يملك مبلغ 2500 دولار الذي هو تكلفة الرحلة، وقال إنه لا يستطيع المغادرة لأسباب طبية.
ويقول آخرون إنه لا خيار أمامهم سوى البقاء والعمل، تانا توسافي، إحدى النساء العديدات اللواتي يبعن الشاي في شوارع الخرطوم، وهي أم عزباء من إثيوبيا تقول إن أطفالها الأربعة يعتمدون عليها.
لا يمكن التنبؤ بالأخطار، قال محمود إن مقاتلي قوات الدعم السريع في مبنى مجاور بدأوا الأسبوع الماضي في إطلاق النار على شقته، معتقدين أن قناصاً تابعاً للجيش قد يكون هناك بعد رؤية الأضواء في الداخل. قال محمود إنه اضطر إلى مواجهة القوات وإقناعهم بأن مبناه به مدنيون فقط.
قالت فاطمة، وهي مقيمة أخرى، إن شقيقها اختفى بعد تناول القهوة مع أصدقائه في 13 مايو/أيار. في ذلك المساء الأول عندما لم يعد إلى المنزل، اعتقدت فاطمة أنه ربما بقي في منزل صديقه. وفي يوم الإثنين عاد أخيراً. قالت فاطمة إنه احتُجِزَ واستُجوِبَ من قِبَلِ قوات الدعم السريع لمدة ثمانية أيام.
وقالت مبادرة الأشخاص المفقودين، وهي أداة تعقب عبر الإنترنت، حيث يمكن للأشخاص الإبلاغ عن أحبائهم المفقودين لها، إن لديها تقارير عن 200 شخص على الأقل في عداد المفقودين في منطقة العاصمة الخرطوم. وقالت إنها تلقت عدة تقارير عن أفراد تحتجزهم قوات الدعم السريع.
الأمر الأكثر قتامة هو العدد المتزايد لمزاعم الاغتصاب والاعتداء الجنسي، وفقاً لمجموعة "حضريين"، وهي مجموعة مجتمعية معنية بالصحة والأزمات، كان هناك ما لا يقل عن 10 حالات اغتصاب مؤكدة في منطقة العاصمة. وأضافت أن سبعة ارتكبها جنود قوات الدعم السريع، بينما ارتكب الثلاثة الأخرى مهاجمون مجهولون داخل المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.
تعود تقارير العنف الجنسي إلى نزاع دارفور في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، حيث اتُّهمت ميليشيا الجنجويد بارتكاب عمليات اغتصاب واسعة النطاق وغيرها من الفظائع. دُمِجَ العديد من مقاتليها في وقت لاحق في قوات الدعم السريع، واتُّهِمَت الميليشيا مرة أخرى باغتصاب عشرات النساء عندما قاموا بفض اعتصام احتجاجي مؤيد للديمقراطية في الخرطوم في 2019.
كيف يعيش الضحايا المنسيون؟
في هذا المشهد الذي يعج بالخوف يجد من بقوا في المدينة طرقاً للعيش، يعمل بعض أصحاب المتاجر خارج منازلهم، على أمل الاختباء من اللصوص. قال وليد إن مخبزاً واحداً متبقياً يخدم حيه وحيَّين آخرين، يسجل كل عميل اسمه مسبقاً.
خلال الأسابيع الأولى من مايو/أيار، لم تكن هناك كهرباء في حيه، لذلك اعتمد وليد على مسجد قريب به مولد كهربائي لشحن هاتفه، لكن عدم وجود كهرباء يعني عدم وجود مياه جارية.
أغلقت معظم مستشفيات المدينة أبوابها وتضرر الكثير منها في القصف أو القتال. وأفادت منظمة الصحة العالمية أنه منذ 11 مايو/أيار وحده، وقع 11 هجوماً على منشآت إنسانية في العاصمة، تجمعت مجموعات العمل المجتمعي، التي تقودها جزئياً شبكة شعبية مؤيدة للديمقراطية تُعرف باسم لجان المقاومة، معاً للمساعدة في علاج مرضى الخرطوم وتوصيل الأدوية.
هديل عبد السيد، طبيبة متدربة في إحدى العيادات المجتمعية، قالت إن المرضى ماتوا بسبب عدم وجود ما يكفي من الأوكسجين، وقد أُخلِيَت العيادة في نهاية المطاف بسبب القصف المكثف. وقال الباحث محمود إنه إذا تمكن بطريقة ما من تأمين المال فسوف يحاول الهروب إلى إثيوبيا، لكن الوقت يقف ضده.
سيندي ماكين، المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، قالت إن الناس يفرون من الخرطوم ويتجهون غرباً لدارفور. واندلع في دارفور صراع في عامي 2003 و2004 بين متمردين وميليشيا مدعومة من الحكومة وقتها، وظل الوضع هناك متوتراً منذ ذلك الحين، ورغم اتفاقات السلام المتكررة نشبت اشتباكات في دارفور، وتزايدت وتيرتها في العامين الماضيين، وعادت للظهور بقوة منذ اندلاع القتال في الخرطوم.
وقالت ماكين للصحفيين في برلين "نحتاج إلى تمويل، نحتاج إلى تمويل من القطاع الخاص، وفي الوقت الراهن يتعين أن يتوقف الصراع، ونحتاج مساعدة من المجتمع الدولي لنحقق ذلك تحديداً، وإلا سنخسر جيلاً آخر من السودانيين".
وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إن المنظمات مستعدة لتقديم المساعدات إلى أكثر من أربعة ملايين شخص، لكن العوائق البيروقراطية والمشكلات الأمنية تعرقل التوزيع. وصرَّح مسؤول إغاثة لرويترز بأن من بين 168 شاحنة جاهزة لتقديم المساعدات، يتحرك عدد قليل فقط من بورتسودان إلى القضارف وكسلا والجزيرة.
ونزح أكثر من مليون شخص داخل السودان، وفر 319 ألفاً إلى الدول المجاورة التي يعاني بعضها بدوره من الفقر، وله تاريخ من الصراعات الداخلية، وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة. وقال فيليبو جراندي، المفوض السامي لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة، إن الكثير منهم عبروا الحدود إلى تشاد ومصر في الأيام القليلة الماضية.