"الصين دولة نامية"، هكذا تحب بكين وصف نفسها في المحافل الدولية، ولكن المفارقة أن غريمتها الولايات المتحدة الأمريكية، تريد نزع هذا اللقب عنها، فما أسباب هذه الحرب الباردة الكلامية التي يبدو أنها ستتصاعد في أروقة الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، وهل الصين دولة نامية أم متقدمة؟
وبدأت الولايات المتحدة شن حرب كلامية بالمعنى اللفظي ضد الصين، انتقلت من منافستها ومشاكستها في القضايا المختلفة إلى محاولة تغيير توصيفها في المنظمات الدولية.
مجلس النواب يصدر قانوناً بالإجماع لتغيير صفة الصين
وأقر مجلس النواب الأمريكي بالإجماع مشروع قانون في 27 مارس/آذار، يُوجِّه وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، إلى تجريد جمهورية الصين الشعبية من صفة "دولة نامية" في المنظمات الدولية، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
وحصل مشروع القانون، الذي يحمل عنوان "قانون جمهورية الصين الشعبية ليست دولة نامية"، على الموافقة في مجلس النواب بأغلبية ساحقة بواقع 415 صوتاً مقابل صفر أصوات معارضة. وينص التشريع على ما يلي: "يجب أن تكون سياسة الولايات المتحدة:
(1) معارضة وصف جمهورية الصين الشعبية أو معاملتها باعتبارها دولة نامية، في أية معاهدة أو اتفاقية دولية أخرى تكون الولايات المتحدة طرفاً فيها.
(2) معارضة تصنيف جمهورية الصين الشعبية أو معاملتها باعتبارها دولة نامية في كل منظمة دولية تكون الولايات المتحدة عضواً فيها.
(3) السعي لتصنيف جمهورية الصين الشعبية أو معاملتها على أنها دولة ذات دخل متوسط أعلى، أو بلد مرتفع الدخل، أو دولة متقدمة في كل منظمة دولية تكون الولايات المتحدة عضواً فيها.
بكين جزء من تجمُّع الـ77 الذي يضم الدول النامية
وداخل الأمم المتحدة، ترتبط الصين بتحالف وثيق مع مجموعة الـ77 المكونة من 137 عضواً، وهو أكبر تحالف منفرد لـ"البلدان النامية". وتأسست المجموعة في عام 1964، وضمت وقتها 77 دولة عضواً.
وقال السفير أنوار شودري، الممثل الدائم السابق لبنغلاديش لدى الأمم المتحدة ووكيل الأمين العام السابق للأمم المتحدة، لوكالة إنتر بريس سيرفس، إنَّ تعريف الدولة النامية يمثل تحدياً معقداً.
وأشار إلى أنه "لا يوجد إطار عمل محدد أو ميثاق لتحديد الدولة النامية".
وبالنسبة لمنظومة الأمم المتحدة، فإنَّ مجموعة الـ77، التي توفر منصة تفاوض جماعي لبلدان الجنوب، هي في الواقع مرادف للدول المُصنَّفة بأنها "بلدان نامية، والبلدان الأقل نمواً، والبلدان النامية غير الساحلية، والدول الجزرية الصغيرة النامية".
وقال إنه في أكتوبر/تشرين الأول 1997، انضمت الصين إلى مجموعة الـ77 مع الحفاظ على هويتها الخاصة، باقتراح التسمية باسم "مجموعة الـ77 والصين". وتتوافق مواقف الصين بشأن القضايا الاقتصادية والاجتماعية العالمية مع مواقف مجموعة الـ77 لأغراض التفاوض.
لكونها أكبر مجموعة تفاوضية في الأمم المتحدة، وبالنظر إلى اهتماماتها المشتركة، فمن غير المتوقع أن توافق مجموعة الـ77 على فصل الصين عن الترتيبات التعاونية الحالية، حتى لو جاء الضغط من الولايات المتحدة.
هل تستخدم كل المنظمات الدولية تصنيف الدول النامية؟
ولا تحدد الأمم المتحدة تعريفاً رسمياً لمصطلح الدول النامية، لكنها مع ذلك تستخدم المصطلح لأغراض المراقبة، وتُصنّف 159 دولة على أنها دولة نامية.
ووفقاً لتصنيف الأمم المتحدة، جميع دول أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان وأستراليا ونيوزيلندا مناطق متقدمة، بينما جميع المناطق الأخرى نامية.
في مدونة بيانات للبنك الدولي، قال طارق خوخار محرر البيانات العالمي وكبير علماء البيانات، وعمر سراج الدين مدير مجموعة بيانات التنمية في البنك الدولي: "على الرغم من أننا لا نستطيع العثور على المثال الأول لاستخدام مصطلح العالَم النامي، فإنَّ ما يشير إليه باللغة الدارجة -وهي مجموعة البلدان ذات الأداء الضعيف نسبياً وبالمثل في المقاييس الاجتماعية والاقتصادية- لم يُحدَّد بشكل متسق أو دقيق، كما أنَّ هذا التعريف لم يُحدَّث".
وأضافت المدونة: "لقد أشار البنك الدولي منذ سنوات عديدة إلى البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل على أنها البلدان النامية لتسهيل النشر، لكن حتى لو كان هذا التعريف معقولاً في الماضي، يجدر التساؤل الآن عمّا إذا كان قد ظل كذلك وما إذا كان هناك تعريف أدق يبرره".
الهدف: منع الصين من الحصول على أي معاملة تفضيلية
ويقول مجلس النواب الأمريكي في تشريعه: "في موعد لا يتجاوز 180 يوماً بعد تاريخ سنّ هذا القانون، يجب على وزير الخارجية أن يقدم إلى جميع اللجان المختصة في الكونغرس تقريراً يحدد جميع مفاوضات المعاهدة الحالية التي:
بموجبها تكون كل من الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية من الدول الأعضاء الحالية في أية منظمة دولية، ويتعين على وزير الخارجية، بالتنسيق مع رؤساء الوكالات والإدارات الفيدرالية الأخرى بحسب الحاجة، متابعة ما يلي:
تغيير وضع جمهورية الصين الشعبية من دولة نامية إلى دولة ذات دخل متوسط أعلى، أو دولة ذات دخل مرتفع، أو دولة متقدمة إذا كانت هناك آلية في هذه المنظمة لإجراء مثل هذا التغيير… والعمل على ضمان عدم حصول جمهورية الصين الشعبية على معاملة أو مساعدة تفضيلية داخل المنظمة نتيجة كونها تتمتع بوضع دولة نامية".
وخلال مناقشة مشروع القرار، قالت النائبة يونغ كيم، الجمهورية من ولاية كاليفورنيا: "تعد جمهورية الصين الشعبية ثاني أكبر اقتصاد في العالم، حيث تمثل 18.6% من الاقتصاد العالمي".
وأضافت كيم: "اقتصادهم يأتي في المرتبة الثانية بعد اقتصاد الولايات المتحدة. وكما تُعامَل الولايات المتحدة على أنها دولة متقدمة، كذلك يجب على جمهورية الصين الشعبية أن تُعامَل أيضاً باعتبارها دولة ذات دخل مرتفع في المعاهدات والمنظمات الدولية، لذلك يجب أيضاً معاملة الصين على أنها دولة متقدمة".
وتابعت النائبة الجمهورية: "ومع ذلك، تُصنّف جمهورية الصين الشعبية بأنها دولة نامية، وهم يستخدمون هذا الوضع للتلاعب بالنظام وإلحاق الأذى بالدول المحتاجة حقاً".
وبمزيد من التفصيل، قال السفير شودري إنَّ البنك الدولي، إحدى مؤسسات نظام بريتون وودز، يصنف اقتصادات العالم إلى أربع مجموعات، بناءً على نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي: البلدان المرتفعة، والمتوسطة العليا، والمتوسطة الأدنى، والمنخفضة الدخل.
في عام 2015، أعلن البنك الدولي أنَّ "تصنيف العالَم النامي/المتقدم" صار أقل أهمية، وأنه سيتوقف تدريجياً عن استخدام هذا الوصف.
وبدلاً من ذلك، ستعرض تقارير البنك تجميعات البيانات الخاصة بالمناطق وفئات الدخل.
بينما تقبل منظمة التجارة العالمية ادعاء أية دولة أنها "نامية".
الصين ليست وحدها التي تطلق على نفسها "دولة نامية" بينما هي بلد غني
ولفت السفير شودري إلى أنَّ بعض الدول التي صارت "متقدمة" في الأعوام العشرين الماضية وفقاً لجميع المقاييس الاقتصادية تقريباً، لا تزال تريد تصنيفها على أنها "دولة نامية"؛ لأن ذلك يخول لها للحصول على معاملة تفضيلية في منظمة التجارة العالمية، ومنها دول مثل بروناي والكويت وقطر وسنغافورة والإمارات العربية المتحدة.
وبدأ ينتشر ذكر مصطلح "الجنوب العالمي"، الذي يستخدمه البعض بديلاً للبلدان النامية، على نطاق أوسع منذ نحو عام 2004.
ويشير الجنوب العالمي إلى التاريخ المترابط لهذه البلدان من الاستعمار والإمبريالية الجديدة والتغيير الاقتصادي والاجتماعي المتباين الذي يتسبب في استمرار التفاوتات الكبيرة في مستويات المعيشة ومتوسط العمر المتوقع والوصول إلى الموارد.
وأكد السفير شودري أنَّ "معظم البشر يقيمون في جنوب الكرة الأرضية".
كيف تستفيد بكين من هذا المسمى؟ تحصل على مساعدات من فرنسا وألمانيا!
كان تصنيف الصين كدولة نامية مرتبط بشكل كبير بأنها رغم اقتصادها الضخم، فإن متوسط دخل الفرد كان منخفضاً، ولكن خلال السنوات الماضية ارتفع متوسط نصيب الفرد من الناتح المحلي بالصين، وبات يعادل دولاً مثل روسيا وبلغاريا.
والصين، رغم أنها ثاني أكبر اقتصاد في العالم ودولة صناعية بامتياز وصاحبة قوة عسكرية ضاربة، فإنها تستفيد من تصنيفها ضمن الدول النامية، من خلال عدة مزايا، حيث يعني ذلك، وفق قواعد منظمة التجارة الدولية، من ناحية، تخفيض القيود المفروضة على تدفق السلع والخدمات في التجارة الدولية، والاستفادة من إمكان حصولها على قروض من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولهذا حرصت الصين على عدم إضاعة تلك المزايا التي حصلت عليها منذ عام 2001.
كما تستطيع شركاتها تحقيق ميزة تنافسية مقارنة بنظيراتها الغربية، بسبب إعطائها نسبة خفض أقل، من الانبعاثات الكربونية ولفترة زمنية أطول.
العام الماضي، فجَّر نائب فرنسي من حزب الجمهوريين تساؤلاً مزلزلاً عند مناقشة مجلس النواب مشروع القانون المالي لعام 2022، عما إذا كان من الطبيعي أن تستمر الصين في الحصول على دعم مالي من فرنسا، كأنها واحدة من الدول النامية. حيث حصلت في السنة المالية 2020 على مبلغ 140 مليون يورو، حسبما ورد في مقال بصحيفة الشرق الأوسط السعودية.
صحيحٌ أن هذا المبلغ بسيط مقارنة بإجمالي المساعدات الفرنسية للعالم الثالث 3.9 مليار يورو لعام 2021، ومع ذلك تحتل الصين المرتبة التاسعة بين الدول التي تحصل على الدعم التنموي من فرنسا.
كما سبق أن تساءل دير بيك، أحد نواب البرلمان الألماني (البوندستاغ)، مستنكراً، عن سبب تلقّي الصين 630 مليون يورو كمساعدات إنمائية من ألمانيا في عام 2017، على الرغم من أن الصين استثمرت 180 مليار يورو في إفريقيا وحدها بين عامي 2000 و2016، وقال إنه لا يستطيع أن يفهم سبب استمرار الصين في تلقّي أموال دافعي الضرائب الألمان لبناء اقتصادها الذي يشهد ازدهاراً.
وبينما تصنف الصين دولة نامية، فإنها في الوقت ذاته أكبر دائن حكومي في العالم للدول النامية.
ووفقاً لوزارة الخارجية الصينية، قدمت الصين في غضون عقد واحد فقط نحو تريليون دولار في شكل قروض واستثمارات ومنح وأموال أخرى لمشروعات التنمية في ما يقرب من 150 دولة
هل الصين دولة نامية حقاً؟ إليك رأي المسؤولين والخبراء في بكين
الزعيم الصيني السابق دينغ شياو بينغ، الذي قاد البلاد بين عامي 1978 و1992، كان يرى أن أحد عناصر قوة بلاده يكمن في "إخفائها قدراتها والوقوف متأهبة في هدوء"، كما تبني رؤية اقتصادية أسهمت في تحقيق البلاد نهضة اقتصادية كبرى. وله نبوءة أطلقها عام 1978، قال فيها إن الصين تحتاج إلى نصف قرن لاستكمال عملية التحديث والسيطرة السياسية والاقتصادية.
التنمية في الصين قد حققت بالفعل نتائج رائعة، ولكن مقارنة بالدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا الشمالية، لا تزال الصين دولة نامية وأمامها طريق طويل لتصبح دولة متقدمة، نظراً إلى عدم توازن التنمية، والفجوة بين الحضر والريف، حسبما ينقل موقع "الجزيرة نت" عن تشيو جينغ الأكاديمي والمحاضر الصيني.
حيث تبلغ نسبة الحضر في الصين نحو 58%، مقارنة مع 80% في البلدان المتقدمة. كما أن هناك فجوة كبيرة في الدخل بين سكان الحضر وسكان الريف.
والمناطق الريفية الفقيرة متخلفة للغاية، كما يقول المحاضر الصيني، لدرجة أنه يصعب الوصول إليها بسبب وعورة الطرق. وعلى الرغم من أن الصين أحرزت تقدماً كبيراً في بناء الطرق، ما زالت كثافة شبكة الطرق في البلاد منخفضة، حيث تعاني الصين من مشكلة عدم توازن التنمية بين مناطقها الشرقية ومناطقها الغربية.
وعلى الرغم من أن البنك الدولي صنّف الصين ضمن البلدان ذات الدخل المتوسط والعالي، فإن متوسط نصيب الفرد في الصين من الدخل الوطني في عام 2017، كان 7 آلاف و310 دولارات، أي ما يعادل 15% من نظيره في الولايات المتحدة ونحو 25% في فرنسا، وهو ليس بعيداً عن البلدان المرتفعة الدخل فحسب، بل أقل من المتوسط العالمي البالغ 10 آلاف و387 دولاراً أمريكيّاً، وما زال فيها 30 مليون فرد يكابدون الفقر، وأكثر من 80 مليون فرد معاق، وأكثر من 200 مليون مُسن يحتاجون إلى الرعاية، و15 مليون فرد يحتاجون إلى فرص عمل جديدة سنوياً.