يحيي الفلسطينيون وأصحاب الضمير الحي في العالم ذكرى النكبة يوم 15 مايو/أيار من كل عام، فماذا يعني إحياء الأمم المتحدة له هذا العام بعد 75 عاماً؟ وماذا عن حق العودة لأكثر من 7 ملايين لاجئ ونازح؟
للمرة الأولى منذ 75 عاماً، يحيي الفلسطينيون، الإثنين 15 مايو/أيار 2023، الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة بمشاركة الأمم المتحدة، إذ يتم هذا العام إحياء الذكرى في أروقة الأمم المتحدة بعد قرار للجمعية العامة بذلك في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، وهو انتصار معنوي هائل لشعب أصبح صموده وتمسكه بحق العودة إلى أرضه ووطنه نموذجاً للبقاء في وجه صعاب وتحديات لا حصر لها.
نكبة فلسطين.. البداية قبل 1948
مصطلح النكبة يرمز إلى التهجير القسري الجماعي عام 1948 لأكثر من 750 ألف فلسطيني من بيوتهم وأراضيهم، حينما نجحت الحركة الصهيونية، بدعم من بريطانيا، في السيطرة بقوة السلاح على القسم الأكبر من فلسطين وإعلان قيام إسرائيل.
لكن النكبة الفلسطينية لم تبدأ عام 1948، وإنما تعود جذورها إلى عقود سابقة على ذلك التاريخ، خلال الانتداب البريطاني في فلسطين، حين بدأ الاستعمار البريطاني تنفيذ مخطط تأسيس دولة صهيونية على أرض فلسطين، وبخاصة منذ عام 1917 من خلال وعد آرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا الأسبق، بإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، في رسالة وجهها إلى البارون روتشيلد، أحد زعماء الجالية اليهودية في بريطانيا، لإحالته إلى الاتحاد الصهيوني في بريطانيا العظمى وأيرلندا.
ومنذ ذلك الوقت، ازدادت وتيرة وصول الصهاينة إلى فلسطين بدعم من البريطانيين، قاموا في البداية ببناء مستوطنات صهيونية، وهو ما مثل بداية تهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين من بيوتهم وقراهم ومدنهم، في ظل دعم كامل من قوات وسلطات الاستعمار البريطاني.
لم يقف الفلسطينيون موقف المتفرج مما يجري في ذلك الوقت، وأدت جهود المقاومة إلى قيام ثورة عربية ضد الإمبريالية البريطانية والاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وكان ذلك عام 1936، واستمرت تلك الثورة دون توقف حتى استخدم البريطانيون القوة الغاشمة لسحقها عام 1939، ليجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة عدوين مدججين بالسلاح، أولهما قوات الاستعمار البريطاني وثانيهما العصابات المسلحة الصهيونية، التي تزايدت أعدادها لتصل إلى 40 ألف شخص في ذلك الوقت.
ونجحت جهود بريطانيا وحلفائها في الأمم المتحدة في استصدار قرار لتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية، وكان ذلك في التاسع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1947. كان اليهود في ذلك الوقت قد تم جلبهم من أوروبا خلال سنوات قليلة، حتى أصبحوا يمثلون نحو ثلث سكان فلسطين.
وعلى الرغم من أن اليهود كانوا لا يسيطرون إلا على نحو 6% من أرض فلسطين، إلا أن قرار التقسيم أعطاهم 55% من مساحة الدولة العربية، فرفض الفلسطينيون والعرب قرار التقسيم، بينما انتهزت الحركة الصهيونية الفرصة ووافقت على التقسيم حتى يضفوا "صفة الشرعية" على فكرة بناء دولة يهودية على أرض فلسطين العربية، مع مواصلة حملتهم المسلحة لطرد وتهجير الفلسطينيين من قراهم ومدنهم.
وجاء يوم 14 مايو/أيار 1948 لتعلن بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين، بعد أن ظلت السلطات البريطانية تسهل سيطرة الصهاينة على عشرات المدن والقرى الفلسطينية وطرد سكانها الفلسطينيين من بيوتهم بالقوة. وفي اليوم نفسه، الذي انسحبت فيه قوات الانتداب البريطاني رسمياً من فلسطين، أعلن رئيس الوكالة الصهيونية ديفيد بن غوريون إقامة دولة إسرائيل.
وخلال دقائق قليلة من ذلك الإعلان، اعترفت أكبر قوتين في العالم وقتها، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بإسرائيل، وأصبح الفلسطينيون بلا دولة.
حق العودة لا يسقط بالتقادم
لكن رغم مرور 75 عاماً على تلك النكبة، التي تعرضت لها فلسطين بمؤامرة دولية وعجز عربي، لا يزال الفلسطينيون صامدين ويحلم اللاجئون والنازحون منهم بحق العودة إلى الوطن.
العجوز الفلسطيني محمد مسعود الطيراوي وزوجته غالية، على سبيل المثال، تخطيا سن الثمانين، غير أنهما لا يزالان يحلمان بالعودة إلى قريتهما الطيرة التي احتلتها إسرائيل عام 1948، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
وفي ذكرى النكبة هذا العام، لا يزال الزوجان يسكنان على أطراف مخيم الجلزون للاجئين الفلسطينيين قرب رام الله وسط الضفة الغربية، حيث أسسا عائلتهما، لكنهما يطمحان أن تنتهى حياتهما في قرية الطيرة التي ولدا فيها. ويقطن مخيم الجلزون للاجئين نحو 14 ألف نسمة، يعيشون في منطقة لا تزيد مساحتها عن ربع كيلو متر مربع، وسط ظروف اقتصادية واجتماعية وأمنية متردية.
ويقع المخيم إلى الشمال من مدينة رام الله وسط الضفة الغربية، تقابله مستوطنة "بيت أيل اليت" وتعد ذات بعد استراتيجي وسيادي لدولة الاحتلال، حيث يقع فيها مقر قيادة الضفة الغربية في جيش الاحتلال الإسرائيلي (مكتب منسق أعمال الحكومة).
وقال الطيراوي للأناضول: "متأملون بوجه الله تعالى بالعودة للأرض، والبيت". ويبدو العجوز منهكاً، فقد بلغ سن الـ85، غير أن ذكريات اللجوء لا تزال حية في مخيلته.
الطيراوي استرجع الذكريات المؤلمة، قائلاً: "أهالي قريتي الواقعة قرب مدينة اللد (داخل إسرائيل) هجروها بعد اشتداد المعارك مع العصابات الصهيونية. الناس هربوا بعد أن وقعت مجازر دامية في القرى والمدن الفلسطينية، تركنا خلفنا كل شيء، البيت والأرض وكل شيء، حملنا ما يمكن حمله من أوراق ومفاتيح ومقتنيات صغيرة على أمل العودة".
وتذكر الطيرواي، الذي كان يبلغ من العمر 10 سنوات في حينه، كيف "عشنا أياماً صعبة. بيتنا (نمنا) في الجبال والكهوف ثم انتقلنا من قرية إلى أخرى بالضفة على أمل العودة قريباً إلى قريتنا".
يصمت العجوز ويضيف: "الأيام باتت سنوات طويلة وقد شارفنا على نهاية العمر دون العودة"، ويذكر العجوز الفلسطيني أن عائلته "اضطرت إلى ترك قطيع من الماشية (خراف) للعصابات الصهيونية خلال اللجوء".
وعن قريته الطيرة يقول: "كان في القرية مدرسة، والناس تعمل في الزراعة، حيث يزرعون السمسم والقمح والشعير والخضراوات والزيتون والفواكه". ويصف قريته بـ"الجنة".
بدورها، قالت زوجته غالية والبالغة من العمر 81 عاماً، إنه "وبالرغم من الأوضاع الحالية وبناء الجدار الفاصل بين الضفة الغربية والداخل (أراضي 48)، غير أن أمل العودة موجود. حقنا بالعودة مقدس، ولن نقبل أي بديل سواء تعويض أو توطين أو غيره. لو عرضت علينا ملايين الدولارات لن نقبل بها، صحيح نعيش في مخيم لكن حقنا بالأرض لا بديل عنه".
وتقول بلغتها المحلية المحكية: "ريحة (رائحة) البلد تسوى كل شيء، يا ريت نعود، بلادنا عزيزة علينا"، مشيرة إلى أنها "كانت طفلة في النكبة، لكنها عاشت أياماً مشتتة بين الجبال والكهوف، حتى استقرت عائلتها في بلدة بيتا بالقرب من نابلس (شمالي الضفة) ثم مخيم الجلزون".
تزوجت غالية بالطيراوي، وهي من بلدة الطيرة ذاتها، وتحكي العجوز غالية أن عائلتها "نزحت دون أن تأخذ معها شيئاً، وكل الأمل بالعودة بعد أيام فقط"، مشيرة إلى أن عائلتها "فقدت أقرباءها على يد العصابات الصهيونية منهم من قتل خلال المعارك، ومنهم من قتل خلال النزوح".
وتحتفظ العائلة بأوراق ملكية أراضيهم في الطيرة، ومروسة بـ"حكومة فلسطين"، وتظهر الأوراق ملكية العائلة لقطعة أرض تبلغ مساحتها 1495 متراً، وعن ذلك تقول الحاجة غالية إن العائلة "تملك عدداً من القطع هذه واحدة منها فقط"، وتشير إلى أنها "ستورث تلك الأوراق ومفاتيح المنازل لأحفادها".
كم عدد الفلسطينيين الآن؟
بحسب بيان لجهاز الإحصاء الفلسطيني، صدر الأحد 14 مايو/أيار 2023، أدت النكبة الفلسطينية عام 1948 إلى تشريد 800 ألف فلسطيني من أصل 1.4 مليون كانوا يعيشون في فلسطين، وأن إسرائيل دمرت 531 قرية فلسطينية وقتلت 15 ألف فلسطيني وارتكبت أكثر من 70 مجزرة.
وأضاف الجهاز في بيانه: "رغم تهجير نحو مليون فلسطيني في 1948 وأكثر من 200 ألف فلسطيني بعد حرب يونيو/حزيران 1967، بلغ عدد الفلسطينيين الإجمالي في العالم 14 مليوناً و300 ألف نسمة نهاية 2022، ما يشير إلى تضاعف عدد الفلسطينيين نحو 10 مرات منذ أحداث نكبة 1948".
وبشأن أماكن تواجد الفلسطينيين، أفاد بيان الجهاز بأن حوالي نصفهم (نحو 7 ملايين و100 ألف نسمة) موجودون في فلسطين التاريخية (الضفة وغزة وإسرائيل)، بينهم نحو مليون و700 ألف في المناطق المحتلة عام 1948 (إسرائيل)".
وأوضح أن عدد السكان في الضفة الغربية، بما فيها القدس، بلغ نهاية عام 2022 نحو 3 ملايين و200 ألف نسمة، وحوالي مليونين و200 ألف نسمة في قطاع غزة.
ووفقاً للجهاز، فإن "الفلسطينيين يشكلون 50.1% من السكان المقيمين في فلسطين التاريخية، فيما يشكل اليهود 49.9%".
واستناداً إلى سجلات وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، قال جهاز الإحصاء في بيانه إن عدد اللاجئين المسجلين لعام 2020 بلغ قرابة 6 ملايين و400 ألف، منهم نحو مليونين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وأضاف أن "حوالي 28.4% من اللاجئين المسجلين لدى الوكالة (أونروا) يعيشون في 58 مخيماً رسمياً تابعة لها" في فلسطين ودول الجوار.
وأردف أن النكبة حولت غزة إلى أكثر بقاع العالم اكتظاظاً بالسكان، حيث يوجد "569 فرداً لكل كيلومتر مربع في الضفة الغربية و6019 في قطاع غزة" نهاية 2022.
وبحسب جهاز الإحصاء فإن "النكبة تطهير عرقي وإحلال سكاني وسيطرة على الأرض" وشكلت أحداثها وما تلاها من تهجير "مأساة كبرى للشعب الفلسطيني"، مشيراً إلى "تشريد 957 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم من أصل مليون و400 ألف فلسطيني كانوا يقيمون في 1300 قرية ومدينة في فلسطين التاريخية عام 1948. الاحتلال الإسرائيلي سيطر، خلال مرحلة النكبة، على 774 قرية ومدينة فلسطينية، دمر 531 منها بالكامل، واقترفت العصابات الصهيونية أكثر من 51 مجزرة أدت إلى استشهاد ما يزيد عن 15 ألف فلسطيني". وأفاد بأن ما يزيد عن 100 ألف فلسطيني استُشهدوا دفاعاً عن الحق الفلسطيني منذ النكبة، وأكثر من مليون اعتُقلوا منذ 1967.
وشهد إحياء ذكرى النكبة هذا العام تنظيم مهرجان في مدينة رام الله بالضفة الغربية تضمن مسيرة شعبية وإطلاق صفارة إنذار لمدة خمسة وسبعين ثانية هي عدد السنوات التي مرت منذ النكبة، وعادة ما يحمل المشاركون في المسيرة أسماء المدن والقرى التي كان يعيش فيها أجدادهم.
واختار القائمون على إحياء الذكرى شعاراً يلخص ما حدث في النكبة من رحيل للفلسطينيين عن بيوتهم وتمسكهم بالعودة إليها رغم طول صبرهم، الذي يشار إليه بنبات الصبار في الملصق الذي يضم علم الأمم المتحدة وعليه القرار 194 المتعلق بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، في مؤشر على أن حق العودة لا يسقط بالتقادم.
على الجانب الآخر، يعتبر الاستيطان أحد محاور المحاولات الإسرائيلية التي لا تتوقف لتهويد ما تبقى من أراضي فلسطين، على الرغم من كونها أراضي فلسطينية محتلة. وفي هذا السياق، تزداد وتيرة اقتحام المستوطنين المتطرفين للمسجد الأقصى في حماية شرطة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يقول الفلسطينيون إنه مخطط لفرض التقسيم الزماني والمكاني وتغيير الوضع القائم في المسجد منذ ما قبل تأسيس إسرائيل على أراضي فلسطين بعقود طويلة.
وكانت صحيفة New York Times الأمريكية قد نشرت تقريراً بعنوان "مدينة مقدسة أم مدينة ملاهٍ؟ إسرائيل تخطِّط لإنشاء خط تلفريك إلى القدس القديمة"، ألقى الضوء على المشاريع التي تشارك في تخطيطها وتمويلها منظمات استيطانية متطرفة.