منذ بزوغ النظام العالمي الجديد وهيمنة الولايات المتحدة على قمته، اصطفت أوروبا خلف واشنطن، وتركت دفة القيادة لأمريكا، لكن خلال السنوات الماضية ظهر متغير جديد وهو دخول الصين وبقوة على الخط، وتدشين مرحلة جديدة من تعدد الأقطاب في النظام العالمي، مما جعل أوروبا في مأزق بسبب علاقاتها المتشابكة مع الصين.
خلال العقد الماضي كان القادة الأوروبيون يتعاملون مع بكين، ويوازنون استراتيجيتهم تجاه الصين، في الوقت الذي تكثف فيه الولايات المتحدة ضغوطها لاختيار أحد الجانبين في الخلاف المتزايد بين القوتين العظميين، مما يعني أنهم باتوا أمام خيار وحيد، وهو إما معنا أو مع الصين؟ هكذا تقول واشنطن.
قادة أوروبا يتوجهون للصين
قبل عدة أشهر ذهب المستشار الألماني، أولاف شولتز، في نوفمبر/تشرين الثاني، وشارل ميشيل من المجلس الأوروبي في ديسمبر/كانون الأول. ويجري رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، زيارته هذا الأسبوع. وخلال الأسبوع المقبل، سيذهب إلى هناك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مع رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين.
تتزامن فورة النشاط الدبلوماسي مع إعلان الصين عن "شراكة غير محدودة" مع روسيا وجهود بكين المربكة للتوسط في الحرب في أوكرانيا. وقد وضع قرب الصين المتزايد من موسكو أوروبا في موقف صعب، بحسب تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
فمن ناحية، جلبت الحرب في أوكرانيا اصطفافاً عميقاً بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، اللذين وقفا متحدين في مواجهة التدخل الروسي بأوكرانيا. ومن ناحية أخرى، تعد الصين شريكاً تجارياً واستثمارياً رئيسياً لا تستطيع القوى الأوروبية الكبرى، وخاصة ألمانيا، تحمل تنفيرها.
في الوقت نفسه، فإن دول أوروبا الغربية مثل ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، بينما تدعم أوكرانيا، ترغب في التوصل إلى نتيجة دبلوماسية أسرع للحرب. إنهم يرون الصين على أنها قيد محتمل على روسيا من أجل ضبط النفس، وصوت يجب أن يستمع إليه فلاديمير بوتين. ولا يزالون يأملون في أن تلعب الصين دوراً مهماً لضمان أي تسوية نهائية، إن لم تكن وسيطاً محايداً.
قالت جانكا أورتيل، مديرة قسم آسيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في برلين: "من المثير للاهتمام أن نرى هذا المستوى من الذعر من جانب الأوروبيين ونهجهم الذي يكاد يكون وهمياً".
وأشارت إلى أن زعيم الصين، شي جين بينغ، كان قد زار موسكو قبل أسابيع وأعاد تأكيد شراكته مع بوتين ورغبتهما المشتركة في إنشاء نظام عالمي جديد. فقالت: "الذهاب إلى بكين والقول "نسعى لجعل الصين تساهم في السلام أمر غير عادي".
وقالت أورتيل إن أوروبا عليها تحذير الصين من العواقب الوخيمة إذا زودت روسيا بالمعدات العسكرية والذخيرة. وأضافت أن ما تحققه الزيارات إلى بكين بدلاً من ذلك هو إرسال إشارة مهمة إلى واشنطن: "إنها تخبر الأمريكيين أننا نهتم بتلك العلاقة مع الصين".
العلاقات الأوروبية مع الصين أكبر من الاقتصاد فقط
تُصوَّر بعض الزيارات الأخيرة والمقررة إلى بكين من قبل القادة الأوروبيين في الأصل على أنها تركز على الشأن الاقتصادي، وقد أُجِّلَت في الماضي بسبب الجائحة، لكن دفء شي الجديد مع بوتين في خضم المواجهة بشأن أوكرانيا قد حول موضوع المحادثة والاهتمام العالمي.
لا ترغب الصين في شيء أكثر من فصل أوروبا عن الولايات المتحدة، وهي حريصة على التأكيد على أن وضعاً أفضل لن يكون مفيداً للأعمال التجارية فحسب، بل يفيد أيضاً سعي أوروبا من أجل "الاستقلال الاستراتيجي" -الحفاظ على استقلالها في العمل، حتى عن الولايات المتحدة.
واشنطن، من جانبها، تود أن يقف الأوروبيون إلى جانبها بقوة أكبر، وتنحاز إلى العلاقة عبر الأطلسي المعززة حديثاً، والتي وصفها دبلوماسيون أوروبيون بأنها أفضل ما كان عليه منذ عقود، لتشمل تحالفات أوضح ضد الصين. فالدول الأوروبية، التي لا ترى الصين منافساً لها ولكنها شريك تجاري مقلق بشكل متزايد، تفضل أن يتوقف الأمريكيون عن دفعهم إلى تبني موقف أكثر صرامة ضد بكين.
وقال دبلوماسيون إنه في اجتماعات مع السلطات الأمريكية، على سبيل المثال، وصف صناع السياسة الأمريكيون التنسيق الوثيق للعقوبات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ضد روسيا باعتباره مخططاً لعقوبات مستقبلية محتملة ضد الصين، في حالة وجود تحرك عسكري ضد تايوان.
وقال الدبلوماسيون إن هذا النوع من الكلام أثار قلق الحكومات الأوروبية، التي ترى أن مصالحها تُخدَم بشكل أفضل من خلال عدم الانتقاء بين واشنطن وبكين، لا سيما في وقت مبكر جداً مما أصبح مواجهةً بين القوى العظمى.
في غضون ذلك، تجادل الحكومة الصينية بأن الولايات المتحدة لا مصالح أوروبا الفضلى في صميم أولوياتها عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا.
الصين تسعى لجذب الأوروبيين لصفها
وبحسب الصحيفة الأمريكية، ففي الشهر الماضي بمؤتمر ميونخ للأمن، انتقد وانغ يي، رئيس السياسة الخارجية المعين حديثاً في الصين، الولايات المتحدة بشدة، وناشد الأوروبيين أن يتصرفوا بمفردهم.
وأشار إلى أن واشنطن تريد الحرب لإضعاف روسيا. وقال: "قد لا ترغب بعض القوى في أن تشهد محادثات السلام وهي تتحقق. إنهم لا يهتمون بحياة وموت الأوكرانيين أو الأذى الذي يلحق بأوروبا. قد يكون لديهم أهداف استراتيجية أكبر من أوكرانيا نفسها".
انخرطت الصين في هجوم متجدد في بروكسل، مع السفير المعين حديثاً فو كونغ، الذي تولى منصبه في ديسمبر/كانون الأول، وتحدث بحرارة عن الصين والاتحاد الأوروبي باعتبارهما "قوتين رئيسيتين تدعمان السلام العالمي، وسوقين كبيرتين تعززان التنمية المشتركة، وحضارتين عظيمتين تعززان التقدم البشري".
وتحاول الحكومة الصينية أيضاً إحياء صفقة تجارية كبيرة مع بروكسل، الاتفاقية الشاملة للاستثمار التي أزعجت الولايات المتحدة، والتي اكتملت تقريباً قبل 5 سنوات، والتي أُعلِنَت قبل أيام فقط من تولي الرئيس بايدن منصبه، ورغم تحذيرات فريقه بالانتظار، لكن الصفقة قد عُلِّقَت منذ ذلك الحين.
قال رينهارد بوتيكوفر، أحد 5 أعضاء في البرلمان الأوروبي عاقبتهم بكين بسبب آرائهم الانتقادية تجاه الصين؛ بعد أن فرض البرلمان عقوبات على الصين بسبب المعاملة القاسية للإيغور، إن إحياء الصفقة يبدو غير مرجح. اتُّهِمَت الصين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وهو ما تنفيه، ووضعت الآلاف من الإيغور في ما تسميه معسكرات إعادة التأهيل.
وقال دبلوماسيون من الاتحاد الأوروبي إن فو اقترح مؤخراً في اجتماعات خاصة أن الصين قد ترفع هذه العقوبات من جانب واحد؛ إذا تحركت بروكسل بعد ذلك لإكمال اتفاقية الاستثمار، لكن الإجماع بين المسؤولين يتمثل في أن مثل هذه الخطوة ستكون شبه مستحيلة.
وانتقدت بعض الدول الأعضاء سلسلة زيارات القادة الأوروبيين إلى بكين، وقال رئيس وزراء لاتفيا، كريسغانيس كارينز، إن هذه الزيارات سمحت للصين باتباع سياسة "فرّق تسُد".
لكن ماكرون دافع، يوم الجمعة، عن رحلته مع فون دير لاين. وقال في حديثه إلى الصحفيين بعد قمةٍ للاتحاد الأوروبي إنه يود التنسيق مع الشركاء الأوروبيين. وقال: "لدينا وجهة نظر أوروبية مشتركة لإشراك الصين إلى أقصى حدّ"، مضيفاً أن الاتحاد الأوروبي يتحدث "بصوت موحد".