وسط الأزمات المتلاحقة والخانقة التي يعاني منها اللبنانيون، تسببت الطبقة الحاكمة في لبنان في أزمة من نوع جديد، فما قصة التوقيت الصيفي التي أثارت جدلاً طائفياً؟ ومن المسؤول عن الأزمة التي يراها البعض بلا معنى؟
فالعملة منهارة والكهرباء مقطوعة أغلب الوقت، ولا يوجد دواء في الصيدليات، وتبخرت المدخرات، والفساد يزكم الأنوف، وغلاء المعيشة يخنق الجميع، لكن تقديم الساعة أو تأخيرها وجد مكاناً بارزاً وسط أزمات لبنان المتراكمة.
إذ استيقظ اللبنانيون، الأحد 26 مارس/آذار 2023، في توقيتين مختلفين، وسط خلاف بين السلطات السياسية والدينية حول موعد الانتقال إلى التوقيت الصيفي بتقديم ساعة واحدة.
كيف بدأت أزمة التوقيت الصيفي في لبنان؟
كان رئيس الوزراء المؤقت، نجيب ميقاتي، قد أعلن عن بدء العمل بالتوقيت الصيفي مع نهاية شهر رمضان، الذي يتوقع أن ينتهي يوم 20 أبريل/نيسان المقبل، وسيسمح هذا التأجيل للمسلمين بالإفطار يومياً حسب التوقيت الشتوي، أي أبكر بساعة عن التوقيت الصيفي.
ميقاتي، وهو مسلم سني، أعلن قراره الخميس 23 مارس/آذار تزامناً مع اليوم الأول لشهر رمضان، قائلاً إنه قرر تأجيل بدء التوقيت الصيفي حتى منتصف ليل 20 أبريل/نيسان المقبل.
ورغم عدم ذكر ميقاتي لسبب اتخاذ هذا القرار، يرى البعض أنها محاولة لكسب ود المسلمين، وفرصة لتعزيز شعبيته خلال شهر رمضان. فمع الإبقاء على التوقيت الشتوي، سيتمكن المسلمون من الإفطار ساعة أبكر، أي حوالي الساعة 18:00 مساءً بدلاً من الساعة 19:00 في حال ما تم اعتماد التوقيت الصيفي.
إلا أن السلطات المسيحية قالت إن التوقيت الصيفي سيعتمد يوم الأحد الأخير من شهر مارس/آذار الجاري، كما جرت العادة كل عام. فالكنيسة المسيحية المارونية ذات النفوذ في لبنان، أعلنت تجاهلها للقرار ووصفته بـ"الفجائي". كما قررت عدة مؤسسات لبنانية كبرى تجاهلها لقرار ميقاتي، إذ ستعتمد قناتان إخباريتان، LBCI وMTV، التوقيت الصيفي الأحد الأخير من هذا الشهر.
من جانبها قررت شركة الخطوط الجوية اللبنانية، شركة طيران الشرق الأوسط، اعتماد حل وسط. وقالت إن ساعاتها وأجهزتها ستبقى على التوقيت الشتوي، لكنها ستعدل أوقات رحلاتها لتتماشى مع التوقيتات الدولية.
الارتباك على مستوى التوقيت طال أيضاً مستخدمي الهواتف المحمولة والأجهزة الإلكترونية التي تحول بعضها تلقائياً إلى التوقيت الصيفي، إذ لم يتم إخطار العديد من المشغلين بالتغير الحاصل على مستوى تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي.
ماذا يقول المعترضون على تأجيل التوقيت الصيفي؟
القصة بدأت بانتشار تسجيل فيديو لرئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، وهو يطلب من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، تأخير العمل بالتوقيت الصيفي العالمي، مراعاة للصائمين خلال شهر رمضان.
لكن التيارات السياسية المتخاصمة وجدت في الأمر حجة جديدة لسجال طائفي حول حقوق المسيحيين والمسلمين ومكانة كلّ فئة في السلطة، في تعاقب الفصول، وتغيير التوقيت.
فأعلنت البطريركية المارونيّة عدم تنفيذها القرار، والتزامها بالتوقيت الصيفي العالمي، بحسب وكالة فرانس برس، وانتقد مكتبها الإعلامي في بيان اتخاذ القرار "من دون التشاور مع سائر المكوّنات اللبنانيّة، ومن دون أي اعتبار للمعايير الدولية، وللبلبلة والأضرار في الداخل والخارج".
واعترض كل من التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، أبرز الأحزاب المسيحية، على القرار. وكان من أبرز المعترضين رئيس التيار الوطني الحرّ، النائب جبران باسيل، الذي كتب في تغريدة على تويتر: "قصة الساعة ما بتنقبل ومعبّرة كتير بمعانيها… ما بيجوز السكوت عنها لحدّ التفكير بالطعن فيها أو بعصيانها".
ووصف النائب عن التيار سيزار أبي خليل في تغريدة القرار بأنه "فضيحة"، وقال إنه قد "يتسبب بإسقاط حكومات"، معتبراً أنه لم يكن يحق لرئيسيْ مجلس النواب والوزراء الانفراد بالقرار.
وبطبيعة الأمور، لا يوجد أمر جديد في اعتراض باسيل وكتلته على قرارات ميقاتي، ونصائح بري، والعكس صحيح. فهناك خصومة سياسية بين تيار باسيل، وحركة أمل التي يرأسها بري. كذلك، فإن التوتر يسود العلاقة بين باسيل وميقاتي، منذ خلو مقعد رئاسة الجمهورية، وذلك بعد مغادرة الرئيس السابق ميشال عون قصر بعبدا قبل أشهر، ومواصلة ميقاتي عمله في حكومة تصريف الأعمال، ما يعده التيار الوطني الحرّ "تجاوزاً للصلاحيات".
وفي مناسبات لا تحصى، تسود خلافات بين التيارات السياسية اللبنانية حول توزيع المناصب في الدولة، بحسب التوزيع الطائفي. فمن المعتاد أن يدخل البلد في شلل مثلاً، في حال حدوث خلاف على تعيينات في مناصب أمنية أو وظائف عامة "تَحق" بحسب العرف السياسي لطائفة أو لأخرى.
ولكن لم يسبق أن شهد الرأي العام سجالاً مماثلاً على موضوع التوقيت الصيفي، خصوصاً أن العادات الاجتماعية السائدة، والخطاب العام، يراعي جميع الطوائف، من حيث العطل الرسمية والأعياد التي تتقارب تواريخها من بعضها هذه السنة، فمع حلول صوم رمضان لدى المسلمين هناك الصوم الكبير لدى المسيحيين، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
لكن على أية حال، استيقظ اللبنانيون الأحد في توقيتين زمنيين مختلفين، في بلد واحد، مع التزام البعض بقرار الحكومة، وتحدّي آخرين له.
هل السجال طائفي أم سياسي؟
الخلاف بشأن التوقيت الصيفي والشتوي، يعكس الانقسامات العميقة في بلد خاضت فيه الفصائل المسيحية والمسلمة حرباً أهلية أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
السجالات السياسية في لبنان قد تتحول بسهولة إلى اقتتال حول المكانة التي تتمتع بها كل طائفة، ورغم جميع الخطابات التي تتحدث عن الوحدة والعيش المشترك، وعلى الرغم من الهم الاقتصادي الذي لا يميّز بين لبناني وآخر، يمكن لسجال طائفي حاد أن يشتعل لأسباب لا قيمة فعلية لها، ونقاش التوقيت الصيفي المشتعل حالياً خير مثل.
فبعض المعلقين على مواقع التواصل الاجتماعي يرون أن القرار لن يخدم الصائمين بشيء، لأنهم سيصومون نفس عدد الساعات من الفجر إلى الغروب، بغض النظر عن التوقيت، بينما قال آخرون إن مبدأ التوقيت الصيفي بأكمله ليس له أي فائدة تذكر في الحالة اللبنانية، فلا تأثير له على حركة الإنتاج ولا على الاقتصاد مع ركود الاقتصاد بسبب الأزمة المالية.
وكما هو معتاد في كل عام عند تغيير التوقيت، استعاد بعض المعلقين تعليقاً ساخراً شهيراً لزياد الرحباني من أحد برامجه الإذاعية، وهو يتحدث فيه عن تغيير التوقيت، ويقول موجهاً حديثه للسياسيين: "كل سنة بتقدموا الساعة ساعة وبتأخرونا عشر سنين لورا في نفس الوقت. انتبهوا على السنين كمان مش بس الساعات".
فالكنيسة المارونية قدمت التوقيت ساعة مساء السبت، وأعلنت مؤسسات وأحزاب ومدارس مسيحية خططاً مماثلة. وقال وزير التعليم اللبناني عباس الحلبي الأحد إن المدارس ستعمل في التوقيت الصيفي خلافاً لقرار الحكومة.
وفي الوقت نفسه بدا أن المؤسسات والأحزاب الإسلامية ستستمر في العمل وفقاً للتوقيت الشتوي، ما يعمق الانقسامات في بلد عاش حرباً أهلية من عام 1975 إلى 1990 بين فصائل مسيحية وإسلامية، ويقسم مقاعد البرلمان على أسس طائفية.
ووصف مكتب ميقاتي في بيان مساء السبت قرار تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي حتى آخر رمضان، بأنه "إداري بحت"، وعبر عن أسفه "للمنحى الطائفي الذي اتخذته مسألة تأخير التوقيت". وقال متحدث باسم مكتب رئيس الوزراء لرويترز إنه ليس لديه تعليق بعد على مبررات القرار ولا على ردود الفعل الغاضبة عليه.
ودعا هنري خوري وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال، وهو مسيحي، ميقاتي إلى العدول عن قراره في أول اعتراض من داخل مجلس الوزراء الذي غالباً ما تتحدد المواقف السياسية فيه وفقاً لأسس طائفية. وقال في بيان في وقت متأخر السبت إن القرار "مخالف لمبدأ الشرعية"، مضيفاً أنه أحدث بلبلة في المجتمع اللبناني وتسبب في انقسامات بين المراجع الدينية في وقت يعاني فيه لبنان من عدة أزمات.
بعض المعلقين على تويتر أعلنوا رفضهم التأجيل بعبارات غاضبة، لأنهم رأوا فيه دليلاً على محاولة فرض عادات بعض الفئات على فئات أخرى، ووصل الأمر ببعضهم حدّ التعبير عن قلقهم من أن تصير عطلة الأسبوع في لبنان يوم "الجمعة بدل الأحد"، علماً أن المدارس الرسمية والدوائر الحكومية في لبنان تعطّل يوميْ الجمعة والأحد في الأساس.
ووضع البعض القرار في سياق "ضعف التمثيل المسيحي" في الدولة، فرأوا أنه لو كانت رئاسة الجمهورية فاعلة وقوية، ولا تعاني الفراغ منذ أشهر، لما كانت الرئاستان الأخريان تمكنتا من الاستئثار بقرار تغيير الساعة.
ورأى البعض أن الحدّة في السجال، ليست إلا واجهة لخلاف سياسي بدأ يتعاظم بين التيار الوطني الحرّ وحزب الله، بعدما كان الجانبان يتحدثان لسنوات عن التأثيرات الإيجابية لورقة التفاهم التي وقعاها عام 2006، وكانت إيذاناً لبناء علاقات أمتن بين الموارنة والشيعة.
وفي وقت سخر فيه عدد من المعلقين من مستوى النقاش الطائفي غير المبرّر وسط ما يعيشه لبنان من أزمات، رأى آخرون أن هذا النوع من الجدل، ليس إلا مظهراً من مظاهر تنافس ما سموه بمكونات الفساد، على مكتسباتهم في الدولة، تحت عناوين طائفية.
وسخر معلق قائلاً: "يا هل ترى غداً حين يدرس أولادنا التاريخ (سيجدون) أن اندلعت الحرب الأهلية في لبنان عام 2023 بسبب عدم تقديم الساعة؟".
كما اعتبر معلقون أن القرار لن يغير شيئاً في حياة الصائم في شهر رمضان، كون عدد ساعات الصوم لن يتغير. وكتبت مغردة أخرى: "الفكرة أن تفطر باكراً علماً أنه ليس لديك (المال) لتفطر به".
وفي مقهى في بيروت، مساء السبت، سمع مراسل من رويترز أحد الزبائن وهو يسأل: "هل ستتبع التوقيت المسيحي أم الإسلامي من الغد؟"، وقال النائب المستقل وضاح صادق على تويتر إن القرار تم اتخاذه "دون أي رادع أو اعتبار للعواقب العملانية والإرباك الذي يتسببون به للمواطن".
الخلاصة هنا هي أن جدل التوقيت الصيفي والشتوي في لبنان هو انعكاس لانشغال المسؤولين بأمور هامشية، في مؤشر واضح على فشل متجذر في حلّ المسائل الجوهرية، في بلد يعتبر القطاع العام فيه شبه مشلول بسبب فقدان رواتب الموظفين قيمتها، والقطاع الخاص حاله ربما يكون أسوأ.
فقد حذر صندوق النقد الدولي الخميس من أن لبنان في وضع خطير للغاية بعد مرور عام على تعهده بإصلاحات فشل في تطبيقها، وحث الحكومة اللبنانية على التوقف عن الاقتراض من البنك المركزي.