وعد باتصال الرئيس الصيني بنظيره الأوكراني حصل عليه إيمانويل ماكرون خلال زيارته الأخيرة لبكين، ولكن لم يتحقق الوعد، فلماذا تحرص الصين على تجنب هذا الاتصال، هل تخشى إغضاب روسيا أم أن لديها أسباباً داخلية، وما هي طبيعة العلاقات حالياً بين الصين وأوكرانيا، هل أصبحا متخاصمين.
في المرة الأخيرة التي تحدث فيها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والزعيم الصيني الأعلى شي جين بينغ، احتفلا بمرور 30 عاماً على العلاقات الدبلوماسية، وأشادا بـ "تعميق الثقة السياسية المتبادلة والصداقة العميقة" لشعبيهما.
كان ذلك في يناير/كانون الثاني من العام الماضي. وبعد أقل من شهرين، غزت روسيا، أحد أقرب شركاء الصين، أوكرانيا. ولم يتحدث شي إلى زيلينسكي منذ ذلك الحين، على الرغم من طلب الرئيس الأوكراني المتكرر لذلك. وتبدو العلاقة "السليمة والمستقرة" التي روّجا لها وكأنها ذكرى بعيدة الآن، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
هل يتجنب الرئيس الصيني الاتصال بزيلينسكي خوفاً من غضب بوتين؟
إنَّ السؤال حول متى وما إذا كان شي سيتحدث مع زيلينسكي -وهو ما حثه القادة الغربيون على فعله أيضاً وآخرهم ماكرون– يعكس حالة العلاقات غير المؤكدة في البلدين وسط الحرب الروسية في أوكرانيا. وقبل الحرب، كان التبادلان التجاري والثقافي ينموان. لكن الآن كلا الجانبين يتلاعب بأهداف تتعارض أحياناً.
وكان يمكن أن يجري الرئيس الصيني الاتصال تلبية لطلب ماكرون ويقدم له هدية صغيرة رداً على مواقفه التي تناوئ السياسة الأمريكية المناهضة للصين.
ومن المستبعد أن يكون السبب في تجنب الرئيس الصيني للاتصال هو خوفاً من إغضاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أولاً لأن الأخير هو الذي يحتاج للرئيس الصيني، كما أن دولاً قريبة من لروسيا وتواصلت مع كييف دون غضب روسي.
في المقابل، تتودد أوكرانيا إلى الصين بسبب قدرتها على كبح جماح العدوان الروسي. لكنها تدرك تماماً إحجام بكين الواضح عن فعل ذلك، والمخاوف من أنها قد تسلح روسيا بالفعل. وبدأ الرأي العام في أوكرانيا تجاه الصين يفسد.
تريد الصين بدورها الحفاظ على حيادها المُعلَن في الصراع، ويمكن للمحادثات مع زيلينسكي أن تعزز صورتها المرغوبة بأنها قوة عالمية مسؤولة.
بكين صورت لشعبها الحرب أنها معركة أمريكية بالوكالة
لكن الصين صوّرت أيضاً الحرب بالنسبة لشعبها، على أنها معركة بالوكالة حول النظام العالمي المستقبلي، مع الولايات المتحدة من جهة وهي نفسها وروسيا من جهة أخرى. واحتضان كييف للغرب يضعه في الجانب الخطأ من هذا الانقسام، وفقاً للمنظور الصيني.
إضافة إلى ذلك، هناك حقيقة مفادها أنَّ أوكرانيا، باعتبارها دولة تتعرض للهجوم، لا تتمتع بنفس الجاذبية الاقتصادية بالنسبة للصين كما كانت من قبل.
قال تشو فنغ، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة نانجينغ الصينية: "أوكرانيا اليوم لا تزال في حالة حرب، واستثمارات الصين هناك تعرضت للقصف، ولا نعرف كيف ستبدو أوكرانيا في المستقبل. هل ما زالت هناك علاقة بين البلدين؟".
العلاقات بين الصين وأوكرانيا كانت قوية قبل الحرب
قبل الغزو، كانت العلاقات العميقة بين البلدين تبرز أكثر شيء في التبادلات الاقتصادية بينهما.
وكان البلدين يرتبطان بعلاقات وثيقة، حيث سعت بكين للاستفادة من أزمات أوكرانيا لشراء
تقنيات عسكرية منها وكذلك سعت لاختراق صناعة الطيران الأوكرانية، كما حصلت بكين على أول حاملة طائرات عبر شرائها خردة من كييف بدعوى استخدامها كملهى عائم في هونغ كونغ.
بين عامي 2017 و2021، تضاعفت الصادرات من أوكرانيا إلى الصين أربع مرات. وبحلول عام 2019، صارت الصين أكبر شريك تجاري لأوكرانيا وأكبر مُستورِد لشعيرها وخام الحديد، وفقاً لتقرير صادر عن مجلس العلاقات الخارجية. كانت أوكرانيا أيضاً أكبر مُورِّد للذرة إلى الصين وثاني أكبر مُورِّد للأسلحة.
وأعلن رئيس الوزراء الأوكراني آنذاك أنَّ عام 2019 هو "عام الصين". واستُغِلَت موارد الشركات الصينية لبناء خط مترو أنفاق جديد في كييف. وجعلت اتفاقية التجارة الحرة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي منها نقطة دخول جذابة للسلع الصينية لتتدفق إلى السوق الأوروبية المربحة.
ومع ذلك، كانت التوترات الجيوسياسية تلوح في الأفق دائماً. وامتنعت الصين عن انتقاد روسيا بعدما ضمت شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014. وواجهت أوكرانيا ضغوطاً من الولايات المتحدة لتنأى بنفسها عن الصين؛ مما دفعها في عام 2021 إلى إلغاء بيع شركة أوكرانية لصناعة الطيران بقيمة 3.6 مليار دولار لمستثمرين صينيين.
وفي الوقت الذي تجمعت فيه القوات الروسية على الحدود الأوكرانية العام الماضي، أعلن الرئيس شي ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، خلال اجتماعهما في بكين، أنَّ شراكة بلديهما "لا حدود لها".
وبعد بدء الحرب، صار تحالف بكين أوضح. إذ تبنت العديد من نقاط الحديث والمعلومات التي يطرحها الكرملين، واتهمت الناتو بالتحريض على الصراع ورفضت وصفه بأنه غزو. وفي العام التالي، التقى شي أو تحدث مع بوتين عدة مرات. وعلى الإنترنت الخاضع للرقابة الشديدة في الصين، تحتفل مقاطع الفيديو الشهيرة بضربات الطائرات الروسية بدون طيار، كما أنَّ المؤثرين الوطنيين يسخرون من تحول أوكرانيا نحو الغرب.
زيلينسكي ما زال يحاول كسب ود بكين ويفضل عدم تجنبها ولكن شعبه استاء منها
ومع ذلك، حاولت أوكرانيا كسب دعم الصين، معترفة بأنها ربما الدولة الوحيدة التي لها تأثير على روسيا. ولفت زيلينسكي مراراً وتكراراً لاحترام الصين المُعلَن لوحدة كييف.
وفي حين أنَّ العديد من حلفاء أوكرانيا انتقدوا الصين لما يرون أنه موقف مؤيد لروسيا، كان زيلينسكي أكثر حذراً. ووصف الورقة التي أصدرتها بكين مؤخراً بشأن موقفها من الحرب، التي رفضتها العديد من الحكومات الغربية باعتبارها تفتقر إلى الجوهر، بأنها "إشارة مهمة". وقال: "أريد حقاً التصديق" أنَّ الصين لن تُسلِّح روسيا.
وقال يوري بويتا، الذي يقود قسم آسيا في شبكة أبحاث الجغرافيا السياسية الجديدة ومقرها كييف، إنَّ الإحباط من الصين قد نما في أوكرانيا، سواء في الحكومة أو بين الناس العاديين. ووجد استطلاع للرأي أجرته مجموعة أبحاث أوكرانية في أكتوبر/تشرين الأول أنَّ وجهات النظر غير المواتية للصين تضاعفت منذ عام 2021؛ لتصل إلى 18%.
ومن المحتمل أنَّ زيارة شي إلى موسكو الشهر الماضي، حيث أعاد هو وبوتين التأكيد على شراكتهما، قد خففت من توقعات كييف.
وأضاف بويتا: "كانت أوكرانيا لفترة طويلة من الزمن لديها أوهام ضخمة بشأن الصين. لكنني الآن أعتقد أنَّ وهمهم يتضاءل تدريجياً، خاصةً بعد هذه الزيارة".
ومع ذلك الصين تريد أن يكون لها نصيب من كعكة إعمار أوكرانيا بعد الحرب
وفي الوقت نفسه، خففت الصين بعضاً من قوة خطابها، خاصةً أنها تسعى إلى تحسين العلاقات مع أوروبا. كما قلل المسؤولون الصينيون في الآونة الأخيرة من أهمية إعلان أنَّ العلاقات بين روسيا والصين بأنها "لا حدود لها".
وقالت جانكا أويرتيل، مديرة برنامج آسيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إنَّ الصين قد ترى أيضاً فرصة اقتصادية واستراتيجية في إعادة إعمار أوكرانيا، أياً كانت نتيجة الحرب. وأضافت: "قد تكون هذه طريقة جذابة لتكون جزءاً من إعادة النظام ما بعد الحرب. وتود الحكومة الصينية إبقاء تلك العلاقة الاقتصادية مفتوحة قدر الإمكان".
ومع ذلك، لن تذهب الصين لأبعد من هذا الحد.
وجادل الخبراء الصينيون بأنَّ المكالمة بين شي وزيلينسكي لن تكون ذات فائدة تُذكَر الآن، في الوقت الذي لا تُظهِر فيه أوكرانيا أو روسيا أي ميل نحو وقف إطلاق النار. وفي الواقع، حذر المسؤولون الأمريكيون من مقترحات وقف إطلاق النار في الوقت الحالي، بحجة أنها ستقوي المكاسب الإقليمية الروسية.
وقال وانغ يى وى، مدير معهد الشؤون الدولية بجامعة رينمين فى بكين: "ليس الأمر أننا لن نتواصل مع أوكرانيا، لكن السؤال هو ما الذي سيتحدثان عنه؟". وأضاف عن زيلينسكي: "كان يأمل من الاتصال أن تدين الصين الغزو الروسي وتدعو روسيا لسحب قواتها. وهذا ليس واقعياً".