بدأت معركة باخموت يوم 17 مايو/أيار 2022، وأعلنت روسيا سيطرتها على المدينة الأوكرانية يوم 21 مايو/أيار 2023، فماذا تعني تلك الملحمة الدموية للطرفين وللحرب بشكل عام؟
كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد هنأ، الأحد 21 مايو/أيار، مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة والجيش الروسي على ما وصفه بأنه "تحرير" مدينة باخموت في شرق أوكرانيا، والتي تطلق عليها روسيا اسم أرتيوموفسك الذي يعود إلى الحقبة السوفييتية.
وفي بيان نُشر على الموقع الإلكتروني للكرملين قال بوتين إن المعركة -وهي الأطول والأكثر دموية في الحرب المستمرة منذ قرابة 15 شهراً- انتهت بانتصار روسي، وإن كل من أبلى فيها بلاءً حسناً سيحصل على جوائز من الدولة.
وقال البيان: "هنأ رئيس الدولة مجموعات فاغنر الهجومية، وكذلك جميع أفراد وحدات القوات المسلحة الروسية الذين قدموا الدعم والغطاء اللازمين، على إتمام عملية تحرير أرتيوموفسك (باخموت)"، مضيفاً: "كل من تميزوا سيحصلون على جوائز من الدولة".
ماذا تقول أوكرانيا عن باخموت؟
معركة باخموت هي الأطول والأكثر دموية منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، وهو الهجوم الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، على الرغم من كون باخموت مدينة صغيرة في شرق أوكرانيا.
وتقع مدينة باخموت في الشمال الشرقي لمنطقة دونيتسك على بعد حوالي 13 ميلاً فقط من منطقة لوغانسيك، وتمثل المنطقتان معاً إقليم دونباس، الذي تعتبر السيطرة عليه بالكامل الهدف الرئيسي الكبير للرئيس فلاديمير بوتين، الذي اختص "تحرير الإقليم" بجانب كبير من التركيز خلال أحاديثه عن سير "العملية العسكرية الخاصة"، وهو التوصيف الروسي للحرب في أوكرانيا.
وكانت منطقتا دونيتسك ولوغانسيك قد أعلنتا الانفصال عن أوكرانيا منذ عام 2014، لكن موسكو لم تعترف بذلك الانفصال أو الاستقلال إلا يوم 21 فبراير/شباط من العام الماضي، أي قبل 3 أيام فقط من اندلاع الحرب.
ومنذ عام تقريباً، أصبحت باخموت تحديداً الهدف الرئيسي للهجوم الروسي في الشرق، نظراً للموقع الاستراتيجي للمدينة من جهة، ولأن السيطرة عليها تعني الكثير بالنسبة لتمركز الروس في إقليم دونباس بشكل عام، فالمدينة تقع في مفترق طرق شرقاً نحو حدود لوغانسك ومن ناحية الشمال الغربي نحو سلوفيانسيك والجنوب الغربي نحو كوستيانتنفيكا.
وبالتالي فإن حسم السيطرة على باخموت يعني تأمين خطوط الإمداد للقوات الروسية، استعداداً للزحف نحو مزيد من أراضي الإقليم. وعلى مدى 6 أشهر تقريباً، واصلت القوات الروسية السيطرة تباعاً على الطرق المؤدية إلى مدينة باخموت. فبدلاً من الاندفاع نحو مركز المدينة مباشرة، اختارت مجموعات فاغنر الإحاطة بالمدينة عبر قوس ممتد من ناحية الشمال، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
لم تعترف أوكرانيا رسميا بسقوط باخموت بشكل كامل بين أيدي الروس، وإن كان الرئيس فولوديمير زيلينسكي اعترف بالأمر ضمنياً خلال وجوده في اجتماعات مجموعة السبع G7 في اليابان.
قال زيلينسكي الأحد 21 مايو/أيار، إن باخموت "لم تسقط تحت الاحتلال الروسي. الواقع أن صور هيروشيما [المدمرة بعد قذفها بالقنبلة النووية في الحرب العالمية الثانية] تذكرني بباخموت. فالمدينة لم يعد فيها أي شيء على الإطلاق، كل المباني دمرت. لم يعد فيها سوى الدمار الشامل الذي لم يبقِ شيئاً ولم يذر. لا يوجد شيء، ولا يوجد شعب".
والإثنين قالت أوكرانيا إن قواتها ما زالت تتقدم على جانبي مدينة باخموت في شرق البلاد رغم تراجع "حجم" تحركاتها، وإن روسيا تجلب مزيداً من القوات، إذ أكدت هانا ماليار نائبة وزير الدفاع الأوكراني أن بلادها لها موطئ قدم صغير داخل المدينة نفسها. وقالت في تصريحات نقلها التلفزيون "من خلال تحركنا على الجانبين -في الشمال والجنوب- ننجح في تدمير العدو. بالتحرك على طول الجانبين والسيطرة على مرتفعات معينة هناك، جعلت قواتنا المسلحة من الصعب للغاية على العدو البقاء في المدينة نفسها".
وأضافت ماليار: "ما زلنا نتقدم، لكن حجم التحرك يتراجع إلى حد ما. إذا تحدثنا عن الشمال، فهناك نشاط أقل بكثير هناك. إذا تحدثنا عن الجنوب، فنحن نتقدم، والدفاع عن باخموت كمدينة قد حقق بالكامل هدفه العسكري". لكن لم يتسنّ لرويترز التحقق من الوضع في ساحة المعركة.
ماذا تعني سيطرة روسيا على باخموت؟
نشرت صحيفة The Times البريطانية تقريراً يرصد التداعيات الخاصة بسقوط باخموت تحت السيطرة الروسية بعد هذا القتال الدموي الطويل، حيث سقطت أول قذيفة روسية على مدينة باخموت الأوكرانية في 17 مايو/أيار 2022. وبعد عام تقريباً، وقف يفغيني بريغوزين، قائد مجموعة مرتزقة فاغنر الروسية، في إحدى الساحات المدمرة من آثار القصف على المدينة، وقال: "اليوم، الساعة 12 ظهراً، أُعلن أننا سيطرنا على باخموت بالكامل".
النفي الأوكراني لإعلان بريغوزين، جاء في تقرير المستجدات الصادر عن القوات البرية الأوكرانية صباح الأحد 21 مايو/أيار، ونصّ على: "يواصل العدو تنفيذ عملياته الهجومية في منطقة باخموت. المعركة على مدينة باخموت لم تضع أوزارها".
ويوضح هذا الموقف مدى صعوبة تجاوز ضباب الحرب للتحقق من الواقع الميداني الذي ما ينفك يتغير في ساحة المعركة. أما عندما يكون الطرفان في أشد الحاجة إلى نوع من الأفضلية النفسية على خصمه في سياق الاستعداد لهجوم أوكراني كبير، فإن التحقق مما يجري هناك يكاد يكون مستحيلاً.
مع ذلك، فإن الأسئلة حاضرة: ما هي الرواية الأكثر منطقية للأحداث في باخموت؟ ولماذا تحمل معركة هذه المدينة -التي كانت مشهورة ذات يوم بمناجم الملح و"الشمبانيا السوفييتية"- مثل هذه الأهمية بعد عام من اندلاعها؟
تعتبر سيطرة مجموعة فاغنر على باخموت، إن تأكدت بشكل تام، أول إنجاز مهم لروسيا في الحرب منذ 10 أشهر، وضربة للمعنويات الأوكرانية في الوقت نفسه. لقد تكبد كلا البلدين خسائر فادحة في القتال من أجل باخموت، وعانت القوات من الجانبين خسائر شديدة يقال إنها بلغت آلاف الجنود، ومع أن أياً من الجانبين لم يكشف عن أعداد قتلاه، فإن الشواهد حاضرة فيما أنفقه كل جانب من كميات هائلة من الذخيرة، ومناطق المدينة التي تحول معظمها إلى أنقاض.
قال زيلينسكي في مارس/آذار إن كييف لا يمكنها أن تسمح بسقوط باخموت، لأن نجاح بوتين في تحقيق إنجاز هناك سيمكِّنه من "ترويج هذا النصر للغرب والمجتمع الروسي والصين وإيران"، و"إن رأى منا أقل قدر من الضعف، فسوف يحمل علينا أكثر وأكثر وأكثر" ويكبِّدنا مزيداً من الخسائر.
وعلى الرغم من أن المؤسسة العسكرية في موسكو لم تؤكد انتصار فاغنر في معركة باخموت، فإن هناك بعض الأسباب التي تدعو لتصديق الرواية الروسية هذه المرة، بحسب الصحيفة البريطانية.
إذ انشغلت القوات الأوكرانية الأسبوع الماضي بالحفاظ على موطئ قدم لها في أقصى الطرف الجنوبي الغربي من المدينة. وقد بقي منفذ الإمدادات والهروب، طريق T0504 الذي وصفته القوات الأوكرانية بـ"طريق الموت"، سالكاً تقريباً. ومع ذلك، فقد بدا أن تركيز القوات الأوكرانية قد انصرف بعيداً عن المناطق الحضرية في باخموت، والتي قال بريغوزين إن قواته استولت عليها "داراً بعد دار".
القيمة الرمزية لباخموت أهم من أهميتها استراتيجياً
لطالما كانت القيمة الرمزية لباخموت أكثر أهمية من مكانتها الاستراتيجية، فالقوات الروسية ترى باخموت بوابة لمهاجمة المدن الأوكرانية المكتظة بالسكان في سلوفيانسك وكراماتورسك، ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة؛ لوجود مستودع للسكك الحديدية فيها. لكن السؤال هنا، الذي يطرحه كثير من المراقبين الغربيين، هل كانت الحيلولة دون هذه العواقب تستحق التضحية بنحو 100 إلى 200 جندي أوكراني يومياً في غمار المراحل الأشد وطأة على أوكرانيا في هذه المعركة؟
كثيراً ما شدد العقيد الجنرال أولكسندر سيرسكي، قائد القوات البرية الأوكرانية، على أهمية الروح المعنوية والجوانب النفسية للحرب. ولما توقفت معظم المعارك طوال فصل الشتاء على امتداد خط الجبهة البالغ طوله 965 كليومتراً، استحوذت معركة باخموت على اهتمام لا يكافئ أهميتها الحقيقية.
أُلقيت القوات الأوكرانية الأقل عدداً في أتون الدفاع عن المدينة، وتمسك الجنود بمواقعهم رغم المحن المتواصلة التي لحقت بهم. فقد كان اللقب المفضل استخدامه لدى الحكومة الأوكرانية لوصف الجنود المناضلين على الجبهات منذ عام 2014، هو لقب "المدافع"، الذي يرفع من شأن المقاتلين الذين يضحون بدمائهم للدفاع على الأرض.
لكن القوات الأوكرانية تمكنت من تغيير القوة الدافعة لتحركاتها ببراعة خلال الشهر الماضي، فقد شنَّت سلسلة من الهجمات على المواقع الروسية في 9 مايو/أيار إلى الجنوب من المدينة، وفي 11 مايو/أيار إلى الشمال الغربي، فنشأ عن ذلك رواية بملامح أخرى للنجاح الأوكراني، تقوم على الهجوم وليس على الدفاع وحسب.
إذ لما رأى سيرسكي أن طريق T0504 من المحتمل أن يسقط، وأن موطئ قدم القوات الأوكرانية في المناطق الحضرية تزايدت صعوبة الدفاع عنه، أدرك أنه لا بد من اللجوء إلى سردية مختلفة: سلسلة من الهجمات على القوات الروسية في المناطق الريفية المحيطة بالمدينة.
وفي الوقت نفسه شدد مرتزقة فاغنر من هجماتهم بهدف إعلان سيطرتهم على المدينة، فقاتلوا من دار إلى دار في وسط المدينة، ولكن إذا كانت مواقعهم في شمال غرب المدينة وجنوبها لا تزال معرضة لهجمات القوات الأوكرانية، فهل يمكنهم حقاً الادعاء بأنهم سيطروا على باخموت؟
وعلى الرغم من أن القتال من أجل السيطرة على المدينة ممتد منذ 10 أشهر، قال بريغوزين، السبت 20 مايو/أيار، إن مقاتليه لن يحتفظوا بها إلا 5 أيام فقط، ثم سيُسلمونها إلى القوات الروسية النظامية. وهذا أحد مقتضيات صراع القوة الدائر، فقد استثار بوتين لإمداده بالذخيرة التي يحتاج إليها للحفاظ على مواقعه بالمدينة، وإلا سينسحب منها ويكشف نقاط ضعف القوات النظامية والمجندين الذين وصفهم بريغوزين مراراً بأنهم "جبناء".
وقالت وزارة الدفاع البريطانية إن الهجمات الأوكرانية في محيط المدينة أدت إلى جذب الاحتياطيات الروسية، ما قد يضعف عمق الخطوط الدفاعية لموسكو في أماكن أخرى؛ حيث تستعد أوكرانيا لهجومها المضاد المتوقع على نطاق واسع.
قال مايكل كلارك، الأستاذ الزائر في الدراسات الدفاعية في كينغز كوليدج لندن: "حقق الأوكرانيون شيئين بهجماتهم في الشمال والجنوب"، أولهما أنهم "صرفوا الانتباه عن حقيقة أنهم فقدوا فعلياً المركز الحضري للمدينة، وثانيهما أنهم ابتكروا وسيلة أخرى لبث الرهبة بين الروس" وزعزعة سيطرتهم على المدينة.
فحتى لو استولت مجموعة فاغنر على جميع مباني باخموت، فإن لحظة انتصار روسيا لن تلبث أن تتهاوى إذا تمكنت كتائب الهجوم الأوكرانية من الالتفاف حول القوات الروسية في المدينة واكتساحها بأسلوب الكماشة العسكرية.
وقال كلارك: "لقد فقد الأوكرانيون باخموت فعلياً، لكن لا داعي يجبرهم على الاعتراف بذلك ما داموا لم يفقدوا السيطرة على طريق T0504″، "فليس من المهم [إن كانوا قد انسحبوا من المدينة] ما داموا ليسوا مضطرين إلى الاعتراف بذلك للعالم"، و"إذا تمكنوا من الصمود أسبوعاً أو عشرة أيام أخرى، فسيفقد الأمر أهميته؛ لأن [سقوط باخموت في أيدي الروس] لن يعود له أثر حينما يبدأ الهجوم الأوكراني الكبير".