ازداد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في مختلف قطاعات الاقتصاد، لكن يبدو أن الروبوتات في طريقها أيضاً إلى الدخول على خط التنبؤ بالأمراض القاتلة، فماذا يعني ذلك؟ ومتى يمكن أن يحدث؟
صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية نشرت تقريراً يتناول كيف يمكن للذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا التعرف على الوجوه أن يرصدا السكتة الدماغية والأمراض الأخرى.
اكتشاف السكتة الدماغية عن طريق ملامح الوجه
في مستشفى جونز هوبكنز قد يُطلب من أي مريض من المرضى الذين تُشتبه إصابتهم بالسكتة الدماغية، طلباً غير اعتيادي عن طريق الأطباء: هل لنا أن نصور وجهك؟ يتمثل هدف الأطباء في اكتشاف السكتة الدماغية عن طريق ملامح الوجه، عوضاً عن انتظار الفحوص الدماغية أو اختبارات الدم، ما يساعد في تسريع كل من العلاج والتعافي.
ويدرب فريق جونز هوبكنز خوارزمية حاسوبية للتعرف على التغيرات في ملامح المرضى، مثل شلل عضلات محددة في الوجه أو حركات غير اعتيادية للعين، ما قد يشير إلى تلف في الدماغ بسبب سكتة دماغية، على النقيض من النوبات التشنجية والصداع النصفي الحاد واضطرابات القلق.
يقول روبرت ديفيد ستيفنز، مدير الطب الدقيق ورئيس قسم المعلوماتية والتكامل والابتكار في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز: "يعد الوجه على الأرجح أحد أنظمة الإشارات الأكثر تطوراً في الكون. ربما نستطيع قياس ما يحدث، ثم نحقق أقصى استفادة من التقنيات التحليلية المتطورة والذكاء الاصطناعي لمعالجة كميات كبيرة من المعلومات، وتوليد تصورات جديدة".
وفي غضون ذلك، يبحث باحثون بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في تكنولوجيا التعرف على الوجوه، لتشخيص تطور مرض التصلب الجانبي الضموري (ALS)، وهو مرض عصبي تنكسي يؤثر على العضلات. كذلك طورت شركة ناشئة مستقرة في ولاية فلوريدا الأمريكية أداةً لتساعد أطباء الأطفال في تشخيص الأمراض الوراثية النادرة، عن طريق تحليل صور ملامح وجوه الأطفال.
يقول بعض الخبراء إن هذه التقنيات لن تكون مُهيأة لاستخدامها على نطاق واسع، قبل أن يتمكن الأطباء ومرضاهم من تقييم قدرة خوارزميات التعرف على الوجوه على اتخاذ القرارات، استناداً إلى بيانات المرضى، من أجل أن يصير البشر قادرين على الثقة بدرجة أكبر في نتائج هذه الخوارزميات.
لكن الجهود البحثية المبكرة تشير إلى مستقبل قد نشهد فيه قدرة تقنية مسح الوجه، التي يُحتمل أن تُزوَّد بها كاميرات الهواتف الذكية، أو حتى مرآة المرحاض، على مراقبة صحتنا العامة أثناء جمع الإشارات المتعلقة بالأمراض العصبية طويلة المدى، مثل الخرف. ويعتقد بعض الباحثون أن الخوارزميات قد تستخدم حتى لتعقب نجاعة علاج ما أو عقار ما في أداء وظيفته، عن طريق التغيرات في وجه الشخص.
الذكاء الاصطناعي في المجالات الطبية
يقول كين ستاين، كبير المسؤولين الطبيين في شركة بوسطن ساينتيفيك للطب الحيوي، التي تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي في أجهزة مراقبة القلب لديها، للتنبؤ بمخاطر قصور القلب لدى بعض المرضى: "تكمن المشكلة في جعل الناس تتصرف بناءً على البيانات وتثق في البيانات".
حتى اللحظة الراهنة، تتمثل أنجح تطبيقات الذكاء الاصطناعي بالحقل الطبي، في استخدام الأطباء لبرنامج ذكاء اصطناعي ذي قدرة على تفسير الصور- لنقل مثلاً صور الأشعة السينية أو الأشكال الأخرى من الفحوصات- ويقول الطبيب على الفور إذا كان يتفق مع البرنامج أو يختلف معه، وذلك وفقاً لستاين. في هذه الحالات، يتصرف الذكاء الاصطناعي بوصفه دعماً مساعداً لتشخيص الطبيب.
يقول ستاين عن تحليل صورة الأشعة السينية: "إذا أجريت مجموعة كاملة منه سوف تعلم ما إذا كنت تستطيع أن تثق فيه أم لا".
ويوضح أنه في حين أن الذكاء الاصطناعي يعالج حالات صحية ذات أسباب متعددة، مثل أمراض القلب، والسرطان، والخرف، سوف يتوجب على علماء الحاسوب الذين يطورون الخوارزميات أن يعملوا عن كثب مع الأطباء، كي يفسروا لهم الطريقة التي يتخذ بها الذكاء الاصطناعي قراراته، ما يقوده إلى التشخيص.
طُورت تكنولوجيا التعرف على الوجوه لأول مرة في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وانطلقت في تسعينياته عندما ترجم فريق من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا صوراً للوجه إلى سلسلة من الأرقام استطاع حاسوب فهمها.
وفي العقود الحديثة، اعتمدت الشرطة الأمريكية وعلى نطاق واسع بحوثاً تمولها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، لتطوير تكنولوجيا التعرف على الوجه، بهدف تحديد هوية المشتبه بهم جنائياً.
لكن جماعات الحقوق المدنية أثارت الشواغل حولها، نظراً إلى أن بعض برامج التعرف على الوجه كانت متحيزة، فقد كانت أقل دقة في تحديد هوية الأشخاص ذوي البشرة الداكنة، ما أدى إلى اعتقالات بالخطأ. وأغلق موقع فيسبوك برنامج التعرف على الوجوه الخاص به في 2021، مشيراً إلى شواغل تتعلق بخصوصية المستخدمين.
توظيف تقنية التعرف على الوجه لاكتشاف الأمراض
ورغم هذه الشواغل يأمل الباحثون في استخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد العلامات المبكرة لخطر الإصابة بالسكتة الدماغية والحالات العصبية الأخرى قبل حدوثها، وتشخيص الحالة بعد وقوعها.
عندما يصاب مريض ما بسكتة دماغية ينقطع تدفق الدم إلى الدماغ، ما يؤدي إلى تدمير أو إتلاف مناطق في الدماغ، من بينها المناطق التي تتحكم في الذاكرة والكلام وعضلات الوجه المتنوعة. ويقول الدكتور ستيفنز: "هل يمكننا استخدام الوجه بوصفه نوعاً من النافذة القابلة لفك رموزها، لمعرفة ما يحدث داخل الجسد؟".
في دراسة جونز هوبكنز، يلتقط الباحثون صور فيديو عندما تكون لديهم شكوك بأن المرضى يعانون من سكتة دماغية، سواء أكانوا داخل المستشفى بالفعل أو وصلوا لتوهم إلى المستشفى.
تُحمَّل الفيديوهات على قاعدة بيانات تُستخدم لتدريب الخوارزمية. سجل الباحثون حوالي 120 مريضاً من أصل 400 مريض يُخططون لتسجيلهم في الدراسة التمهيدية، ويأملون أن يدربوا خوارزمية اكتشاف السكتة الدماغية لتطوير دقتها. في دراسة تمهيدية لـ40 مريضاً شُخصوا بالفعل عن طريق أحد الأطباء، كانت الخوارزمية دقيقة بنسبة 70% في تشخيص ما إذا كان المريض يعاني من سكتة دماغية أم لا.
ويقول الدكتور ستيفنز إن الفريق يفحص أيضاً الإشارات الحيوية للشخص، مثل ضغط الدم ومعدل ضربات القلب، عن طريق تحليل مدى انعكاس مصدر ضوء موجه على بشرة وجوههم، وهو انعكاس يختلف قليلاً استناداً إلى تدفق الدم أسفل سطح الجلد.
يوضح الدكتور ستيفنز: "يتأرجح لون وجه كل شخص في الواقع تأرجحاً غير ملحوظ للغاية يُستبان عن طريق استخدام كاميرا. باستخدام خوارزمية بسيطة جداً تستطيع استنتاج معدل ضربات القلب، وتستطيع استنتاج مدى انتظام معدل ضربات القلب، ومستوى الأوكسجين في الدم، بل وحتى تستطيع استنتاج ضغط الدم".
طورت شركة FDNA للتكنولوجيا الحيوية التي يقع مقرها في فلوريدا، برمجية تستهدف استخدام تقنية التعرف على الوجه لتشخيص حالات وراثية نادرة لدى الأطفال الصغار. تسمح منصة Face2Gene لأي طبيب بتحميل صور مسح وجه المريض إلى تطبيق هاتفي، ثم الحصول على توصية حول ما إذا كانت الصور تشير إلى واحدة من 1500 حالة أو متلازمة مرتبطة بملامح الوجه. لدى المنصة 47 ألف مستخدم، يضمون علماء الوراثة وأطباء الأمراض العصبية واختصاصيي طب الأطفال والباحثين. يقول إريك فينجولد، المتحدث باسم شركة FDNA، إن الميزة تكمن في الكشف المبكر.
وفي بوسطن، يستخدم الباحثون في مستشفى ماساتشوستس العام، وفي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تقنية التعرف على الوجوه للتعرف على مرض التصلب الجانبي الضموري وتتبعه.
يعمل الفريق البحثي مع منظمة EverythingALS، وهي مجموعة مرضى غير ربحية تعد جزءاً من مؤسسة أُنشئت بهدف تسريع طرق تشخيص المرض واكتشاف العلاجات المحتملة له. وتعد هذه المجموعة من بنات أفكار إندو نافار، وهي رائدة أعمال في مجال التكنولوجيا، لديها دوافع شخصية وراء تسريع تشخيص مرض التصلب الجانبي الضموري.
ففي عام 2016، شعر زوجها بيتر كوهين، المسؤول التنفيذي السابق في شركة أمازون، أن كاحله يضعف، وأنه يجد صعوبة في المشي. أخبره معالج متخصص في تقويم العظام يدوياً بأن عليه زيارة طبيب الأمراض العصبية، فأخبره طبيب الأعصاب بدوره بأن ينتظر ليرى إذا كان الألم سيزول، أم أنه كان نتيجة عدوى فيروسية.
تقول إندو: "استغرق الأمر منا عامين للحصول على تشخيص. استمرت حالته في التدهور، وكان يُقال لنا: "دعونا ننتظر ونرَ".
تقول إندو إن زوجها شُخصت إصابته في نهاية المطاف بمرض التصلب الجانبي الضموري، وتوفي في عام 2019 في الـ52 من عمره.
في الأسابيع الأخيرة من حياته، تحدثت إندو مع زوجها عن كيفية تطوير تشخيص مرض التصلب الجانبي الضموري، باستخدام تكنولوجيا الصور والذكاء الاصطناعي، حتى إنها صورته وهو يمشي أملاً في فهم تطور المرض.
قال إرنست فرنكل، أستاذ الهندسة البيولوجية في معهد ماساتشوستس، الذي يعمل مع مجموعة EverythingALS: "نريد العثور على طرق أفضل لقياس الأعراض، وطرق أفضل لتحديد ما إذا كان عقار ما يعمل بنجاح".
طوّر الدكتور فرنكل وزملاؤه خوارزمية لتحليل فيديو لمرضى التصلب الجانبي الضموري لتتبع حركات الوجه، وقياس المسافة بين الشفتين (وهو مؤشر مبكر للتشخيص المحتمل) والتغيرات في نماذج الكلام. عينت المجموعة 1000 متطوع في الأشهر الـ18 الماضية. يحاول الفريق تحديد ما إذا كانت الخوارزمية قادرةً على معرفة نجاعة واحد من ثلاثة عقاقير حصلت على الموافقة لعلاج أعراض التصلب الجانبي الضموري.
يقول الدكتور فرنكل إنه برغم النتائج المبكرة الواعدة فإن استخدام الذكاء الاصطناعي اليوم هو أداةً أكثر من كونه علاجاً. ويضيف: "التشخيص المبكر صعب، ولكن ثمة أدلة قوية على أنه سينجح في نهاية المطاف".