في صراع البقاء بين الطائرات، صار تقليص المقطع العرضي للرادار (البصمة الرادارية)، أو ما يعرف بقدرات التخفي الشبحية، من أهم الميزات التي ينبغي أن تتمتع بها المقاتلات الحربية. وفي عالم بات فيه تخفّي الطائرة أو الكشف عنها مسألة حياة أو موت، فإن قدرات التخفي صارت ميزة لا غنى عنها للمقاتلات والقاذفات الجوية. وإليكم في هذا التقرير كيفية عمل قدرات التخفي الشبحية، وكيف تستخدمه القوات الجوية للتغلب على الخصوم، في القتال الجوي وفي الاستهداف الأرضي.
القدرات الشبحية للطائرات.. دفاعات جوية متكاملة
بدأت دول كثيرة تستثمر في الدفاعات الجوية المتكاملة في ستينيات القرن الماضي. واعتمدت تلك المنظومات على ربط الرادارات الأرضية والجوية بأنظمة القيادة والتحكم، التي بات يمكنها أن تصدر أوامر الإطلاق لبطاريات صواريخ "أرض – جو" وقواعد جوية فيها طائرات مقاتلة جاهزة للإقلاع عند الإشارة.
وهكذا، قام التعويل على هذا التكامل المحكم في التصدي لأي قاذفة مهاجِمة تحاول اختراق الحدود في دول ومناطق مختلفة، منها فيتنام والشرق الأوسط وأوروبا الغربية، كما يقول تقرير لمجلة Popular Mechanics الأمريكية.
واقتضى هذا التقدم في أنظمة الدفاع تطويراً مقابلاً له في القوات الجوية الهجومية لابتكار وسائل تكتيكية جديدة -مثل القيادة والسيطرة المحمولة جواً، والحرب الإلكترونية، وإخماد الدفاع الجوي للخصوم، وغير ذلك- تستطيع بها مجموعة قليلة نسبياً من الطائرات أن تخترق دفاعات العدو وتصل إلى أهدافها. ولكن هذا التطور صاحبته زيادة في المخاطر التي تتعرض لها المقاتلات وطياروها.
الهروب من الرادارات
كان الرادار عماد منظومة الدفاع الجوي، وما زال الوسيلة الأساسية للكشف عن الطائرات المعادية. فالرادارات قادرة على رصد الطائرات من 150 كيلومتراً وأكثر. وعلى الرغم من أن الرادارات لا تحدد لنا نوع الطائرة، فإنها تكشف عن أشياء تيسِّر السبيل إلى ذلك، مثل الحجم التقديري للطائرة وسرعتها وارتفاع تحليقها والاتجاه، وكل ذلك كان كافياً لتنظيم الدفاع الجوي، وتهيئة القوات الدفاعية من أجل التصدي للهجوم القادم.
دفع ذلك بعض المخططين العسكريين ومهندسي الطيران إلى التساؤل: ماذا لو توصلنا إلى وسيلة تتمكن بها الطائرة من التحليق عبر المجال الجوي للعدو دون الظهور على راداره؟ وبدلاً من أن نحتاج إلى عشرات الطائرات أو أكثر للقضاء على هدف واحد، نعتمد على طائرة واحدة -حاملة للقنابل- تتسلل خفية من وراء دفاعات العدو المعقدة، وتسقط قذائفها، وتعود سالمة إلى أرض الوطن.
من هنا بدأت حكاية القدرات الشبحية للمقاتلات الجوية
يعتمد الرادار في عمله على إرسال تيارات من موجات الراديو، واعتراضها عند عودتها. وتنعكس الموجات عند اصطدامها بالأجسام في طريقها، فتتنبَّه منظومات الدفاع الجوي إلى أن طائرات مهاجمة في الطريق إليها. وأدرك المهندسون أن موجات الراديو تتأثر باختلاف أنواع الأسطح التي تتعرض لها، لكنَّ أحداً منهم لم يتوصل إلى طريقة يمكن أن نتوقع بها على وجه التحديد الاستجابةَ الصادرة عن تلك الموجات.
كانت الآثار المترتبة على التوصل إلى كيفية بناء الطائرات المزودة بقدرات التخفي من الرادار آثاراً هائلة. فقد تمكن المهندسون من تصميم طائرات تزن 22680 كيلوغراماً وتظهر في الرادار كأنها مجرد نحلة طنانة، ما يعني أن نظام الرادار صار عاجزاً عن اكتشافها حتى تقترب إلى مسافة معينة. وقلل ذلك من المدى الراداري الذي يمكن اكتشاف الطائرة فيه من 160 كيلومتراً إلى 32 كيلومتراً فقط، وبذلك يمكن للطائرات الشبحية أن تتسلل لبلوغ أهدافها دون اكتشاف من أنظمة الرادار.
البداية من السوفييت والتطوير في أمريكا
في الستينيات، طور الفيزيائي السوفييتي بيتر أوفِمتسيف نموذجاً للتنبؤ بكيفية انتشار الموجات الكهرومغناطيسية، مثل موجات الرادار، عند اصطدامها بأسطح ثنائية وثلاثية الأبعاد. وقد نشرت الدراسة العلمية لهذا النموذج في الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، لكنه لم يستخدم على ما يبدو في أي تطبيق عملي حتى اكتشفه مهندسو شركة لوكهيد مارتن الأمريكية، وترجموا دراسات أوفِمتسيف إلى الإنجليزية، وأصبحت تطبيقات هذا النموذج أساساً لإنشاء تقنية التخفي الحديثة من الرادار.
توسعت شركة لوكهيد في استخدام ما توصل إليه أوفِمتسيف، وأثبتت أن بناء الطائرة بأشكال معينة يقلل من البصمة الرادارية لها. ونشأ مصطلح "المقطع العرضي للرادار"، للتعبير عن نسبة الأبعاد الهيكلية للأسطح الرئيسية للطائرة -المقدمة والجسم والأجنحة والجنيحات والمظلة الواقية لقمرة القيادة، وغير ذلك- إلى طول الموجة.
وتبيَّن بالفحص أن الطائرات ذات الأسطح الكبيرة المسطحة، مثل القاذفة "بي 52″، والطائرات ذات المثبت الرأسي (الجزء الثابت من الذيل العمودي)، مثل القاذفة التكتيكية "إف 111 آردفارك"، تعكس كميةً كبيرة من طاقة الرادار. والأمر كذلك في المخازن الخارجية، مثل مخازن الصواريخ والقنابل وخزانات الوقود، فهي تعكس كميات كبيرة من الطاقة الكهرومغناطيسية. بل تبين أن بعض المداخل الصغيرة في الطائرة، مثل مواضع المسامير والفجوات ونتوءات الطائرة، يمكن أن تزيد من كمية الطاقة المنعكسة عنها.
المقاتلة الشبحية والقاذفات
كانت الطائرة "هاف بلو" أول طائرة بتصميمٍ يضع قدرات التخفي عن الرادار أولوية له. وقد صنعتها شركة "لوكهيد مارتن"، وانفردت الطائرة بشكل خارجي لم يكن له مثيل من قبل، فعلى خلاف معظم الطائرات التي كانت تعتمد على المنحنيات والأسطح الرأسية والمداخل الكبيرة والفجوات لامتصاص الهواء، كانت أوجه الطائرة هاف بلو تحمل أبعاداً ذات زوايا ماسية الشكل، ومداخل صغيرة، ولم يركَّب المثبتان الرأسيان تركيباً مستقيماً على بعضهما كما جرت العادة، بل رُكبا بتوجيه متقابل لتشتيت الطاقة المنعكسة عن الجزء الخلفي.
كانت الطائرة هاف بلو طائرة تجريبية، لكن لم يمر 4 سنوات إلا وأنتجت المقاتلة الشبحية "إف 117 إيه نايت هوك"، ولم تكن طائرة تجريبية مثل هاف بلو، بل كانت طائرة شبحية مقاتلة. وكانت المقاتلة الجديدة تشبه الطائرة هاف بلو، لكنها كانت أكبر حجماً، ومُصممة لحمل قنبلتين موجهتين بالليزر تزِنان 900 كيلوغرام، وتودَعان داخل المقاتلة لتجنب الطاقة المنعكسة عن المخازن الخارجية.
انفردت القوات الجوية الأمريكية باستخدام المقاتلة "إف 117 إيه"، التي أُنتج منها 59 طائرة في سرية تامة، وأجرت القوات تدريباتها عليها في منطقة اختبار "تونوباه" السرية في عمق صحراء نيفادا. وكانت هذه الطائرات قادرة على اختراق المجال الجوي للعدو، وضرب أهدافه بدقة كبيرة، ولم يكن لها مثيل في أي مكان آخر في العالم.
كُشف عن أسطول طائرات "إف 117 إيه" في عام 1988، ثم القاذفة الشبحية "بي 2 سبيريت" في العام نفسه. واستغنى النموذج الجديد من القاذفة "بي 2" عن الأجنحة الخفاشية وذراع الرافعة والمثبتتات الرأسية، فتقلَّصت البصمة الرادارية لها. واعتُني في الطائرات الشبحية اللاحقة، مثل المقاتلة "إف 22 رابتور" والمقاتلة "إف 35 لايتنينغ الثانية" وقاذفة القنابل الثقيلة "بي 21 رايدر"، بأن تكون منظومات التخفي في الطائرة أقل تكلفة والطائرة أسهل في الصيانة.
سباق تسلح دائم من التقنيات والتقنيات المضادة
ما إن صار واضحاً أن تقنيات التخفي قابلة للتطبيق في الطائرات الهجومية، إلا صار التوسع في إنتاج المقاتلات الشبحية هو الغاية التالية. فالمقاتلات الشبحية، مثل "إف 22" تستطيع التحليق متخفية على ارتفاع أعلى ونصب كمائن للطائرات الأخرى. واليوم، صارت القدرات الشبحية أساسية في إنتاج مقاتلات الجيل الخامس، وتشير التصاميم المتاحة لمقاتلات الجيل السادس في الولايات المتحدة واليابان وبريطانيا ودول أخرى، أن التقنيات الشبحية صارت ركناً مفروغاً منه في المقاتلات الحديثة.
ومع ذلك، فإن التخفي ليس وسيلة سحرية لاختراق الدفاعات الجوية للعدو ولا اكتساح مقاتلات العدو وإسقاط قاذفاته في السماء، بل هي مثل كل التقنيات العسكرية الأخرى، سرعان ما تندرج في سباق تسلح دائم من التقنيات والتقنيات المضادة، وربما تُفضي بنا بعض الوسائل المتقدمة تكنولوجياً، مثل الرادار الكمي، إلى التخلي عن قدرات التخفي المتاحة حالياً ذات يوم.
والخلاصة أن هذه التقنية يجب أن توضع في مكانها الصحيح -دون مبالغةٍ أو استخفاف- ضمن صندوق الأدوات المتاح في الطائرات الحديثة، والذي يشتمل على أدوات أخرى، مثل الرادارات المتعددة الأغراض، وأجهزة الحرب الإلكترونية، والأسلحة التي تعمل بالمحركات الفرط نفاثة، والذكاء الاصطناعي، وأشعة الليزر الهجومية والدفاعية، وغير ذلك.
أحدثت قدرات التخفي الشبحية ثورة غير مسبوقة في عالم المقاتلات الجوية بعد الحرب العالمية الثانية، وصارت المقاتلات الشبحية أحد المقومات الرئيسية للقوة الهجومية للجيوش. ومع ذلك، فإن التعقيد التكنولوجي والتكلفة الهائلة لتلك المقاتلات جعلا الحصول عليها محصوراً في قلة من الدول. ويوماً ما، ستنشأ تقنيات جديدة قادرة على تعطيل التخفي، والتقليل من فاعليته، أو حتى تجاوزه تماماً. لذلك نقول إن ما تعده القوات الجوية أمراً لا غنى عنه اليوم قد يصير تقنية تقادم عليها الزمن غداً.