في خطوة مفاجئة، أعلنت السعودية وإيران اتفاقهما على استئناف العلاقات بعد قطيعة دبلوماسية استمرت سبع سنوات، ولم يكن الاتفاق ليحظى بهذا القدر من المتابعة والاهتمام لولا الرعاية الصينية له، التي تسببت بزلزال شديد الصدمة في واشنطن.
وتدرك أمريكا جيداً أن رعاية بكين للاتفاق ستكون له عواقب سلبية على مصالحها الاستراتيجية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط ذي المعادلات بالغة الأهمية والتعقيد، وتحديداً عندما يتعلق الأمر بأمن الممرات البحرية والطاقة وتأثيرهما على الاقتصاد العالمي.
كيف بدأت هذه التحولات الكبيرة في الشرق الأوسط؟
جاءت إرهاصات التحولات الكبيرة في الشرق الأوسط، على خلفية قرار الولايات المتحدة تقليص وجودها العسكري والدبلوماسي بالمنطقة والتغلغل الروسي والصيني الكبير في شؤونها؛ حيث من شأن هذه التحولات الجيوسياسية الحد من هيمنة واشنطن طويلة الأمد في الشرق الأوسط، وخلق نظام جديد متعدد الأقطاب.
وتيرة هذه التحولات تسارعت بفعل الحرب الروسية على أوكرانيا، واشتداد المنافسة العالمية بين القوى العظمى. كما ضاعفت الحرب الروسية على أوكرانيا أزمة المنافسة على النفوذ بالمنطقة، بين الدول الغربية ومنافسيها الاستراتيجيين الصين وروسيا.
ووجدت دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نفسها في موقع أفضل، مع وجود مصادر جديدة للضغط على العواصم الغربية. هذا ما ظهر جلياً على سبيل المثال في إحجام إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة عن الاصطفاف مع الغرب بشكل كامل بشأن أوكرانيا، كما يقول تقرير لوكالة الأناضول.
وبحسب التقرير، فإن قيام نظام إقليمي متعددِ الأقطاب سوف يفسح المجال أمام الأوروبيِّين للعب دور أكثر فعالية، حيث لن تكون هناك قوة واحدة مهيمنة، وهذا يوفِر مساحات واسعة لتعزيز المصالح الأوروبية بصورة أكثر فاعلية.
هل أضحت الصين شريكاً استراتيجياً بمنظومة أمن الشرق الأوسط؟
لا تخفى جهود بكين الحثيثة للعب دور استراتيجي في الشرق الأوسط، وقد نجحت إلى حد كبير في فرض نفسها كأكبر تحدٍ جيوسياسي لواشنطن في القرن الـ21. وفي هذا الإطار جاء الاتفاق السعودي الإيراني ليشكل منعطفاً تاريخياً غير مسبوق، من حيث كونه بداية للعهد الصيني في الشرق الأوسط وربما العالم.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا التحول الاستراتيجي بالسياسة الخارجية الصينية لم يحصل بين عشية وضحاها، إنما جاء نتيجة طبيعية لتخلي واشنطن عن تعهداتها والتزاماتها تجاه دول المنطقة، وعدم ملء الفراغ الاستراتيجي الذي خلفه غزوها واحتلالها للعراق عام 2003.
صحيح أن الصين لا تمتلك قوة الولايات المتحدة العسكرية، ولا خبرتها وتجربتها، وهي لا تستطيع منافسة واشنطن في هذا المجال، لكن الولايات المتحدة هي من نأت بنفسها، وتركت الميدان فارغاً لبكين.
ما دوافع الشرق الأوسط للبحث عن عالم جديد متعدد الأقطاب؟
نسبت صحيفة واشنطن بوست لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق، المنظر السياسي الأشهر هنري كيسنجر، قوله إن ظهور بكين كصانعة سلام من شأنه أن "يغير الإطار المرجعي للدبلوماسية الدولية في المنطقة"؛ إذ لم تعد الولايات المتحدة القوة المهيمنة فيها باعتبارها الدولة الوحيدة القوية أو المرنة بما يكفي للتوسط في اتفاقيات السلام، وإن الصين اكتسبت نصيباً من النفوذ في المنطقة.
وأشار إلى أن الدور الذي تقوم به الصين حالياً يجعل قرارات إسرائيل أكثر تعقيداً، لأن على تل أبيب أخذ المصالح الصينية بعين الاعتبار، عند الضغط على إيران، وهذا يقتضي علاقات وطيدة بين بكين وتل أبيب.
وقد بدأ العديد من شركاء الولايات المتحدة في تنويع علاقاتهم الدولية بشكل واضح ومتصاعد خلال السنوات الأخيرة. ففي الشرق الأوسط وحده تعد البحرين ومصر والكويت وقطر والسعودية والإمارات وتركيا شركاء حوار حاليين أو محتملين لمنظمة شنغهاي للتعاون (SCO)، وهي مجموعة سياسية واقتصادية وأمنية متمركزة حول الصين.
وتُعد منظمة شنغهاي أضخم تحالف سياسي إقليمي في العالم، حيث يشكل أعضاؤها ما يقرب من نصف سكان العالم، وما يقرب من 3 أخماس كتلة اليابسة الأوروبية الآسيوية، وكثيراً ما يتم وصفها بـ"التحالف الشرقي" أو "ناتو الشرق" المنافس للتحالف الغربي.
من جهة أخرى، وفي وقت سابق من العام الماضي، أبدى العديد من الدول الرغبة بانضمامها إلى مجموعة "بريكس"؛ مثل: الأرجنتين وإندونيسيا والمكسيك، وتركيا وإيران، كما شارك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في القمة العاشرة بجنوب إفريقيا.
وتعمل دول "بريكس" على تعزيز نظام عالمي متعدد الأقطاب، وتحدي هيمنة القوى الغربية التقليدية، وتضم مجموعة من البلدان التي تمثل بعض الاقتصادات الأسرع نمواً في العالم، وتشكل مساحة هذه الدول ربع مساحة اليابسة، وعدد سكانها يقارب 40% من سكان الأرض، وتمتلك 25% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتسعى هذه الدول لتشكيل حلف أو نادٍ سياسي فيما بينها مستقبلاً.
ما التحديات التي تواجه تشكيل شرق أوسط متعدد الأقطاب؟
يشير الخبير الدولي في شؤون الطاقة، هادي فتح الله، إلى أن تحول منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) إلى مجموعة "أوبك بلس" عام 2016، مهّد الطريق أمام السعودية للابتعاد عن منظومة "البترودولار"، والانخراط النشط في أسواق الطاقة غير النفطية وفي التحوّل الأوسع في مجال الطاقة.
وباشرت السعودية عام 2019 في استكشاف تجارة النفط بعملات أخرى إلى جانب الدولار الأمريكي، وفي عام 2022 بدأت المملكة جدّياً النظر في خيارات التجارة النفطية مع الصين بعملة اليوان.
وقد ولّدت السياسات الناجمة عن سياسة الطاقة السعودية الجديدة بالفعل تصدّعات في الاتفاقات السياسية التي ارتكز عليها أمن المملكة لوقتٍ طويل.
أدّت هذه التطوّرات إلى ترسيخ الموقف الأمريكي الذي أسقط الخليج والأمن السعودي من قائمة أولوياته، بدلاً من أن تساهم في عودة الولايات المتحدة عن قرارها بفك الارتباط مع المنطقة. ولعلّه ليس مفاجئاً أن يتزامن ذلك مع النظرة الأمريكية التي تعتبر أن السعودية تعمد بصورة متزايدة إلى استخدام النفط أداةً سياسية في يدها.
وفي الوقت الذي دفع فيه استخراج النفط الصخري الولايات المتحدة إلى شطب النفط السعودي من قائمة أولوياتها، لم تتمكن المملكة من فرض معادلة جديدة بديلة عن النفط مقابل الأمن التي كانت سائدة في المملكة قبل عام 2015، فكانت النتيجة تمكُّن التيّار الحوثي في اليمن من شنّ هجمات على منشآت نفطية سعودية أساسية عامَي 2021 و2022.
أما إفساح المجال أمام الاستثمارات الصينية في قطاع الطاقة السعودي من خلال شركة "أرامكو" فيزيد من تعقيدات المشهد السياسي والأمني، حتى لو استحوذت شركات أسهم خاصة أمريكية بصورة مشتركة على هذه الاستثمارات.
توسيع الفضاء الاستراتيجي للصين
بينما تتجه الحكومة السعودية إلى إعادة النظر في سياساتها الأمنية، وعملية صنع القرار في قطاع الطاقة، تواجه تحديات حقيقية نتيجة إعادة الترتيبات الجارية للنفوذ الدولي؛ مما قد تنتج عنها تداعيات سياسية تشكل تهديدات حقيقية لأمنها الاستراتيجي.
صحيفة "الشعب" الصينية زعمت أن سياسة الصين في الشرق الأوسط لم تتركز على مصالحها الخاصة خلال المراحل السابقة، وأنها عارضت أي دولة تسعى لهيمنة القطب الواحد بالشرق الأوسط. وهذا يعني أن نمط التعددية القطبية بالمنطقة سيكون لصالح الصين، وأن نمط تعدد الأقطاب سوف يؤدي إلى توسيع الفضاء الاستراتيجي لبكين.
وبناء على ذلك، تسعى الصين إلى تعزيز اتجاه تعدد الأقطاب في الشرق الأوسط تحت مسمى احترام سيادة الدول العربية، وعلى أساس السعي إلى التنمية المشتركة.
قد تبدو الصين شريكا تجارياً قوياً، لكنها لا تزال غير قادرة بمفردها على سد الفراغ الاستراتيجي الذي تركته الولايات المتحدة في المنطقة؛ مما يدفع دول المنطقة إلى البحث الدائم عن البدائل، وهذا يعني شرق أوسط متعدد الأقطاب.