انسحاب مقتدى الصدر من الحياة السياسية في العراق ليس حدثاً فريداً، فقد تكرر 10 مرات على الأقل، فهل يعود عن قراره هذه المرة أيضاً؟ وهل هناك أطراف تريد عودته؟ ولماذا؟
كان رجل الدين الشيعي وزعيم التيار الصدري قد أعلن انسحابه من العملية السياسية في نهاية أغسطس/آب 2022، بعد عام من الانسداد السياسي، والأحداث الدامية في العاصمة العراقية بغداد، رغم تصدر تيار مقتدى الصدر الانتخابات العامة المبكرة التي كانت قد أجريت في أكتوبر/تشرين الأول 2021.
موقع Middle East Eye البريطاني نشر تقريراً عنوانه "كيف يحاول خصوم الصدر استدراجه إلى الحياة العامة العراقية"، يلقي الضوء على كواليس الانسحاب رقم 11 للصدر من الحياة السياسية واحتمالات عودته هذه المرة.
اعتكاف مقتدى الصدر.. ماذا حدث؟
مع اقتراب الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك (انتهى 20 أبريل/نيسان الماضي)، كان مقتدى الصدر مشغولاً بالتحضيرات لاعتكافه السنوي في مسجد الكوفة الكبير. وبدا واضحاً لمن حوله أنه كان يحاول صرف انتباهه عن الأحداث في العالم خارج جدران منزله في حي الحنانة وسط مدينة النجف.
كان قد مر ما يقرب من عام منذ أن أعلن رجل الدين الشيعي صاحب النفوذ انسحابه من السياسة. وخلال الأشهر القليلة الماضية، ومع تشكيل حكومة عراقية جديدة دون مشاركته، رفض رفضاً قاطعاً الدخول في أي حوار سياسي أو استقبال زوار يحاولون التحدث إليه حول التطورات أو القضايا التي تواجهها البلاد.
كانت كتلة "سائرون"، التابعة للتيار الصدري قد فازت بالمركز الأول في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وحصدت 73 مقعداً، بزيادة مقدارها 19 مقعداً عما حققته الكتلة في انتخابات 2018، وهي النتيجة التي جعلت مقتدى الصدر يسعى لتولي منصب رئاسة الحكومة، بحسب موالين له وقتها، لكن وقع صدام كبير بينه وبين الكتلة الشيعية الأخرى الموالية لإيران، والتي تضم ميليشيات الحشد الشعبي.
وكان الصدر قد قال عشية الفوز في الانتخابات إنه منذ اللحظة "يجب حصر السلاح بيد الدولة ومنع استخدامه خارج هذا النطاق، وإن كان ممَّن يدعون المقاومة"، في إشارة مباشرة إلى ميليشيات الحشد الشعبي المسلحة والحليفة لإيران.
لكن العراق شهد اضطرابات وتوترات واقتحامات للبرلمان ووصلت الأمور إلى حافة الهاوية، وفي النهاية أعلن الصدر انسحابه من الحياة السياسية بشكل نهائي.
وخلال رمضان الماضي، كان بوسع معاوني الصدر ومرافقيه أن يروا مدى صعوبة التزام الصدر بالهدوء أثناء قيامه بترتيباته للاعتكاف بمسجد الكوفة. ومن الواضح أنه كان من الصعب عليه الابتعاد عن الدراما اليومية للسياسة العراقية.
لم يكن أمام الصدر سوى أيام قليلة قبل أن يتوجه إلى الكوفة. قال أحد مساعدي الصدر المقربين لموقع Middle East Eye البريطاني، إنه سأل من سينضم إليه في الاعتكاف وما هو الطعام الذي سيُقدَّم لهم خلال تلك الأيام. وأخبره الجميع بأن كل شيء سيجري وفق ما يشاء وأنه لا يوجد ما يدعو للقلق. لكن هذا لم يكن صحيحاً تماماً.
في 13 أبريل/نيسان، بعد صلاة العشاء مباشرة، بدأ انتشار مقطع فيديو قصير على وسائل التواصل الاجتماعي. يظهر فيه شاب ملتح يرتدي زياً دينياً أسود، ووجهه مخفي وراء قناع أسود. دعا الجميع إلى مبايعة الصدر، الإمام المنتظر الثاني عشر للشيعة الذي يُعتقد أنه سيظهر كمنقذ لتحقيق العدالة من أجل الجميع.
قال الملثم إن مسجد الكوفة سيشهد إطلاق "حملة كبيرة" لإعلان الولاء للصدر أثناء اعتكافه هناك. وبعد ساعات، تجمع العشرات من أنصار الصدر، الذين يطلقون على أنفسهم "أصحاب القضية"، في حي الحنانة أمام منزله لإعلان ولائهم.
دُهِشوا عندما قابلهم حراس الصدر دون تحية، في المقابل اعتدوا عليهم وسلَّموهم إلى الشرطة، وفقاً لمصادر محلية في حديثها لموقع Middle East Eye.
كان الصدر يعرف بالفعل أن هناك من بين الأكثر تكرساً في التيار الصدري ممن يعتقدون أنه المهدي، ولم تكن اللقطات مثل فيديو الرجل المقنع فريدة من نوعها. ولكن لسبب ما، فإن التطورات "استفزته كثيراً وأثارت مخاوفه"، على حد قول مساعد الصدر. وبدلاً من أن يكون عرضاً للدعم، نُظر إلى الفيديو على أنه محاولة لزعزعة الاستقرار الذي يحاول الصدر أن يكرّسه حول نفسه.
وبحسب المساعد، أياً كان من يقف وراء الفيديو، فقد أراد استفزاز الصدريين للتجمع في مسجد الكوفة ثم مواجهة رجال الدين الشيعة في النجف، الذين لم يقبلوا الادعاء بأن الصدر هو منقذهم الذي طال انتظاره.
فتوى الحائري ضد مقتدى الصدر
إذا كان هذا التحليل صحيحاً، فقد أظهر رد الصدر أنه يتفهم جيداً ما يدور في اللعبة وقرر أن ينأى بنفسه عنه في أسرع وقت ممكن. ألغى اعتكافه، وأمر بإغلاق معظم مكاتبه، وتوقف العمل الديني والاجتماعي لحركته لمدة عام على الأقل.
قال ما لا يقل عن ثلاثة قادة شيعة بارزين لموقع Middle East Eye إن "خطةً خبيثة كانت وراء تلك الحركة"، وإن الصدر كان بالفعل هدفاً.
منذ ذلك اليوم، تلقى الصدر المزيد من الضربات المؤلمة، سواء من قبل خصومه السياسيين أو الأشخاص الأقرب إليه. ويبدو أن أكثر من لاعب يحاول إخراجه من عزلته.
في الفقه الشيعي، يجب على المسلمين البالغين اختيار رجل دين كبير ليكون مرجعهم الديني واتباع فتاواه وتعليماته في جميع شؤون الحياة. وتقليدياً، يجب أن يكون هذا المرجع حياً ومعروفاً بعلمه الديني. لكن مؤسسي التيار الصدري، محمد باقر الصدر ومحمد محمد صادق الصدر، شددا على أن المرجع يجب أن يكون أعلم رجال الدين حياً أو ميتاً.
لم يخرج آية الله العظمى كاظم الحائري، الذي كان تلميذاً للصدر الأول ووصي الثاني، عن هذا الخط. والواقع أنه أصدر فتوى تسمح للناس باتباع مرجع ميت، بشرط أن يكون لهم إذن من حي مثله.
عندما اغتيل محمد محمد صادق الصدر على يد عملاء صدام حسين عام 1999، بدأ الصدريون باتباع الحائري روحياً ونجل الصدر المقتول، مقتدى، سياسياً.
منح الحائري الإذن لمقتدى الصدر لإدارة مكتب والده والمدارس الدينية، وكذلك الأموال التي تُجمَع من خلال الخُمس (الصدقة الدينية الإلزامية) والتبرعات.
وقد أفاد هذا الترتيب الصدر بشكل كبير وساعد في إبقاء التيار الصدري متماسكاً تحت قيادته، ولا سيما الحفاظ على ولاء الشباب الذين وُلِدوا بعد وفاة والده.
تغير هذا الوضع تماماً في نهاية شهر أغسطس/آب من العام الماضي، عندما أعلن الحائري المقيم في مدينة قم الإيرانية تقاعده "المفاجئ وغير المسبوق" بسبب المرض والتقدم في السن.
وفي إعلانه، ألغى الحائري الإذن الذي منحه للصدر لإدارة أموال وأنشطة الحركة. قال خالد الحمداني، الأستاذ بمعهد النجف العلمي، لموقع Middle East Eye: "التقاعد المفاجئ للحائري أربك الصدر وأحرجه كثيراً". ودفع تقاعد الحائري الصدر إلى تعليق عمل المدارس والمؤسسات الدينية الصدرية، وتوقف عن تلقي الخُمس.
وما أضاف إلى الطبيعة "الصادمة" و"الغريبة" لإعلان الحائري، كما وصفه عدد من علماء الشيعة في النجف، هو الأمر الذي صدر لأتباع المرجع بـ"طاعة" المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي بدلاً من ذلك.
ولكن لم يكتفِ الحائري بإحراج الصدر بربطه بخامنئي، الذي كان بعيداً عنه لفترة طويلة، بل فتح الباب أمام الصدريين لاعتبار رجال الدين الآخرين مرجعاً لهم بدلاً من محمد محمد صادق الصدر.
واليوم، أصبحت مكانة الصدر موضوعاً ساخناً للنقاش، حيث فتح إعلان الحائري الباب أمام خصوم رجل الدين الشيعة للتشكيك في شرعيته في كل فرصة.
وتقوم العشرات من القنوات على منصة تليغرام ومجموعات واتساب وصفحات فيسبوك، بعضها مرتبط بفصائل مسلحة شيعية وبعضها الآخر مجهول الانتماء، بالترويج بشدة للنقاش منذ أسابيع.
ويبدو واضحاً أن التهديد الحقيقي الذي يواجه الصدر سياسي وليس أيديولوجياً، خاصة بعد أن أدرك خصومه -خصومه الشيعة على وجه الخصوص- أن مصدر قوته الأساسي هو نفس مصدر ضعفه الأساسي: فتوى الحائري.
رداً على ذلك، حاول الصدر حشد دعمه، وكان حريصاً على التأكيد لأتباعه أن أعداءه لديهم "مخططات خبيثة" تهدف إلى تشتيت التيار الصدري وحثهم على استجواب مرجعهم أو زعيمهم الصدر نفسه.
واعترف المساعد السابق للصدر بأن رجل الدين يعتمد بشكل كبير على الجيل الأصغر في الحركة، وقال أيضاً إن هؤلاء الشباب ما زالوا ملتزمين تجاهه روحياً وسياسياً.
في العراق الآن، من يرغب في عودة الصدر؟
بدأ انسحاب الصدر في يونيو/حزيران من العام الماضي، عندما أمر الصدر نوابه بالاستقالة من البرلمان بسبب الإحباط بسبب عدم قدرته على تشكيل حكومة. وقد سمح ذلك لخصوم الصدر الشيعة في تحالف إطار التنسيق بتشكيل الحكومة التي يختارونها. بدا الأمر وكأنه انقلاب لا يُصدَّق بالنسبة لهم. بعد أشهر، بدا أشبه بالفخ.
شهد العراق فترةً من الهدوء النسبي في الأشهر الأخيرة. قام قادة إطار التنسيق، الذي يضم معظم القوى السياسية والفصائل المسلحة المدعومة من إيران، بأعمالهم دون مخاوف واضحة.
ومع ذلك، أخبر القادة السياسيون الشيعة موقع Middle East Eye بأن المخاوف بدأت بالظهور.
بعض أكبر المخاوف التي عبر عنها قادة الإطار هي أن بعض شركائهم في التحالف الشيعي "يعتدون" على أراضيهم ويسيطرون على المؤسسات الرئيسية.
في الأساس، تعتبر أجهزة الدولة تجارة مربحة لمن يسيطر عليها. فبينما كان الصدريون يشغلون مناصب قوية في الحكومة، فإن أي شخص يمارس أنشطة غير قانونية وفاسدة يمكن أن يتهمهم بالمسؤولية بدلاً من ذلك، ما يمنح إمكانية الإنكار لمرتكبي هذه الأنشطة.
مع ذلك لم يعد الأمر ممكناً، يجد أصدقاء الصدر وأعداؤه على حد سواء أنهم يفتقدونه ويتمنون عودته إلى الحياة السياسية، "لتخليصهم من الإحراج وتزويدهم بالغطاء المطلوب لأعمالهم غير القانونية"، على حد تعبير أحد قادة الإطار.
وقال القيادي في الإطار للموقع البريطاني: "العديد من الأطراف الدولية والمحلية تعتقد أن وجود الصدر خارج العملية السياسية أكثر ضرراً من وجوده داخلها، وقد حان الوقت لعودته".
وبحسب القيادي، بدأت عصائب أهل الحق في أخذ حصص من غنائم الحكومة أكثر مما يرضي شركاءها. وقال زعيم الإطار إن الصدر "أداة ردع" ويوفر نوعاً من الحماية للعديد من الأطراف.