أطلقت إسرائيل وابلاً من مسيّراتها القاتلة، استهدفت النائمين في غزة، فاستُشهد 13 شخصاً منهم 4 أطفال و6 نساء و3 من قادة الجهاد الإسلامي، في "حيلة" اعتادها نتنياهو للهروب من أزماته، فماذا يريد هذه المرة؟
كان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد شن، فجر الثلاثاء، 9 مايو/أيار، عملية عسكرية على قطاع غزة أطلق عليها اسم "السهم الواقي"، تستهدف اغتيال 3 من قادة "سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، نفّذ خلالها عدداً من الغارات الجوية، في خرق لاتفاق وقف إطلاق النار الذي كان قائماً منذ الأربعاء الماضي.
وأكدت سرايا القدس استشهاد القادة الثلاثة، وهم جهاد شاكر الغنام وخليل صلاح البهتيني وطارق محمد عز الدين، مضيفة "لن نغادر مواقعنا، وستبقى المقاومة مستمرة".
وذكر مسؤول في قطاع الصحة بغزة أن ما لا يقل عن 13 شخصاً قاستُشهدوا وأُصيب 20 آخرون في الضربات الجوية التي أصابت مناطق سكنية في القطاع الذي يقطنه 2.3 مليون فلسطيني.
ما كواليس العدوان على غزة هذه المرة؟
منذ تشكيل الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، برئاسة بنيامين نتنياهو وعضوية مستوطنين متطرفين من أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وغيرهما، تصاعدت اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس المحتلة، ووضعت الحكومة الإسرائيلية الاستيطان في طليعة ملفاتها، ليصبح التوتر سيد الموقف.
وكانت صحيفة The New York Times الأمريكية قد نشرت تقريراً يرصد كيف أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما لا تريده إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، المشغولة بصراعاتها الخاصة مع روسيا، من خلال دعم أوكرانيا، ومع الصين، من خلال السعي لاحتواء "التنين" الذي يهدد هيمنة واشنطن العالمية.
ضغطت إدارة بايدن بشتى الطرق على حليفتها الصغرى لتوقف، ولو مؤقتاً، إجراءاتها الاستفزازية من التوسع في الاستيطان إلى هدم منازل الفلسطينيين والاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى والتضييق على الأسرى الفلسطينيين في سجونها، لكن دون جدوى.
وفي الوقت نفسه، تعيش إسرائيل حالةً من التوتر الداخلي وتظاهرات غير مسبوقة في الأسابيع الماضية، تنذر بوقوع حرب أهلية، على خلفية التعديلات القضائية التي يريد نتنياهو وحلفاؤه في الحكومة إيتمار بن غفير وزير الأمن الداخلي، وبتسلئيل سموتريتش وزير المالية، وياريف ليفين وزير العدل تمريرها.
وعلى الرغم من الخطوة التصالحية التي اتخذها نتنياهو قبل نحو شهر بتأجيل تمرير التعديلات القضائية، التي تصفها المعارضة بأنها "انقلاب" قضائي، فإن الاحتجاجات الحاشدة لم تتوقف، وها هو موعد تمرير تلك التعديلات يقترب دون أن يلوح في الأفق أي تراجع من جانب المعارضة ولا من جانب حلفائه في الحكومة الائتلافية، ليجد نتنياهو نفسه "محاصراً" مرة أخرى.
والأسبوع الماضي، أدى استشهاد الأسير الفلسطيني خضر عدنان، أحد قادة الجهاد الإسلامي، بعدما دخل في إضراب عن الطعام أثناء احتجازه بأحد السجون الإسرائيلية، إلى إطلاق صواريخ من قطاع غزة وغارات إسرائيلية، لتقترب الأمور من حرب شاملة بين جميع فصائل المقاومة، بما فيها حركة حماس التي تحكم القطاع المحاصر، وبين الاحتلال، لكن نجحت جهود الوساطة التي قامت بها مصر ودول أخرى إلى التوصل لوقف إطلاق النار سريعاً.
كان ذلك يوم الأربعاء الماضي، ولم تشهد جبهة غزة تصعيداً من أي نوع خلال تلك الفترة، حتى فوجئ الجميع بالغارات الإسرائيلية على القطاع فجر الثلاثاء، والتي استُشهد خلالها 3 من قادة الجهاد الإسلامي، إلى زوجاتهم وأطفالهم ومدنيين آخرين وهم نيام.
حسابات نتنياهو "الخاصة"
يثير هذا العدوان الإسرائيلي عدداً من التساؤلات تتعلق بتوقيته ودوافعه، خصوصا أن استهداف 3 من القادة الميدانيين لحركة الجهاد الإسلامي، ثاني أكبر فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، يعني وجود تخطيط مسبق من جانب الاحتلال، وأن قرار العملية لم يتخذ فجأة.
وقد أكدت بيانات جيش الاحتلال على هذه الحقيقة، إذ أشار المتحدث باسمه إلى أن 40 طائرة مقاتلة شاركت في الضربات الجوية التي وصفها "بالدقيقة"، مضيفاً "كان تضافراً بين المعلومات والتوقيت والطقس". وتابع أن الجيش استهدف 10 مواقع لتصنيع الأسلحة والبنية التحتية، من بينها ورش لصناعة الصواريخ وموقع لصناعة الخرسانة المستخدمة في تشييد الأنفاق، فضلاً عن مجمعات عسكرية تابعة للحركة.
ذلك الوصف بأن "العملية دقيقة" هو اعتراف إسرائيلي بأن اغتيال عائلات القياديين الثلاثة من نساء وأطفال لم يكن "عشوائياً"، وهي جريمة بكل المقاييس القانونية والأخلاقية والإنسانية بطبيعة الحال، حتى وإن خرجت تصريحات إسرائيلية لاحقة تنفي استهداف المدنيين عمداً كما يحدث في كل مرة.
بالعودة إلى التساؤلات بشأن التوقيت والدوافع، لماذا الآن؟ الأسبوع الماضي فقط شهد تصعيداً لم يستمر طويلاً واستجابت إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية لجهود الوسطاء، وتم التوصل لهدنة توقف إطلاق النار، فما الذي استجد خلال أيام كي ترتكب إسرائيل "جريمة إرهاب الدولة" هذه، بحسب بيان الرئاسة الفلسطينية؟
الإجابة هي لا شيء على الجبهة الفلسطينية، لكن الدوافع تخص بنيامين نتنياهو وحده على ما يبدو. فمن جهة، قاطع بن غفير جلسات الكنيست (البرلمان) واجتماعات الحكومة خلال الأسبوع الماضي، اعتراضاً على وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو ما يهدد تماسك الائتلاف الحاكم.
ومن جهة أخرى، يمارس ياريف ليفين، وزير العدل، ضغوطه على نتنياهو لتحديد جلسة للتصويت على التعديلات القضائية وتمريرها وإلا الانسحاب من الائتلاف الحكومي، وهو ما لا يريده نتنياهو، أو بمعنى أدق، ما لا يتحمله، بسبب مشاكل رئيس الوزراء القضائية التي تهدد بدخوله السجن.
وفي الوقت نفسه، يهدد التسبب في التصعيد ضد الفلسطينيين وخروج الأمور عن السيطرة واشتعال الموقف في الشرق الأوسط، المشتعل أصلاً في أكثر من جبهة آخرها السودان، بمزيد من التوتر بين نتنياهو والبيت الأبيض، وهو ما برزت ملامحه بالفعل قبل ساعات من العدوان على قطاع غزة.
السفير الأمريكي لدى إسرائيل، توم نايدز، أبلغ مكتب نتنياهو مساء الإثنين، 8 مايو/أيار بأنه سيغادر منصبه، وبعد ساعات قليلة من الغارة على غزة، أعلن السفير الخبر للعاملين في السفارة، بحسب تقرير لموقع Axios الأمريكي.
تقرير الموقع ذكر، نقلاً عن مصادر في الخارجية الأمريكية، أن نايدز أبلغ وزير الخارجية أنتوني بلينكن والبيت الأبيض، الأسبوع الماضي، بأنه يرغب في مغادرة منصبه كسفير لواشنطن لدى تل أبيب "لأسباب شخصية"، لكن الواضح أن عدم رضا السفير عما يحدث من جانب الحكومة الحالية برئاسة نتنياهو هو السبب الفعلي وراء القرار.
ويخدم نايدز في منصبه منذ عامين، ويتمتع بعلاقات جيدة مع أغلب السياسيين في إسرائيل، إلا أنه رفض التعامل مطلقا مع بن غفير وسموتريتش منذ تولي الحكومة الحالية المسؤولية، وأفادت تقارير أمريكية سابقة أن السفير الأمريكي يشعر بـ"الغثيان" من التصريحات والأفعال التي تصدر عن الوزيرين المتطرفين من آن لآخر.
هل تنجح "الحيلة" المعتادة من جانب نتنياهو؟
على أية حال، قرر نتنياهو أن يلعب نفس الورقة التي اعتادها على مدار السنوات الماضية، وهي شن العدوان على الفلسطينيين، على أمل أن يؤدي اشتعال الموقف إلى توحيد الإسرائيليين خلفه، فقد كان رئيس الوزراء المتهم بالفساد وخيانة الأمانة وتلقي الرشوة هو من تسبب في إشعال حرب غزة الأخيرة قبل عامين.
الآن، وقد فعل فعلته ورقص "رقصة الدم" المعتادة، سيتراجع بن غفير عن مقاطعة جلسات الكنيست واجتماعات الحكومة، وسيؤجل وزير العدل استعجاله لتمرير التعديلات القضائية، وستخفف المعارضة من شروطها للخروج من مأزق التعديلات القضائية، ومن ثم يصبح لكل حادث حديث، أو هكذا يخطط نتنياهو.
وللوهلة الأولى يبدو أن نتنياهو يسير على طريق تنفيذ ما يريد. فقد أعلنت المعارضة دعمها للغارات الجوية، بحسب حساباتهم على تويتر، ومنهم رئيس حزب "هناك مستقبل" يائير لابيد، وزعيم حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان وزعيم حزب "الوحدة الوطنية" بيني غانتس. فالثلاثة عبروا عن دعمهم لما وصفوه بأنه "إظهار لقوة إسرائيل".
لكن الزعيمة السابقة لحزب "ميرتس" اليساري، زهافا غلؤون، رأت العدوان على قطاع غزة بصورة مختلفة تماماً، إذ اعتبرت أن كل ما يهتم به نتنياهو هو عدم الزج به في السجن.
كتيت غلؤون على تويتر: "هل عملية السهم الواقي في غزة حتمية حقاً؟ أو أن الغرض منها هو إلهاء عن المحاكمة التي تجري ضده ومن الاحتجاج من ياريف ليفين (وزير العدل) .."، في إشارة إلى الإشكاليات الداخلية لنتنياهو مع مسؤولين في حكومته. وأضافت: "ماذا عن العواقب التي قد تترتب على ذلك؟ نتنياهو لم يعد معنياً بهذا، يريد إنقاذ نفسه من السجن".
ومن جهة أخرى، أشارت التقارير الإسرائيلية إلى أن مكتب نتنياهو اتصل بالقاهرة وعمان للسعي إلى وساطتهما لدى الفصائل الفلسطينية لتجنب التصعيد، لكن البيانات الصادرة من مصر والأردن أدانت العدوان الإسرائيلي، مما يشير إلى أن "احتواء الموقف" هذه المرة ربما لا يكون مرجحاً، عكس ما حدث الأسبوع الماضي.
وقد أصدرت الفصائل الفلسطينية، بما فيها حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، بياناً تعهدت فيه بالرد على العدوان الإسرائيلي، وقال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في بيان "اغتيال القادة بعملية غادرة لن يجلب الأمن للمحتل، بل المزيد من المقاومة".
وتوعدت "الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة" في قطاع غزة، إسرائيل بـ"دفع ثمن جريمة اغتيال 3 من قادة حركة الجهاد الإسلامي"، وقالت "فصائل المقاومة" في بيان مقتضب: "على الاحتلال وقادته، الذين بادروا بالعدوان، أن يستعدوا لدفع الثمن". وحمّل البيان إسرائيل "المسؤولية الكاملة عن تداعيات هذه الجريمة".
الخلاصة هنا هي أن نتنياهو يسعى بشتى الطرق إلى البقاء في منصبه رئيساً للوزراء لتفادي الزج به خلف القضبان، ويبدو أن أداته الرئيسية هي إشعال الموقف ضد الفلسطينيين، على الرغم من أن إشعاله حرب غزة عام 2021 لم ينجح في بقائه في المنصب، فهل يتكرر فشله، وتنفجر الأمور في وجهه هذه المرة أيضاً؟