يبدو أن عام 2023 سيكون عام الصين والدبلوماسية الصينية بامتياز، حيث بدأ النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب يتشكل على يديها، ساحبة البساط من تحت أقدام الأمريكيين في مناطق مختلفة، وها هي تفعل ما عجزت أمريكا عن فعله في الشرق الأوسط، فيما أصبحت بكين محجاً للزعماء الأوروبيين الذين يحاولون الخروج من عباءة "الوصاية" الأمريكية. فهل نشهد الآن "لحظة الصين" التي ظلت واشنطن تخشاها طويلاً؟
الصين تستميل أوروبا التي تتلاطمها أمواج الحرب الروسية الأوكرانية
مرت الصين بأسبوعٍ حافلٍ بالدبلوماسية، إذ رافق الرئيس الصيني شي جين بينغ نظيره الفرنسي، الرئيس إيمانويل ماكرون، في زيارة تستغرق 3 أيام للعاصمة الصينية ومدينة قوانغتشو الجنوبية. وهرباً، ولو لفترة وجيزة، من الاحتجاجات النارية المشتعلة في بلده، استقبل ماكرون حشوداً من الطلاب المتحمسين في جامعة سون يات سين في قوانغتشو. وبين حفلات الاستقبال الكبرى ومراسم الشاي الرسمية، شهد الزعيمان توقيع مجموعة من الشركات الفرنسية والشركات الصينية التي تديرها الدولة لبعض الصفقات التجارية الكبرى.
وأعطى ماكرون الرئيس شي المشاهد العامة التي سعى إليها؛ وهي تذكير واضح للولايات المتحدة -التي أشار إليها شي إشارة ضمنية على أنها "طرف ثالث" مهيمن- بالفجوة بين موقفها المتشدد تجاه الصين والموقف الأكثر مراوغة للكثيرين في أوروبا.
لكن لم يكن واضحاً ما أعطاه الرئيس شي لماكرون سياسياً؛ فقد حث الرئيس الفرنسي نظيره الصيني على إقناع روسيا بـ"التفكير" بشأن غزوها لأوكرانيا، لكن قوبل ذلك بخطاب نموذجي وقليل من المؤشرات على تحريك إبرة الصراع في أي اتجاه مهم.
وانضمت إلى ماكرون في الصين أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية. وأرسل الزعيمان رسائل متباينة إلى حد ما؛ إذ أعربت فون دير لاين عن أسفها لـ"ممارسات الصين غير العادلة"، لا سيما في التجارة، ووصلت إلى البلاد بعد إلقاء خطاب صارم حول التحدي الاستبدادي الذي تمثله بكين. بينما حذّر ماكرون من دفع الغرب لنفسه في "دوامة لا مفر منها" من التوترات مع الصين.
واقترح المعلقون الصينيون أنَّ هذا يرجع إلى أنَّ الأدوار التاريخية انقلبت، وأدرك ماكرون الثقل والأهمية الهائلين لاقتصاد الصين، على الأقل في الوقت الذي يحاول فيه وضع رؤية لأوروبا أكثر قوة وقدرة واستقلالاً. وكتب الباحثان في شنغهاي زانج جي وشوي شنغ في مقال حديث: "على الرغم من استمرار مخاوف فرنسا بشأن الدور [العالمي] المتزايد لبلدنا، فإنَّ دعم الصين ضروري إذا أرادت فرنسا ممارسة قوتها الناعمة في الحوكمة العالمية".
"الصين تجلب الاستقرار للشرق الأوسط"
في منتصف زيارة ماكرون، عُقِدَت قمة كبرى أخرى في بكين؛ حيث عقد وزيرا خارجية المملكة العربية السعودية وإيران -الخصمين في الشرق الأوسط- أول اجتماع على أعلى مستوى بين البلدين منذ 7 سنوات في العاصمة الصينية. وفي واشنطن، وقفت مجموعة مرتبكة من الخبراء الإقليميين تنظر بينما تلعب الصين دور قوة خارجية جالبة للاستقرار في الشرق الأوسط.
كان ذوبان الجليد بين الرياض وطهران في طور الإعداد بفضل الجهود الصينية. فقد كتب الصحفيان في The Washington Post كريم فهيم وسارة دادوش: "يقول المحللون إنَّ الدفء يعود إلى تقارب المصالح". إذ تسعى إيران، في ظل العقوبات الغربية ومحاولة خنق حركة احتجاج محلية، إلى تخفيف عزلتها العالمية والإقليمية، بينما تسعى السعودية، التي تواجه تهديدات أمنية من إيران تضر بخطتها لتنويع اقتصاد المملكة بعيداً عن النفط، إلى تهدئة التوترات الإقليمية؛ وهي استراتيجية تضمنت متابعة الشراكات مع القوى العالمية الكبرى خارج الولايات المتحدة.
قوة اقتصادية طاغية تجلب قوة جيوسياسية
بيْد أنَّ هذا يُظهِر بقوة تضاؤل النفوذ الأمريكي، خاصة على السعوديين. قالت آنا جاكوبس، كبيرة محللي شؤون الخليج في مجموعة الأزمات الدولية، لصحيفة The New York Times: "لا يزال العديد من الخبراء يفترضون أنَّ أياً من يشغل البيت الأبيض سيرشد السياسة السعودية بشأن إيران، لكن هذا ببساطة لم يعُد صحيحاً اليوم. تركز المملكة السعودية ودول الخليج العربية على مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية وحماية نفسها من التهديدات الإقليمية".
وهنا تدخل الصين برئاسة شي، القوة الاقتصادية الطاغية التي تستعرض الآن عضلات جيوسياسية جديدة. وصرح وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر للصحفي في The Washington Post ديفيد إغناتيوس الشهر الماضي: "أعلنت الصين في السنوات الأخيرة أنها بحاجة إلى أن تكون مشاركاً رئيسياً في إنشاء النظام العالمي. وقد اتخذت الآن خطوة مهمة في هذا الاتجاه".
ولا يزال من الصعب رسم ملامح هذا النظام العالمي الصيني المُتخيَّل. نحن نعلم عن طموحاتها الاقتصادية الهائلة، بما في ذلك مبادرة الحزام والطريق التي جعلت الصين تموّل وتستثمر في مشروعات البنية التحتية الكبرى في جميع أنحاء العالم.
لكن في الأسابيع الأخيرة، روّج شي جين بينغ لعدد من المبادرات الجديدة الأخرى حول "الأمن" و"الحضارة"، التي لا تزال مواقف سياسية غامضة تتحدى بالأساس بنية النظام الذي تقوده الولايات المتحدة، فضلاً عن مفهوم القيم العالمية، كما تقول صحيفة The Washington Post الأمريكية.
وقال موريتز رودولف، الباحث في مركز بول تساي الصيني بكلية الحقوق بجامعة ييل، لصحيفة The Financial Times: "يبدو أنها حجة مضادة لرواية بايدن الاستبدادية في مواجهة الديمقراطية. وهي معركة أيديولوجية أكثر جاذبية للدول النامية مما قد يعتقده الناس في واشنطن".
بين أمريكا والصين.. أسئلة صعبة تواجه الغرب
إنَّ هجوم الصين على سياسات القوة الغربية في الشرق الأوسط، على وجه الخصوص، يظهر قدرة جديدة واستعداداً للعمل. قال وو شينبو، عميد معهد الدراسات الدولية في جامعة فودان في شنغهاي، في The Financial Times: "في الماضي كنا نعلن عن بعض المبادئ، ونعلن عن موقفنا، ولكن لا نتدخل عملياً. لكن هذا سوف يتغير".
ويرى بعض المحللين أنَّ زيارة ماكرون بمثابة تذكير بالأسئلة الصعبة التي تواجه أوروبا. فرغم أنَّ الحرب في أوكرانيا والكراهية تجاه روسيا حفزت التحالف عبر الأطلسي، تظل مسألة الصين أكثر تعقيداً، مع الأهمية التي تمثلها العلاقات الاستثمارية والتجارية الصينية لآفاق أوروبا المستقبلية.
وما يعنيه ذلك بالنسبة للسيناريوهات القاتمة التي تستحوذ على تفكير صانعي السياسة في واشنطن -بما في ذلك الغزو الصيني المحتمل لتايوان- هو سؤال مفتوح، وقد يثير إجابات غير مرحب بها على جانبي شمال المحيط الأطلنطي.
وقال ماكرون للصحفيين المسافرين معه قبل التلميح إلى التوترات الحالية بشأن تايوان: "المفارقة ستكون أننا سنعتقد أننا مجرد أتباع لأمريكا، مدفوعين بالذعر. لكن السؤال الذي يتعين على الأوروبيين الإجابة عليه… هل من مصلحتنا تسريع [أزمة] في تايوان؟ لا. أسوأ شيء هو الاعتقاد بأننا -نحن الأوروبيين- يجب أن نصير أتباعاً في هذا الموضوع ونأخذ التوجيهات من أجندة الولايات المتحدة ورد الفعل الصيني المبالغ فيه".
من جهته، كتب أندرو ميتشتا، الباحث في المجلس الأطلسي: "ما يحدث في أوروبا الآن، وليس فقط ما يتعلق بتبعات هذه الحرب في أوكرانيا، بل كيف يُعرِّف الأوروبيون علاقتهم مع الصين مستقبلاً، ستُشكِّل العلاقات عبر الأطلنطي. وخيارات أوروبا عندما يتعلق الأمر بسياستها تجاه الصين ستؤثر كثيراً في نتيجة المنافسة الأمريكية مع الصين في المسارح الأخرى أيضاً".
لن يكون النظام العالمي المحدد -أو المنحوت بشدة من نظام الحزب الواحد في بكين- فرصة جذابة لمعظم البلدان. فالصين، وفق تحليل قاتم من مجلة The Economist، هي "قوة عظمى تسعى إلى النفوذ دون كسب المودة، والسلطة دون الثقة، والرؤية العالمية دون حقوق الإنسان العالمية".
لكن نفوذها الأكبر على المسرح العالمي لا يحتاج دائماً إلى قرع أجراس الإنذار. قال السيناتور كريس مورفي، الديمقراطي من كونيتيكت، الذي يقود لجنة الشرق الأوسط التابعة للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، لمجلة Politico في سياق الحديث عن دبلوماسية بكين في الشرق الأوسط: "ليس كل شيء بين الولايات المتحدة والصين يجب أن يكون لعبة محصلتها صفر. لا أعرف لماذا نتصور أنَّ هناك جانباً سلبياً لخفض التصعيد بين المملكة العربية السعودية وإيران".