منذ اجتياح جائحة كوفيد 19 العالم قبل 3 سنوات وسلاسل التوريد تدفع الثمن، ما جعل الدول والشركات الكبرى تبحث عن طريقة تتجنب بها الآثار السلبية لهذه الكارثة، من خلال البحث عن بدائل أو طرق جديدة للتوريد.
فعندما تراجع أحد مؤشرات الضغوط على سلاسل التوريد العالمية هذا العام إلى مستويات شوهدت آخر مرة قبل جائحة كوفيد-19، حمل هذا إشارةً ارتأى بعض الأشخاص أنها تعني أن ما شهدناه في السنوات الثلاث الماضية من نقص المنتجات واختناقات الموانئ وتعطل الشحن قد انتهى، وأن هناك عصراً جديداً من الاستقرار يلوح في الأفق.
لكن خبراء الصناعة يقولون إن أي "عودة إلى الوضع الطبيعي"، بحسب الوصف الذي أطلقه بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك على مؤشر الضغط على سلاسل التوريد العالمية لديه، في فبراير/شباط، لا تعني أن الشركات تعود إلى سلاسل التوريد الاعتيادية، أو التي قد يصفها آخرون بـ"المطمئنة"، بحسب تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
وبدلاً من ذلك، يقول الخبراء الأكاديميون والاستشاريون، إن التجارب المشهودة خلال الجائحة، جنباً إلى جنب مع العوامل الجيوسياسية، تقود إلى تغيرات أوسع قد تكون طويلة الأمد، على صعيد الطرق التي تتبعها الشركات في إدارة تدفق البضائع، بدءاً من مصادر الحصول على المواد الخام، ووصولاً إلى التصنيع والتوزيع.
تتكشف التغيرات في المصانع في الهند، ومصانع تجميع السيارات في شمال المكسيك، والموانئ الممتدة من جنوب شرق الولايات المتحدة إلى شرق إفريقيا، ومناجم التعدين في كندا والسويد. وهذه المواقع هي التي تشهد تطبيق الشركات ضوابط على شاكلة المرونة والهيكلة الإقليمية (الأقلمة) وتنويع الموردين، وهي ضوابط برزت بوصفها وسيلة للتعايش مع الاضطرابات والتعطلات الشديدة التي بدأت في مطلع عام 2020.
الاضطرابات التي بدأت بإعلان جائحة كوفيد-19، ضربت الشركات أولاً بنقص مفاجئ في السلع الاستهلاكية، نظراً إلى أن الأُسر كانت تخضع للإغلاقات المفروضة، أتبع هذا إغلاقات المصانع التي أوقفت تدفقات البضائع، ثم ضربت شبكات النقل، نظراً إلى أن العودة المفاجئة في حجم الطلبات أدت إلى اكتظاظ السفن، وازدحام الموانئ.
بحلول أبريل/نيسان 2020، بلغ مؤشر الضغط على سلاسل التوريد العالمية ضعف المستوى الذي وصل إليه خلال التعافي من الأزمة المالية في 2009. تراجع هذا المؤشر أخيراً مطلع هذا العام إلى مستويات أكثر اعتيادية، تشبه مقياساً يعود إلى ما قبل 25 عاماً.
قال باتريك فان دن بوسشي، الشريك وقائد ممارسة التحليلات العالمية لدى شركة الاستشارات Kearney: "أُزيلت بعض الضغوط، وهناك نقص أقل في الإمدادات، لكننا بلا ريب لم نعد إلى الوضع الاعتيادي، مستوى الإلحاح منخفض، لكن كثيراً من الأشياء قد تغيرت".
تنويع مصادر التوريد
تتضمن التغيرات على السطح الاعتماد الأقل على آسيا، لاسيما الصين، واستخدام مزيد من تكنولوجيا الأتمتة لمواصلة تشغيل عمليات خطوط التجميع والمخازن.
تنقل شركة أبل بعضاً من إنتاج هواتفها الذكية من الصين إلى الهند، كذلك تأتي شركة ماتيل لألعاب الأطفال ضمن الشركات التي توسع عملياتها في المكسيك، بل إن شركة هايسنس الصينية تتطلع إلى تصنيع الأجهزة الكهربائية في المكسيك من أجل الأسواق الأمريكية.
غير أن هناك تغيرات أكثر استدامة، يقول عنها الخبراء إنها سوف تحمل تأثيرات أوسع على الطريقة التي تحصل بها الشركات على المواد الخام وقطع الغيار، والأماكن التي تنتج فيها البضائع، وكيفية شحن المنتجات النهائية إلى المستهلكين. وتجسد هذه التغيرات مُجتمعةً أكبر تحول في طريقة إدارة سلاسل التوريد منذ انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 2001، وهو ما بشر حينها بعصر جديد للعولمة.
يقول الخبراء إن سلاسل التوريد ما بعد الجائحة تُبنى مع التركيز على الأقلمة (الهيكلة الإقليمية)، حيث يكون الإنتاج أقرب من المناطق التي تتوقع الشركات أن تبيع منتجاتها فيها. تتخذ الشركات كذلك خطوات لنشر قاعدة مورديها حول العالم، مبتعدةً عن نهج الاستعانة بمصدر واحد، وتضيف الشركات أيضاً الأتمتة إلى كل شيء، بدءاً من عمليات التخزين، حتى قرارات الشراء.
تضيف هذه التحولات إلى جهد واسع لجعل سلاسل التوريد أكثر قدرة على التصدي للتعطلات والاضطرابات.
قال فان دن بوسشي: "لقد كانوا ينتقلون من نموذج يستند إلى الحجم، حيث يُصمم كل شيء للحصول على أفضل أثر مالي من اقتصاديات الحجم الأكبر، إلى نموذج يشهد الكثير من التكرار في الشبكة".
وأوضح أن مسألة الابتعاد عن الصين، وإعادة تشبيك سلاسل التوريد مع المكان الذي تملك فيه الشركات عديداً من سلاسل التوريد المحلية، "تبدأ لتوها فحسب". وأضاف: "الشركات لا تزال تحاول اكتشاف الطريقة التي يعمل بها هذا الأمر".
المخاطر مقابل المكافآت
قال ريك جابريلسون، الذي يعمل مستشاراً وكان مسؤولاً بارزاً سابقاً في مجال النقل لدى شركتي تارجت ولويز الأمريكيتين، إن عديداً من الشركات تبحث بجدية حول استراتيجيات التعامل مع مصادر التوريد، بما في ذلك إذا كانت هذه الشركات لديها تركيز كثيف من البضائع أو المكونات التي تأتي من بلد واحد أو مورد واحد.
صحيحٌ أن توسعة نطاق الموردين يرفع التكلفة تقريباً، لكن جابريلسون أوضح أن الشركات ينبغي لها أن توازن بين هذه التكاليف والاضطرابات والتعطلات المستقبلية.
وأضاف: "يجب عليك أن تسأل نفسك، ما الذي تريده؟ هل سنقلل المخاطر أمام حملة الأسهم والمستهلكين أم سنقلل التكاليف؟ هذا هو الحديث الدائر، لكن التغيير لا يحدث بين عشية وضحاها".
خلال حديثها في ندوة إدارة سلسلة التوريد بجامعة بيتسبرغ التي عُقدت في مارس/آذار، قالت هايدي لاندري، كبيرة موظفي المشتريات لدى شركة جونسون آند جونسون ميد تيك، إن شركة منتجات الرعاية الصحية تحاول تقييم المخاطر في شبكة الموردين العالمية بصورة أفضل، وذلك في أعقاب تعطلات الجائحة. وأوضحت أن البرنامج يستهدف "المحافظة على قاعدة توريد مستمر وإدارة المخاطر، لتمكين الوصول العالمي إلى الأدوية والمعدات التي تنقذ الحياة".
إفصاحات تنظيمية جديدة
تتعقد جهود تنويع المصادر بدرجة أكبر، نتيجة اتساع القواعد البيئية وسعي الشركات لخفض بصمتها الكربونية.
ففي الولايات المتحدة، تطور هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية خططاً كي تطلب من الشركات الإفصاح، ليس فقط عن انبعاثاتها الكربونية الخاصة بها، بل وأيضاً الانبعاثات الخاصة بالموردين وموردي الموردين: وهو ما يُعرف بـ"انبعاثات النطاق 3″.
قال جابريلسون: "الاستدامة تعقِّد الأمور، وترفع التكاليف".
ولعل الخاسر الأكبر ضمن استراتيجيات سلاسل التوريد خلال الجائحة هو مبدأ الإنتاج "في الوقت المحدد"، الذي بشَّر بتقليل المخزونات لخفض التكاليف وتحسين الكفاءة في سلاسل التوريد.
بعد نقص المنتجات وتوقف المصانع لفترات طويلة، من فيتنام إلى وسط غرب الولايات المتحدة، بسبب نقص قطع الغيار، قالت الشركات، بدءاً من شركة نيسان موتورز ووصولاً إلى شركة بيبسيكو، إن التركيز على سلاسل التوريد فائقة الكفاءة ربما تضاءل، نظراً إلى أن عديداً من الشركات صارت تدرك قيمة المخزون الاحتياطي.
قال جابريلسون إن الشركات سوف تتكيف مع مرور الوقت، عبر استخدام مخزونات سلامة أكثر، مع إدارة المخاطر بطرق أخرى، مثل إضافة موردين متعددين. وأوضح: "لن تروا عودة عقارب الساعة إلى الوراء"، نحو التركيز على مبدأ الإنتاج في الوقت المحدد.
وأضاف أن زيادة أقلمة الإنتاج سوف تساعد أيضاً في تقليل مخاطر النقص، لأن خطوط التوريد لن تعد طويلة مثل السابق.
أهم درس
قال يوسي شيفي، مدير مركز النقل واللوجستيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إن التبني المتعجل للتكنولوجيا خلال الجائحة، بسبب اندفاع الشركات من أجل التصنيع والشحن بسرعة، سوف يحمل تأثيراً باقياً على سلاسل التوريد.
لكن الأثر الأكبر سوف يأتي عندما تقيِّم الشركات الطريقة التي استجابت بها لضغوط الجائحة، وطريقة تكيفها معها، وذلك وفقاً لشيفي. ويسلط البروفيسور في مركز معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الضوء على شركات السلع الاستهلاكية، التي سرعان ما أعادت تهيئة سلاسل التوريد عن طريق تقليم خطوط الإنتاج، وإعادة ضبط مصادر التوريد واستخدام الأدوات الأخرى للارتداد من حالات النقص المشهودة في بداية الجائحة.
وأضاف: "لقد تعلموا الكثير من الأشياء التي لم يظنوا أنها ممكنة، يعني هذا أن الشركات قادرة على القيام بأكثر مما اعتقدوا أنه ممكن. لقد تعلموا كيف يكونون رشيقين، وربما يكون ذلك أهم درس".