كان رجال الأعمال المصريون في حفل استقبال غرفة التجارة الأمريكية في مصر، أواخر فبراير/شباط 2023، في حالة من اليأس لأن الاقتصاد المصري كان في حالة سقوط حر. وهذا السقوط المدوي بدأت بوادره قبل عقد من الزمان تقريباً، حين شرعت القاهرة في فورة إنفاق غير مستدامة، فاقترضت أموالاً لتنفقها دون حساب على أسلحة ومشاريع عملاقة وبنية تحتية، كما يقول تقرير لمجلة National Interest الأمريكية.
وما زاد الطين بلة أنه خلال هذه الفترة توسع دور الجيش في الاقتصاد بدرجة كبيرة جداً، ما أدى إلى خنق القطاع الخاص وتثبيط الاستثمار الأجنبي المباشر. وهذا المسار الهبوطي الذي تسلكه أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان يفترض أن يثير قلق واشنطن البالغ.
أزمة اقتصادية عميقة وغير مسبوقة تشهدها مصر
السبب بحسب المجلة الأمريكية، أن هذه الأزمة عميقة وغير مسبوقة. ومنذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم في 2014، تضاعف الدين الخارجي للبلاد أكثر من ثلاث مرات إلى ما يقرب من 160 مليار دولار. وهذا العام ستُخصَّص 45% من ميزانية مصر لسداد الدين القومي، وفي الوقت نفسه يحوم التضخم حول 30%، وارتفعت أسعار المواد الغذائية خلال العام الماضي بأكثر من 60%.
ومن المؤكد أن هذا التدهور ليس خطأ السيسي وحده وحكومته، بحسب المجلة الأمريكية، فقد زادت جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا من الضغوط على الاقتصاد المصري، إذ تراجعت السياحة- التي تمثل 12% من الناتج المحلي الإجمالي- وارتفعت أسعار السلع الأساسية، وخاصة القمح.
العام الماضي، قدّمت السعودية وقطر والإمارات 22 مليار دولار من الاستثمارات، وودائع البنك المركزي لتغطية عجز الدولة المتكرر، والحفاظ على استقرار الوضع المالي في القاهرة، لكن مثلما حدث مع عمليات الإنقاذ الخليجية السابقة، فشل هذا الدعم في نزع فتيل الأزمة.
وفي مواجهة نقطة انعطاف، وقع السيسي في ديسمبر/كانون الأول 2022، اتفاقاً جديداً مع صندوق النقد الدولي. وتعهد الاتفاق بتسليم 3 مليارات دولار نقداً، واحتمال تقديم 14 مليار دولار أخرى في شكل استثمار وتمويل إقليمي ودولي.
وفي المقابل، تلتزم مصر بتعويم العملة وتقليص دور الجيش في الاقتصاد. وتم تعويم الجنيه المصري وانخفضت قيمته بنسبة 50% حتى الآن، لكن السيسي لم ينفذ بعدُ تعهده بتقليص سيطرة الجيش على ما يُقدر بحوالي 30-40% من الاقتصاد.
الخليجيون غير متحمّسين لضخ الأموال في مصر
تدفق أموال الخليج بات متوقفاً على سحب الاستثمارات العسكرية من الاقتصاد. ولهذه الغاية، نشرت الحكومة، في فبراير/شباط، قائمةً بنحو 32 شركة مملوكة للجيش معروضة للبيع، لكن التقييمات المبدئية المتفائلة لهذه المبادرة تبخرت حين تبين أن حصص الأقلية في هذه الشركات هي فقط المعروضة.
ورغم أن بعض هذه الأصول المعروضة للبيع قد تكون مغرية، فيُستبعد أن يتحمس الخليجيون للاستثمار في حصص أقلية في شركات مملوكة للدولة لا تتسم بالشفافية وربما مُبالغ في تقدير قيمتها.
ومثل دول الخليج الغنية بالنفط، يشك صندوق النقد الدولي أيضاً في أن السيسي سيلتزم بتهميش دور الجيش في الاقتصاد المصري، إذ كان من المقرر إجراء التقييم الأوّلي في البرنامج الذي يمتد لأربع سنوات، في 15 مارس/آذار، لكن صندوق النقد الدولي أجَّل هذا التقييم- وصرف شرائح القرض- حتى تحرز القاهرة تقدماً في الخصخصة.
وتحفُّظ السيسي على إجراء هذا الإصلاح مفهوم، فهو ضابط سابق في الجيش، ويعتمد نظامه اعتماداً كبيراً على الدعم المستمر للجيش، لكن خيارات السيسي محدودة، ففي يناير/كانون الثاني الماضي، أوضحت السعودية- الملجأ الأخير للقاهرة- أن أيام المنح غير المشروطة والودائع المحررة من القيود في البنك المركزي المصري قد ولّت. ومن الآن فصاعداً لن تتدفق رؤوس الأموال الخليجية إلى مصر إلا لو كان لها عائد على الاستثمار.
صندوق النقد الدولي وحده يريد من مصر 23 مليار دولار
ومصر تدين بالفعل بـ23 مليار دولار لصندوق النقد الدولي، ولا يزال من غير الواضح إن كانت الدولة ستفي في النهاية بالتزاماتها المرهقة للصندوق. ولا إشارة تُذكر على أن القاهرة تغير نهجها في الإنفاق، فقد أصدرت في فبراير/شباط صكوكاً بقيمة 1.5 مليار دولار، وهي سندات بفائدة 11%.
تهدف هذه الصكوك إلى تمكين الدولة من سداد ديونها في سندات الدين بالعملات الأجنبية، التي كان سعر فائدتها 5.57% فقط، ولذا فحتى في الوقت الذي تقترض فيه مصر من صندوق النقد الدولي، يزداد حجم ديونها، وتقترض مزيداً من الأموال بأسعار فائدة أعلى لسداد الالتزامات المستحقة.
وفي الوقت نفسه، يواجه المواطنون المصريون العاديون صعوبات بالغة، ففي خضم ارتفاع معدلات التضخم يواجه ما يقرب من ثلث السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر- أي يكسبون أقل من 3.80 دولار في اليوم- صعوبة أكبر في سداد نفقاتهم.
وتضررت الطبقة الوسطى بشدة أيضاً، فمنذ تولى السيسي السلطة فقد الجنيه المصري ما يقرب من 80% من قيمته- 50% منها خلال العام الماضي وحده- وهذا فعلياً أفقد المدخرات قيمتها تماماً. إذ ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل الخبز والأرز واللحوم، وأدت الضغوط على احتياطيات العملات الأجنبية إلى ارتفاع تكلفة بعض الأدوية ومحدودية توافرها.
في الوقت نفسه، يتجه أثرياء مصر بشكل متزايد إلى المجتمعات والمجمعات المغلقة في ضواحي القاهرة.
هل تتجه مصر نحو الانهيار؟
تقول المجلة الأمريكية، إنه في النهاية قد يلين السيسي، ويتبنى إصلاحات صندوق النقد الدولي القاسية، ويوقف مسار مصر المتدهور. على أنه في غياب أي تصحيح مهم للمسار، من الصعب أن يتغير الوضع للأفضل، فلو استمرت هذه الأزمة فقد تسوء الأمور.
وقد تشهد مصر احتجاجات عرضية، وزيادة في معدلات الجريمة، وهروب رؤوس الأموال، وقمعاً متزايداً. ومثل تونس ولبنان قد يحاول المصريون الهجرة بصورة قانونية أو غير قانونية، عن طريق البحر إلى أوروبا.
الإدارة الأمريكية لا ترى في إنقاذ السيسي "ضرورة ملحة"
في السياق، يبدو أن إدارة بايدن تدرك أن مصر تواجه مشكلة، لكنها لا تراها ملحة، ففي مؤتمر صحفي مشترك، انعقد في يناير/كانون الثاني الماضي، وصف وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، الصعوبات الاقتصادية التي تواجه مصر بأنها "تحدٍّ"، على عكس نظيره المصري، الذي وصف الوضع بأنه "أزمة".
في الوقت نفسه، تعزو واشنطن الأزمة المالية إلى "مزيج صعب" من فيروس كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا، أي إلى عوامل خارجية وليست داخلية مثل السياسات الاقتصادية غير الحكيمة في مصر. وبعد أكثر من شهر من تأجيل صندوق النقد الدولي لمراجعة برنامجه، لم تعلق واشنطن علناً على تحفظ مصر على الوفاء بالتزاماتها مع صندوق النقد الدولي.
ومع تعداد سكاني يقترب من 110 ملايين نسمة، توصف مصر بأنها "أكبر من أن تنهار"، ولكن يرجح الخبراء الاقتصاديون أن تشهد مزيداً من التدهور جراء الإحجام عن إخراج الجيش من الاقتصاد، وفي غياب شبكة الأمان المالية الخليجية التقليدية. ورغم أن واشنطن ربما لا يساورها قلق كبير إزاء التطورات في مصر، فهو يساور المصريين. فرغم سمعة نظام حسني مبارك السابق بعدم تسامحه مع المعارضة، أعرب عدد من المصريين مؤخراً عن حنينهم إليه، على حد وصف المجلة الأمريكية.