كيف ستؤثر الحرب الأهلية في السودان على السودانيين أنفسهم، وعلى مناجم الذهب في دارفور، وعلى ملف سد النهضة الإثيوبي، وعلى صراع القوى الكبرى بين روسيا والصين وأمريكا؟
كان السودان يوم 15 أبريل/نيسان قد شهد انفجار الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد: الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود "قوات الدعم السريع"، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
ومع استمرار القتال لليوم التاسع، وفشل الهدنة 3 مرات، وإجلاء الدول رعاياها، بات شبح تحول القتال إلى حرب أهلية قد تمتد لأشهر وربما سنوات، على غرار ما حدث في اليمن، تثار تساؤلات متعددة حول التداعيات الكارثية داخل السودان وفي المنطقة وحول العالم.
السودان.. ولعنة الثروات
تناول تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية بعض أبرز الرهانات في السودان، والتي تشمل الذهب وسد النهضة وتأثيره على مياه نهر النيل والممرات الملاحية المهمة، إضافة إلى الكارثة الإنسانية التي تتشكل داخل البلاد التي عانت من ويلات الحرب الأهلية مرتين من قبل.
فقد أصبح مصير بعض أهم الموارد الاستراتيجية في إفريقيا معلقاً في الميزان، حيث يتنافس أكبر جنرالين في السودان على السيادة، من مياه النيل والوصول إلى ممرات الشحن الحيوية إلى بعض أكبر مناجم الذهب في القارة.
وفي هذا السياق، طالما لفتت هذه الثروات أنظار القوى الخارجية، بما في ذلك روسيا والدول الغربية والصين ومصر والدول النفطية في الخليج. والآن، يحاول البعض التأثير على نتيجة الصراع، من خلال تقديم الأسلحة وغيرها من الدعم العسكري للفصيلين المتناحرين، وهي خطوات يمكن أن تؤدي إلى مواجهة قاتلة طويلة الأجل بين الجيش السوداني والميليشيات، تلك المواجهة التي قُتِلَ فيها المئات بالفعل.
إذ أُصيبَ الآلاف وفر كثيرون أو ظلوا محاصرين في منازلهم وسط الغارات الجوية وتبادل إطلاق النار في الشوارع، علاوة على نيران المدفعية التي استمرت في أول أيام عيد الفطر، رغم الإعلان عن هدنة مدتها 3 أيام.
وأفادت صحيفة Wall Street Journal الأمريكية بأن مجموعة فاغنر الروسية شبه العسكرية عرضت أسلحة ثقيلة على قوات الدعم السريع، وهي الميليشيا التي يديرها الفريق أول جنرال محمد حمدان دقلو، الشهير بحميدتي. وقال شخص مقرب من الجنرال للصحيفة الأمريكية إنه رفض العرض في الوقت الحالي.
في غضون ذلك، تلقى منافس الجنرال دقلو، الفريق عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني ورئيس الدولة الفعلي في البلاد، دعماً من مصر المجاورة، حسبما أفادت الصحيفة.
الجاذبية التي يتمتع بها السودان، وبمعنى أدق ثرواته الطبيعية المتعددة، كانت في الماضي سبباً رئيسياً في معاناة شعبه، بما في ذلك أثناء الغزو الاستعماري البريطاني للبلاد أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
والآن، يشعر الخبراء والمسؤولون الغربيون بالقلق من أن التشابكات الجيوسياسية للجنرالين المتحاربين يمكن أن تغرق البلاد -التي هي أكبر من فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا مجتمعة- بشكل أعمق في صراع فوضوي يزيد من زعزعة الاستقرار في منطقة استراتيجية ولكن هشة.
قال جورجيو كافيرو، الرئيس التنفيذي لشركة غولف ستيت أناليتيكس، وهي شركة استشارات مخاطر مقرها واشنطن: "يقع السودان حقاً عند تقاطع العالمين العربي والإفريقي. إذا كان بإمكان بلد ما الحصول على قدر كبير من النفوذ في السودان، فإن هذا يوفر العديد من الفرص لسلاسل التوريد المحلية وطرق التجارة وروابط الشبكات إلى البلدان الإفريقية الأخرى".
كارثة إنسانية تتشكّل
وإذا بدأنا القصة من أكثر المتضررين منها، سنجد دون صعوبة أنهم الشعب السوداني نفسه. فبالنسبة لسكان السودان الذين يزيد عددهم على 45 مليون نسمة، يفاقم الصراع بين الجنرالين والفصيلين المسلحين من الأزمة الإنسانية والاقتصادية المدمرة التي يعانون منها بالفعل.
فحتى قبل بدء القتال، كان واحد من كل ثلاثة سودانيين يعاني من الجوع. والوعد بمستقبل أكثر سلماً، مع سقوط عمر البشير عام 2019، صار في حالة يُرثَى لها.
إذ كانت أشهرٌ من الاحتجاجات أوائل عام 2019 قد أدت إلى قيام الجيش بعزل عمر البشير، وبدا حينها أنَّ ثلاثة عقود من السياسة الأمريكية التي تعلن أن هدفها هو دعم الديمقراطية قد تؤتي ثمارها أخيراً. لكن الولايات المتحدة ودول غربية أخرى ضغطت على المتظاهرين المدنيين والجيش لتشكيل حكومة انتقالية مع صياغة دستور انتقالي تقرَّر بموجبه إجراء الانتخابات في عام 2022.
وإذا كانت هناك لحظة ضاع فيها أمل إرساء الديمقراطية في السودان، فقد كانت لحظة الاتفاق على هذا الدستور الانتقالي، الذي سمح للجيش بإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية. سارة عبد الجليل، المتحدثة باسم تجمع المهنيين السودانيين الذي ساعد في تنظيم الاحتجاجات، قالت لمجلة "Foreign Policy" في عام 2019: "ما زلنا لم نحقق ما نقاتل من أجله. لقد رحل عمر البشير، لكن النظام نفسه لم يرحل. لقد حققنا الهدف الأول، لكن هدف تشكيل حكومة مدنية لم يتحقق بعد".
تولَّى البرهان قيادة البلاد حتى يوفي بوعده بقيادة السودان إلى الديمقراطية، لكن فور بدء الفترة الانتقالية كان واضحاً أنَّ "آمال" الديمقراطية باتت بعيدة المنال، وانتهى وهم انتقال السودان إلى السلطة المدنية في عام 2021 عندما أُطيح برئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك في انقلاب عسكري. فقد أثبت العسكريون في ذلك الوقت أنَّ وعدهم بتسليم السلطة إلى المدنيين كان مجرّد كلام فارغ. واتضح أنَّ العملية الانتقالية المدعومة من الولايات المتحدة يشوبها عيوب جوهرية.
مصر: أزمة سد النهضة
لكن بالنسبة للحلفاء الخارجيين للجنرالين، فإن معركتهم من أجل الهيمنة السياسية والعسكرية يمكن أن تقرر ما سيحدث للاستثمارات بمليارات الدولارات، وقدرتهم على إبراز قوتهم في جميع أنحاء المنطقة.
ولدى مصر مصلحة فورية أكثر من معظم الأطراف الأخرى في تطور هذه الأحداث الكبرى. إذ تريد الجارة الشمالية للسودان مساعدة الخرطوم لمعارضة سد النهضة الضخم وخزان مياهه في أقصى الجنوب على النيل في إثيوبيا. وتخشى القاهرة من أن المشروع قد يخنق المياه العذبة لملايين المصريين ويعطل الزراعة، بل تعتبره القاهرة "تهديداً وجودياً" لها.
وبحسب تقرير وول ستريت جورنال، ألقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بثقله وراء الجنرال البرهان، الذي استولى، مثل الرئيس المصري، على السلطة من خلال انقلاب عسكري. وقد أرسل بالفعل مقاتلات وطيارين لدعم القوات الجوية السودانية، ما يعزز سيطرة الجنرال البرهان على سماء البلاد وقدرته على ضرب مواقع منافسيه من الجو.
روسيا والذهب
على الجانب الآخر، وبالإضافة إلى عرض فاغنر للأسلحة، بما في ذلك صواريخ محمولة على الأكتاف، تلقى الجنرال دقلو شحنة واحدة على الأقل من الذخيرة من خليفة حفتر، زعيم الحرب الليبي المدعوم من روسيا والإمارات، حسبما ذكرت الصحيفة، رغم تصريحات البرهان بأن حفتر اتصل به ونفى تلك الأنباء.
لم تكن هناك مؤشرات على أن روسيا أو الإمارات لهما يد في التعزيزات التي أرسلها خليفة حفتر، القائد العسكري الذي يسيطر على شرق ليبيا. لكن كلا البلدين أقاما في السنوات الأخيرة علاقات وثيقة مع الجنرال دقلو، وهو راعي جمال سابق معروف بلقبه حميدتي.
انبثقت مجموعة قوات الدعم السريع شبه العسكرية التابعة للجنرال دقلو من ميليشيا الجنجويد، التي اتهمتها الولايات المتحدة وآخرون بارتكاب جرائم حرب في منطقة دارفور جنوب غرب السودان، قبل التحالف مع الجنرال البرهان بعد أن أجبرت الثورة الشعبية قيادات الجيش على الإطاحة بالبشير في أبريل/نيسان 2019.
وقد أنفقت الإمارات، مثل المملكة السعودية، مليارات الدولارات على شراء الأراضي الزراعية المروية بحصة السودان من النيل لتأمين الغذاء لسكانها الذين يعيشون في الصحراء. كما استأجرت قوات الدعم السريع للقتال في اليمن، حيث زودت الميليشيا بموارد إضافية لمواجهة الجنرال البرهان والجيش.
بوابة إفريقيا البحرية
موانئ السودان هي نقطة التصدير الوحيدة لحوالي 135 ألف برميل من النفط يومياً تُنتَج داخل البلاد وجنوب السودان المجاور. وهي أيضاً البوابة الرئيسية للبضائع من وإلى دول وسط إفريقيا غير الساحلية الغنية بالمعادن مثل تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن القلق الأكبر هو التأثير المحتمل لروسيا على الصراع وقدرة موسكو على استخدام السودان لممارسة القوة في المنطقة والمساعدة في تمويل حربها في أوكرانيا، والتي تصفها موسكو بأنها "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفها الغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرر".
وللجنرال حميدتي علاقات وثيقة مع روسيا وينتظر الكرملين الموافقة النهائية من القيادة السودانية على عقد إيجار مدته 25 عاماً لقاعدة بحرية في بورتسودان، على بعد نحو ألف ميل شمال أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في إفريقيا. ستمنح القاعدة الروسية السفن الحربية التابعة للكرملين الوصول إلى قناة السويس والمحيط الهندي في خضم أكبر مواجهة لموسكو مع الولايات المتحدة وأوروبا منذ جيلٍ كامل.
يقول المسؤولون العسكريون الأمريكيون إنهم يعتقدون أن روسيا تعتبر القاعدة وسيلة لتسهيل استخراج الذهب والمعادن الأرضية النادرة والموارد الأخرى من السودان ووسط إفريقيا.
وتعمل الشركات التي يسيطر عليها يفغيني بريغوزين، الحليف الرئيسي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومالك شركة فاغنر، على التنقيب عن الذهب في السودان منذ عدة سنوات، وفقاً للحكومة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ومسؤولين سودانيين. ويقول مسؤولون سودانيون ودبلوماسيون في المنطقة إن الشركات تعتمد على مقاتلي الدعم السريع لحماية المواقع في شرق وغرب السودان.