عمد الاحتلال الإسرائيلي منذ عشرات السنين إلى توطيد منظومته الرقمية للتجسس ومراقبة تحركات الفلسطينيين، وقد أدى ذلك مع مرور الزمن إلى تشكل إحساس عام لدى الفلسطينيين مفاده أن الجميع مراقب.
قد شُبِّه الوضع في الأراضي المحتلة بـ"البانوبتكون – Panopticon"؛ وهو مصطلح استعمل لأول مرة من قبل عالم الاجتماع "جيريمي بانتام"، ومؤداه استعمال منظومة رقابية من قبل سلطة ما، تتيح مراقبة قصوى مقابل بذل أدنى مجهود، وجسّد "بانتام" الفكرة من خلال هندسته لسجن يُمكن حارس واحد من مراقبة كل نزلاء السجن من دون تمكين هؤلاء من معرفة زمن ووتيرة ذلك.
قد طورت ووظفت إسرائيل عدة منظومات رقمية تقوم على قدرات الذكاء الاصطناعي من أجل تشديد القبضة على الفلسطينيين على غرار برنامج "حزمة الذئب"، وكاميرات الكشف عن الملامح، وأجهزة التجسس السيبراني وغيرها، لتتوج مؤخراً بصفقة "نمبوس – Nimbus" التي أبرمت مع عملاقي الإنترنت "جوجل وأمازون".
يهدف المشروع إلى دعم المؤسسات الرسمية في إسرائيل، بما فيها الأمن والجيش، بقدرات "جوجل وأمازون" السحابيتين بغية توحيد عمل هذه الهيئات وإفراغه في منصة واحدة تتميز بحدة الذكاء والاستجابة السريعة.
قد طرحت هذه الصفقة جدلاً كبيراً وشهدت اعتراضاً من قبل المئات من موظفي الشركتين نظراً لمخالفاتها لأخلاقيات ومبادئ عمل الشركتين، أضف إلى ذلك اندراجها ضمن برنامج يهدف إلى دعم حكومة تحوز سجلاً مليئاً بالجرائم والتجاوزات؛ وكونها نُعِتَت بـ"النظام العنصري" من قبل أعتى المنظمات الحقوقية.
لم تفضِ الاعتراضات إلى نتائج ملموسة، وتمّ مؤخراً في إطار "نمبوس" إطلاق أول مركز للخدمات السحابية في إسرائيل من قبل شركة "جوجل الأم ألفابيت"، ويعد المركز أول خطوة في حياة مشروع "نمبوس".
محطات في رحلة تطوير تكنولوجيا الرقابة الإسرائيلية
شرع الاحتلال الإسرائيلي في توظيف الأدوات الرقمية لتطويق الفلسطينيين منذ مطلع سنة 2000، لاسيما في المناطق المحتلة المتاخمة لمدن وأحياء الفلسطينيين على غرار الضفة الغربية والقدس الشرقية، وذلك في إطار استراتيجيته العسكرية للحفاظ على الوجود المرن لقواته؛ وذلك عبر كاميرات التعرف على ملامح الوجه وأسلحة التحسس السيبراني، وأجهزة المسح الضوئي لألواح أرقام المركبات.
لقد مكّنت هذه الأدوات من تقليص الوجود الميداني لجنوده في هذه المناطق، ويبرر مسؤولو الحكومة الإسرائيلية نشر تكنولوجيا الرقابة بدورها في تسهيل حركة الفلسطينيين بين الضفة الغربية والقدس الشرقية.
قد تبع نشر هذه التكنولوجيا وضع كاميرات مراقبة في الأماكن العامة والخاصة، ما جعل حياة الفلسطينيين جحيماً لا يطاق، كما تمّ توجيه أوامر لوحدات الجيش الإسرائيلي من أجل أخذ صور للفلسطينيين، بما فيهم الأطفال وكبار السن، حيث تمّ تخصيص جوائز تحفيزية لكل وحدة تجمع أكبر عدد من الصور، حيث تستعمل بعد ذلك لدعم قاعدة بيانات "الذئب الأزرق – Blue wolf".
"الذئب الأزرق" عبارة عن تطبيق يجمع صور أوجه الفلسطينيين، ويربطها بقاعدة بيانات الصور لينبئ الجندي عبر هاتفه عبر إشارة قد تحمل أحد ثلاثة ألوان: الأصفر والأحمر والأخضر، وذلك لتحديد إما وجوب الاعتقال، أو التوقيف، أو التسريح.
يشكل تطبيق "الذئب الأزرق" مع كاميرات مسح الأوجه شبكة متكاملة للرقابة، حيث توظف في مقاطعة الخليل لدعم نقاط المراقبة بالقدرة على التعرف على الفلسطينيين المارين قبل تقديم بطاقاتهم.
تُحَاصَر مدينة الخليل بأكبر شبكة للرقابة يطلق عليها "مدينة الخليل الذكية"، حيث تتمتع الشبكة بالقدرة على التجسس على بيوت الفلسطينيين، على حد تصريح أحد الجنود الإسرائيليين السابقين لمنظمة "كسر الصمت".
شهادات بعض الفلسطينيين من قلب مدينة الخليل
ياسر أبو مرخيه (49 سنة) أب لأربعة أولاد، يقطن في الخليل، أقرّ لـ"واشنطن بوست" أن عائلته تقيم في الخليل منذ أربعة أجيال، وقد اعتادت التعامل مع نقاط المراقبة وتقييدات التنقل المختلفة واستجوابات القوات الإسرائيلية المتكررة، وذلك منذ الاستيلاء على المدينة خلال حرب 1967.
يضيف ياسر، أنه قد جُرد الفلسطينيون من الحد الأدنى لخصوصياتهم، "لم نعد نشعر بالأمان ونحن نجالس الآخرين بسبب الكاميرات الموجهة نحونا في كل وقت". يقول ياسر إنّه لم يعد يترك أولاده يلعبون خارج المنزل للسبب نفسه، بل أصبح أقاربه الذين يقطنون في المناطق الأقل حراسة يتجنبون زيارته.
لقد تمّ تثبيت كاميرات مراقبة على طول محيط الحي بالقرب من المسجد الإبراهيمي، على مسافة كل 300 متر، وتم ذلك أيضاً فوق أسقف الملكيات الخاصة، وذلك ما دفع بعض الفلسطينيين إلى ترك منازلهم.
كما يصرح عيسى عمرو، رئيس "منظمة أصدقاء الخليل":
"يودون جعل معيشتنا جدّ صعبة بغية دفعنا للرحيل من تلقاء أنفسنا، وترك المجال لقدوم المستوطنين الإسرائيليين".
الأكثر من ذلك، وفي إطار سياسة تعزيز القبضة الأمنية على حركة الفلسطينيين بواسطة الوسائل الرقمية، أنشأت الحكومة تطبيقاً آخر يدعى بـ"الذئب الأبيض – White wolf"، يستعمله المستوطنون اليهود في الضفة الغربية لتصوير بطاقات الفلسطينيين الذين يمرون عبر الأحياء المحروسة للولوج الى المستوطنات الإسرائيلية لقضاء شتى حاجاتهم اليومية، حيث يسمح ذلك بدعم قاعدة بيانات "حزمة الذئب" للرقابة الإسرائيلية وتطويرها.
منصة سحابية تابعة لـ"جوجل وأمازون" وتحكّم شامل في الخصائص: صفقة "نمبوس"
تحصلت الحكومة الإسرائيلية بموجب صفقة "نمبوس" التي أبرمت بين شركتي "ألفابيت جوجل وأمازون" من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، على خاصية الولوج والاستعمال الشامل لنظام الحوسبة السحابية المقدمة من قبل الشركتين، وقد تم الإعلان عن الصفقة في أبريل من سنة 2021 من قبل وزارة المالية الإسرائيلية، والتي بلغت قيمتها 1,2 مليار دولار.
حيث ستستفيد من المشروع الحكومة ومؤسسات الدفاع وهيئات إسرائيلية أخرى، والتكنولوجيا عبارة عن تخصيص حلول سحابية (Cloud solutions) للجهات المعنية.
تمكنت الإنترسبت "The Intercept" من الولوج إلى بوابة تدريبية لزبائن المنصة، وهي عبارة عن تكنولوجيا تتضمن مجموعة كاملة من تقنيات التعلم الآلي (Machine learning) وأدوات أخرى عالية التقنية عبر منصة جوجل السحابية "Google Cloud Platform".
لا يتيح الولوج إلى البوابة التدريبية معرفة كيفية استعمال "نمبوس"، لكن كشفت ملفات التدريب التي أتيحت للإنترسبت أن القدرات السحابية الجديدة ستمنح إسرائيل قدرات على معرفة ملامح الأوجه، والتصنيف الآلي للصور، ورصد الأشياء، بل وحتى تحليل المشاعر، وأورد الملف أن للتقنية القدرة على استشعار المحتوى العاطفي للأوجه الملتقطة في الصور والأحاديث وخط اليد (Auto ML).
تطبيق آخر ملك "جوجل" متاح عبر "نمبوس"، يتيح التعلم الآلي الأوتوماتيكي، وهو عبارة عن تطبيق يقوم بتلقين آلي للبرمجيات بشكل يجعلها قادرة على معرفة الخصائص المراد التعامل معها، وبالتالي جعلها قادرة على التنبؤ بالسلوكيات المستقبلية للأشخاص محل البحث.
يؤسس هذا المسار التدريبي ما يعرف بـ"النموذج"، وهو عبارة عن مجموعة التلقينات الحاسوبية التي تطبق لمعرفة الأشياء والسمات في البيانات المستقبلية بصفة أوتوماتيكية.
كما يتطلب إقامة هذه النماذج أموالاً وإمكانات حاسوبية كبرى، لا تتاح إلا لشركات بحجم "جوجل". وستقدم "جوجل" نماذج مماثلة لإسرائيل عبر صفقة "نمبوس" على غرار "Cloud Vision".
فإذا كان الـ"Cloud Vision" عبارة عن نموذج مُدَرب جاهز للاستعمال، فإن "Auto ML" يهيئ للزبون مسار ترويض "النموذج"، وذلك حسب الطلب، ويتم ذلك باستعمال بيانات الزبون وتصميمه، الأمر الذي سيسمح لقوى الأمن والجيش الإسرائيلي بتدريب نماذج جديدة، بواسطة قدرات "جوجل" الحاسوبية، تكون خاضعة كلياً لسياسة إسرائيل، وقائمة على تشديد القبضة الأمنية على الفلسطينيين.
سيمكّن إنشاء مباني مشروع "نمبوس" التي ستقام في الأراضي الفلسطينية المحتلة الحكومة الإسرائيلية من السيطرة الكلية على التكنولوجيا الجديدة المتاحة بفضل تعاون "جوجل وأمازون"، بجانب تركيز البيانات المحصّلة على الأراضي الخاضعة لاختصاصها القانوني. ويجدر ذكر أن إسرائيل تستعمل قدرات "جوجل وأمازون" السحابية المسجلة خارج إقليمها والموجودة في ألمانيا وأيرلندا وهولندا.
وهو الأمر الذي يجعل بيانات إسرائيل عرضة للاختصاص القضائي لهذه الدول، وذلك ما سيتم تجنبه بعد استكمال إنجاز "نمبوس"؛ إذ لن يتاح مستقبلاً الولوج إلى البيانات أو وقف استعمالها مثلما حدث في الماضي نتيجة الضغوط التي وقعت على عمالقة النت عقب الهجمات المتكررة على غزة.
لقد أقرّ "جاك بولسون" الرئيس السابق لأمن الشركات في جوجل أن أحد أهم أهداف "نمبوس" هو منع حكومات الدول الأخرى من الحصول على بيانات ذات صلة بالقوات الإسرائيلية تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتجاوزات خطيرة بغية تسليمها للمحكمة الجنائية الدولية.
صفقة "نمبوس" في أخلاقيات عمل "جوجل" للذكاء الاصطناعي
أعلنت شركة "جوجل" مبادئ عملها منذ مدة، من أجل طمأنة جمهور مستعمليها وموظفيها، وأكدت أن الغاية النهائية من تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي هي خدمة الصالح العام والبشرية، حيث تمتنع الشركة عن استعمال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في برمجيات مرتبطة بالتسليح أو الجوسسة، وهذا من شأنه إلحاق أضرار وانتهاك مبادئ القانون الدولي العام وحقوق الإنسان.
بيد أن انخراط شركة "جوجل" في صفقة "نمبوس" أعاد للواجهة مسؤوليات الشركة والتزاماتها بشأن عدم استعمال قدراتها في الإضرار بالغير، الأمر الذي وضع الشركة أمام معضلة كبيرة، لاسيما أن مشروع "نمبوس" يقوم على بنود تعاقدية تمنع المتعاقدين "ألفابيت جوجل وأمازون" من التراجع أو منع خدماتها المقررة في الصفقة.
بل أكثر من ذلك، فإن اشتراط تشييد المراكز السحابية في إسرائيل هدفه إخضاع كل التكنولوجيا المحولة للاختصاص القانوني الحصري لإسرائيل.
القانون الدولي لحقوق الإنسان
أما القانون الدولي لحقوق الإنسان فيمنح الحماية الكاملة للفلسطينيين من الانتهاكات المرتبطة بالحياة الخاصة، لاسيما في العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية.
ولما كانت القضية الأساسية للشعب الفلسطيني تجد أساسها في مبدأ حرية الشعب في تقرير مصيره، الموثّقة والمكرسة في الشرعية الدولية، فإن المطالبة بالتمتع بالحق في الحياة الخاصة لا يتفق مع الواقع القائم على مصادرة الحق في الأرض.
لذلك وجب التمسك من باب أولى بالحق في التحرر من براثن الاحتلال باعتباره القضية الجوهرية التي ينبغي أن نقرأ ونفهم على ضوئها الانتهاكات الموضوعاتية التي انجرت عن هذا الوضع من تقييد للحريات الأساسية، كالتنقل والإقامة وتقييد الحياة الخاصة وغيرها.
تخضع الأراضي الفلسطينية للقانون العسكري الإسرائيلي، لذلك فإن النصوص ذات الصلة بالقانون الدولي لحقوق الإنسان لا تؤخذ بعين الاعتبار في منظور الاحتلال الإسرائيلي، وذلك ما أورده تقرير منظمة العفو الدولية الموسوم بـ"نظام الفصل العنصري (أبارتايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين".
حيث تُخضِع إسرائيل الفلسطينيين الموجودين في الضفة الغربية، أو طالبي المرور نحو أو خارج غزة، للقانون العسكري الإسرائيلي، ويحاكمون أمام القضاء العسكري بعكس السكان اليهود الذين يحظون بحقوقهم كاملة أمام القضاء المدني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.