جاء إعلان الملياردير المصري سميح ساويرس، مؤسس شركة أوراسكوم للتنمية القابضة، أنه يفضل التريث في ضخ استثمارات جديدة في مصر بسبب ضبابية سعر الصرف، كاشفاً في المقابل عن نيته في المقابل للاستثمار في المملكة العربية السعودية، ليشكل صدمة جديدة للأوساط الاقتصادية المصرية، ويثير تساؤلات حول تأثيراته الاقتصادية خاصة على العمالة والجنيه المصري.
وحذر ساويرس، السعودية، من أن وزن القطاع الخاص في الاقتصاد الكلي انخفض من 62 إلى 21% خلال عشر سنوات وهذا كلام من جهاز التعبئة والإحصاء.
ورأى أن المشكلة الرئيسية أمام الاستثمار ليست في مسألة دخول أو خروج الدولة من الاقتصاد ومنافستها للقطاع الخاص، بل العقبة الأولى، حسب قوله، هي تسعير الدولار في ظل التفاوت بين أسعار العقود الآجلة في الخارج التي تصل إلى 42 جنيهاً لكل دولار، وسعر السوق السوداء 36، والسعر الرسمي 31 جنيهاً للدولار (الذي يصعب الحصول عليه).
سميح ساويرس لا يعرف كيف يجري حساباته في ظل التفاوت بين أسعار الجنيه
وتساءل سميح ساويرس، أحد أفراد عائلة ساويرس التي تضم عدة مليارديرات ولديها استثمارات خارج وداخل مصر: "كيف أعرف أنا أخسر أم أكسب وعلى أي قيمة للجنيه، سوف أقوم بحساباتي في ظل التفاوت بين الأسعار؟"، وأردف قائلاً: "هذا أمر قاتل لأي دراسة جدوى".
وآل ساويرس رغم تبنيهم أحياناً بعض الأطروحات المعارضة (خاصة أنسي نجيب ساويرس)، فإنهم يعدون كعائلة من أكبر المستثمرين في مصر، إن لم أكبرهم.
فلديهم مشروعات مشتركة مع الحكومة والجيش، خاصة مشروعات البنية الأساسية؛ مثل مشروع القطار السريع الذي تقوده شركة سيمنز الألمانية، ويعد الأكبر في تاريخها منذ تأسيسها قبل 175 عاماً"، حسب وسائل إعلام مصرية، وقيمته عشرات المليارات من الدولارات، كما تبني شركة أوراسكوم أكبر محطة كهرباء في العالم في مصر.
رغم النمو الاقتصادي، نصيب القطاع الخاص بدأ يتراجع منذ 2013
ورغم تقليل سميح ساويرس من دور توسع القطاع الحكومي لاسيما الجيش في الاقتصاد، وتركيزه، تفيد الإحصاءات بأن تراجع دور القطاع الخاص ظاهرة بدأت قبل أزمة شح الدولار، وتفاوت سعر صرف الجنيه، بل بدأ تراجع نصيب القطاع الخاص في الاقتصاد، منذ الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي في يوليو/تموز 2013، وتولي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي السلطة.
قبل عام 2013، رغم وجود نشاط اقتصادي للجيش، لكن لم تكن المخاوف الحالية من مزاحمة المؤسسة العسكرية للشركات الخاصة بنفس الحدة.
ولكن هذا الواقع تغيّر بشكل كبير منذ ذلك الحين. فقد رفعت المؤسسة العسكرية نصيبها من ملكية القدرة الإنتاجية في عدد من القطاعات الرئيسية؛ أبرزها صناعة الإسمنت والصلب، ومحاجر الرخام والغرانيت، وربما الزراعة بشكل عام، من الصفر تقريباً إلى 20-25% أو أكثر. علاوةً على ذلك، أدت المشاريع التي تديرها المؤسسة العسكرية إلى رفع أسعار المدخلات والسلع في القطاع الخاص فعلياً، من خلال تقييد العرض، حسبما ورد في تقرير لمركز "كارنيغي" الأمريكي.
وارتفع معدل النمو الاقتصادي من 2.18% في عام 2013، ليصل إلى 5.5% في عام 2019. ومع بداية جائحة كوفيد-19 في 2020، لم تتجاوز معدلات الانخفاض أكثر من 3.5% فقط.
وقد تزامنت معدلات النمو الاقتصادي تلك مع انخفاض كبير في نسبة العجز المالي التي انخفضت من سالب 12.9% من نسبة الناتح المحلي الإجمالي في عام 2013، إلى سالب 7.8% في عام 2020.
ووفقاً لمرجعيات الليبرالية الاقتصادية الحديثة فإن هذا الانخفاض، الذي يرمز إلى تراجع تدخُّل الدولة في الاقتصاد، كان من المفترض أن يحفز دور القطاع الخاص ويساعده على النمو خاصة مع تدني مستويات البطالة من 13.15% في عام 2013 إلى 7.4% في عام 2021. لكن نظرة فاحصة تكشف أن هذا النمو استند حصرياً إلى استثمارات الدولة التي يهيمن عليها الجيش والتي صاحبها انكماش في السوق المحلي وتدهور في الأوضاع الخارجية وضعف في القطاع الخاص، حسب تقرير آخر لمركز "كارنيغي".
مصادر تمويل هذا النمو، قامت على الديون التي كانت تمثل نحو 80% من إجمالي الناتج المحلي في 2013، وتصاعدت لتصل إلى 88% من إجمالي هذا الناتج في 2020.
كما أن هذا النمو لم ينعكس على معيشة المواطنين؛ حيث يشير تقرير صدر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في أيار/مايو 2019، إلى أن معدلات استهلاك الأسرة المصرية على مستوى الجمهورية قد انخفضت بنسبة مقدارها 9.7%.
ويلاحظ التقرير الإقليمي للوظائف الذي أصدرته منظمة العمل الدولية أنه خلال السنوات الماضية قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية الأخيرة فإن استقرار معدلات البطالة وتراجع الضخم صاحبته زيادة في معدلات الفقر، إلى 32.5% عام 2017، مقابل 27.5% عام 2005.
وها هو نشاطه ينكمش للشهر الثامن والعشرين على التوالي
وأظهر مسح اقتصادي، نُشر في بداية إبريل/نيسان 2023، أن نشاط القطاع الخاص غير النفطي في مصر انكمش للشهر الثامن والعشرين على التوالي في مارس/أذار 2023؛ إذ تضررت الشركات بسبب قيود على الاستيراد وتقلبات سعر العملة والزيادة الحادة في التضخم.
فقد هبط مؤشر مديري المشتريات لمصر الصادر عن "ستاندرد آند بورز جلوبال" قليلاً إلى 46.7 في مارس/آذار من 46.9 في فبراير/شباط ليبقى بعيداً عن الحد الذي يشير إلى نمو النشاط وهو الـ50 نقطة.
وقال الاقتصادي بستاندرد آند بورز جلوبال، ديفيد أوين: "عند 46.7 يشير المؤشر إلى المزيد من التدهور في أداء الشركات غير النفطية بضغط من تراجع حاد في الأنشطة وأحجام الأعمال الجديدة".
وما زالت مصر تعاني من نقص في العملة الأجنبية على الرغم من انخفاض الجنيه المصري بنحو 57% منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي وتوقيعها على حزمة إنقاذ جديدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي في ديسمبر/أيلول 2022.
الحكومة تقود التشغيل مع القطاع الخاص غير الرسمي منذ 2013 وتراجع الشركات الكبرى
تعتبر أزمة البطالة من أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري في ظل النمو المستمر للسكان وعدم ملاءمة أنظمة التعليم المختلفة لمتطلبات سوق العمل.
وحققت مصر بعض النجاح خلال العقود الماضية في تقليل حصة الحكومة والقطاع العام من التوظيف، بعد أن كان التوظيف غير الضروري في الحكومة سياسة متبعة خلال العهود السابقة، فيما عُرف باسم "العمالة المقنعة".
وجرى تخفيض حصة القطاع الحكومي من العمالة عبر برامج بدأت في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك في ثمانينات القرن العشرين، وبينما نجحت مصر على مدار العقود في تقليل التوظيف في الحكومة؛ حيث تراجعت نسبة التوظيف في القطاع الحكومي إلى 23%، لم تحقق مصر نجاحاً مماثلاً في رفع نسبة التشغيل في القطاع الخاص الرسمي، وبالتالي أدت السياسات بالأكثر لتحول جزء كبير من العمالة من العمل بالحكومة إلى العمل بالقطاع الخاص، غير الرسمي أو الصغير، فيما يمكن وصفه بالعمالة الهامشية ضعيفة الأجور والتأمينات، وبدلاً من العمالة المقنعة، توسعت طبقة العمالة المهمشة.
في المقابل، لا يزال خلق فرص العمل على الأخص في القطاع الخاص الرسمي الذي يوفر وظائف بأجور جيدة، يمثل تحدياً.
إذ يُلاحظ أن الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي توظف أقل من 100 عامل، تبلغ مساهمتها في التشغيل 75% تقريباً بينما حصة الـ25% المتبقية تعود إلى شركات كبيرة (قوامها 100 موظف فما فوق). وفي العموم، للشركات متوسطة الحجم صافي معدلات خلق وظائف أعلى (0.14%) مما للشركات الكبيرة (0.106%) في مصر.
المشروعات القومية قلّلت البطالة بالسنوات الماضية، ولكن هناك غموضاً حول الإحصاءات
وتتركز آثار الأزمة المالية الحالية على مجال التضخم بشكل أساسي الذي سجل مستويات غير مسبوقة منذ بضع سنوات، أما تأثير الأزمة على البطالة فما زال محدوداً أو على الأقل لم يتم يرصده بدقة بعد.
في الربع الأول من العام الماضي 2022، حين بدأت الأزمة الاقتصادية إثر اندلاع حرب أوكرانيا، كشفت بيانات رسمية عن ارتفاع معدلات البطالة في السوق المصرية خلال الربع الثاني من العام الحالي بنسبة محدودة قدرها 1.7% على أساس سنوي، لتسجل مستوى 7.2% من إجمالي قوة العمل.
ولكن اللافت أن المسؤولين المصريين ما زالوا يتحدثون عن أرقام البطالة في الربع الأول من العام الماضي 2022، حتى بعد أن بعد انقضى الربع الأول من عام 2023، حيث إن هناك نقصاً لافتاً في أرقام العام الحالي مثلما بدا من حديث الدكتورة هالة السعيد، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، في مارس/آذار 2023؛ حيث كررت استعراض أرقام البطالة في الربع الأول من العام الماضي!.
وفي 2022، أرجع الخبير الاقتصادي إيهاب نافع استقرار معدل البطالة النسبي في مصر إلى استيعاب المشروعات القومية أعداداً ضخمة من العمالة، ومنها تلك المسرحة من قطاعات أخرى، (علماً بأن شركات القطاع الخاص هي التي تنجز العمل الفعلي في مشاريع البنية التحتية والإسكان العامة التي تقودها شركات الجيش).
وساهم في استقرار البطالة في الربع الاول من العام الماضة أيضا، ارتفاع صادرات مصر السلعية غير البترولية وكذلك الصناعات التحويلية مما يعد مؤشراً على نشاط الإنتاج الصناعي، ومن ثم استيعاب المزيد من العمالة، وفقاً لنافع.
وقال نافع، في تصريحات خاصة لموقع شبكة CNN الأمريكية الناطق بالعربية، آنذاك إن جائحة فيروس كورونا، تسببت في وضع حلول مؤقتة لتخفيض تكلفة وأجور العمالة بدلاً من تسريحها مثل العمل لساعات محددة، وهو ما يؤثر على انخفاض الأجور ولكنه لا يؤثر على معدل البطالة، مشيراً إلى أن القطاع غير الرسمي يستوعب أعداداً كبيرة من العمالة من الصعب حصرها، ولكن جهاز الإحصاء يرتكز على البيانات الرسمية المتاحة من القطاعين العام والخاص.
ولفت إلى أن هناك عاملاً مهماً آخر وراء استقرار معدل البطالة في مصر في إحصاءات العام الماضي، وهو أن عمليات الإفصاح عن بيانات العمالة والتي يشوبها عدم الدقة في الأجل القصير، بخلاف أن هناك بطالة لا يتم رصدها وهي الممتدة خلال فترة تغيير الوظائف.
تراجع البطالة أحد أسبابه انكماش العرض والهجرة
ويرى تقرير لمركز حلول للسياسات البديلة أن اتجاه البطالة للتراجع خلال السنوات الماضية ناتج عن انكماش القوى العاملة، لا عن زيادة في فرص العمل أو خلق الوظائف.
ونظراً لمستويات التشغيل المنخفضة انخفاضاً لا يتزحزح في السنوات العشر الماضية (وتتراوح بين 38.5% و45%) وتسجيل أداء النمو البطيء متوسطاً للعشر سنوات البادئة من 2010 قدره 3.8%، فهناك تركيز قوي بشكل متزايد بين واضعي السياسات على خلق الوظائف ونمو الإنتاجية.
كما شهدت مصر خلال السنوات الماضية هجرة واسعة لأسباب اقتصادية وسياسية، ةتشهد البلاد هجرة كبيرة للعقول خاصة الأطباء والمهندسين والمبرمجين للدول الغربية (ألمانيا على وجه الخصوص ترحب بالكوادر المصرية الطبية والهندسية بشكل كبير).
إضافة لذلك يُعزى استقرار البطالة خلال السنوات الماضية في مصر وعدد من الدول العربية إلى تراجع معدل الزيادة السكاني بشكل لافت، عكس التوجهات التي اتسمت بها البلدان العربية خلال العقود السابقة منذ الحرب العالمية الثانية، حسب التقرير الإقليمي للوظائف الذي أصدرته منظمة العمل الدولية.
وبلغت الزيادة السكانية في مصر أدنى معدل لها في تاريخ البلاد عام 2021، مسجلة نسبة 1.7%، وفقاً للبنك الدولي.
ويرى تقرير منظمة العمل الدولية على أنه الرغـم مـن انخفـاض معدل البطالة بشـكل عام، فـإن مؤشرات سوق العمل المصري الأخرى قد ساءت، لاسيما في ظل عدم توافق المهارات مع سوق العمل، علماً بأن هذا التقرير رصد فترات ما قبل الأزمة الحالية التي بدأت مطلع عام 2022.
ماذا سيحدث بعد توقف أو إبطاء وتيرة المشروعات القومية الكبرى وعزوف المستثمرين؟
ولكن، من المرجح أن معدلات البطالة قد ترتفع أو أنها ارتفعت بالفعل، مع تراجع دور القطاع الخاص في الاقتصاد، والحديث عن توقف أو تخفيض وتيرة العمل في بعض المشروعات القومية الكبرى جراء شح الدولار، وهو اتجاه يفترض أن يزيد مع ضغوط صندوق النقد الدولي والداعمين الخارجيين للقاهرة لوقف أو تقييد العمل في المشروعات الكبرى، حيث دعت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا القاهرة إلى إبطاء وتيرة تنفيذ المشروعات القومية طويلة الأجل.
على الجانب الآخر، فإن أزمة القطاع الخاص لها تأثيرات عدة، فتراجع النشاط الحالي للقطاع الخاص، من شأنه إخراج جزء من القوى العاملة الموظفة بالفعل، رغم أنه يجدر ملاحظة أن القطاع الخاص المصري لاسيما غير الرسمي أو المتوسط والصغير أبطأ من نظيره في الدول الغربية في التخلص من العمالة، لأسباب اجتماعية وأخلاقية ودينية.
كما سيؤدي ضعف نشاط القطاع الخاص لتقليل حركة السيولة وهو أمر ينعكس على شرايين الاقتصاد كافة.
على جانب آخر، فإن توقف القطاع الخاص المصري والأجنبي عن ضخ استثمارات جديدة، وهو الملمح الأبرز في المشكلات المتعلقة بالقطاع الخاص حالياً، من شأنه منع مورد مهم لتوفير الوظائف الجديدة، كما أنه سيؤثر على تدفق العملات الأجنبية مع امتناع الشركات الأجنبية عن الدخول، الأمر الذي سيفاقم أزمة العملة الأجنبية في البلاد.