أكد إيمانويل ماكرون تمسّكه بقانون رفع سن التقاعد، وفي المقابل ازدادت حدة الإضرابات والاحتجاجات، فإلى أين تتجه هذه المواجهة المشتعلة؟ وماذا تعني بالنسبة للأوضاع في فرنسا؟
الرئيس الفرنسي قال، الأربعاء 22 مارس/آذار، إن القانون الجديد لإصلاح نظام التقاعد، الذي لا يحظى بشعبية كبيرة ويرفع سن التقاعد، ضروري وسيدخل حيز التنفيذ بحلول نهاية العام. وأضاف: "لست نادماً"، لكنه أشار إلى رغبته في تحسين العلاقة المشحونة مع النقابات العمالية وإشراكها بشكل أكبر في الإصلاحات في المستقبل.
ماكرون متمسك بقانون التقاعد الجديد
استغل ماكرون مقابلته مع (تي.إف 1) وتلفزيون "فرانس 2" لإعادة التأكيد على وجهة نظره القائمة على فكرة أن إصلاح نظام التقاعد مستحيل دون رفع سن التقاعد، وقال: "أتظنون أنني مستمتع بهذا الإصلاح؟ لا. لكن لا توجد مئة طريقة لموازنة الحسابات.. هذا الإصلاح ضروري".
والقصة هنا تتعلق بتقرير كان مجلس توجيه نظام التقاعد الفرنسي قد نشره في سبتمبر/أيلول 2022، وأشار إلى تسجيل فائض مالي قدره 3.2 مليار يورو عام 2021، لكن المجلس توقع أن يشكو من عجز مالي في السنوات الـ25 المقبلة. وفق هذا المجلس، يتوقع أن ينهار نظام التقاعد بشكل طفيف وتدريجي بين عامي 2023 و2027 قبل أن يصبح سلبياً إلى 2032، ثم يستقر ويستعيد توازنه من جديد.
ويرى ماكرون أن "جميع الدراسات الجادة تشير إلى ارتفاع مستوى النفقات بهدف الحفاظ على نظام التقاعد، ولهذا السبب والحل الوحيد الذي نملكه هو إطالة مدة العمل". وبالتالي يريد الرئيس الفرنسي أن يرفع سن التقاعد لتحقيق هدفين: الأول هو تخفيض مستوى النفقات، والثاني هو زيادة موارد صندوق تمويل المعاشات، لكن هل هذه هي الطريقة الوحيدة أو الحل الوحيد فعلاً كما أكد الرئيس؟
ميكائيل زمور، وهو متخصص في الشؤون الاقتصادية وأستاذ باحث في جامعة (باريس 1) وصاحب كتاب "النظام الفرنسي للضمان الاجتماعي"، يختلف تماماً مع وجهة نظر ماكرون.
كان زمور قد علق على تقرير مجلس توجيه نظام التقاعد، قائلاً إنه "يبين بشكل واضح أن نظام التقاعد ليس مهدداً، وجميع السيناريوهات تشير إلى أنه سيكون متوازناً من الناحية المالية".
وأضاف لموقع فرانس برس: "السبب الحقيقي الذي يقف وراء إصلاح نظام التقاعد مدوّن في الصفحة الثالثة لبرنامج التوازن والاستقرار الاقتصادي الذي أرسلته الحكومة الفرنسية إلى بروكسل الصيف الماضي. هذا البرنامج يشير إلى أن سياسة تخفيض الضرائب على الشركات، التي اتبعها الرئيس ماكرون، سيتم تداركها بتنفيذ إصلاحات هيكلية في العديد من المجالات، بينها نظام التقاعد. وتأمل الحكومة الفرنسية بواسطة هذه الإصلاحات خفض عجزها المالي إلى أقل من 3% بحلول 2027. الأمر في الحقيقة لا يتعلق بتمويل نظام التقاعد أكثر مما هو اقتصاد النفقات لتمويل سياسة تخفيض الضرائب على الشركات".
على أية حال، ورغم الغضب الشعبي المتصاعد وإضرابات النقابات العمالية المستمرة منذ شهور، ورغم فشل ماكرون في الحصول على الأغلبية اللازمة لإقرار القانون بالطريقة البرلمانية الديمقراطية، إلا أن الرئيس الفرنسي وحكومته قرّرا تفادي التصويت البرلماني وتم إقرار القانون باستخدام الصلاحيات التنفيذية.
ماذا عن رد فعل الشارع الفرنسي؟
لكن تمسّك الرئيس الفرنسي بالقانون الجديد لا يعني أن المعركة قد حسمت، إذ أغلق عمال فرنسيون غاضبون من رفع سن التقاعد، الطريق إلى إحدى صالات مطار شارل ديجول في باريس يوم الخميس 23 مارس/آذار، في إطار احتجاجات على مستوى البلاد، ما أجبر بعض المسافرين على التوجه إلى هناك سيراً على الأقدام.
وتعطلت خدمات القطارات وأُغلقت بعض المدارس، بينما تراكمت القمامة في الشوارع وتعطل توليد الكهرباء مع تصعيد النقابات الضغط على الحكومة لسحب القانون، وهو ما يبدو أنه أحد 3 خيارات أحلاها مُر على ماكرون أن يختار بينها، بحسب تحليل لموقع فرانس24.
ومن المهم هنا التوقف عند نقطة جوهرية في هذا الصراع، وهي أنه خلال الفترة التي سعت فيها الحكومة لتمرير مشروع قانون التقاعد دون تصويت في البرلمان، جمعت الاحتجاجات ضد المشروع، الذي يمدد سن التقاعد سنتين إلى 64 عاماً، حشوداً ضخمة وسلمية في مسيرات نظمتها النقابات المهنية.
لكن منذ قرار الحكومة تفادي التصويت في البرلمان الأسبوع الماضي، شهدت احتجاجات عشوائية في باريس وأماكن أخرى إضرام نيران في صناديق قمامة ونصب متاريس كل ليلة وسط اشتباكات مع الشرطة. كما أغلق محتجون الأربعاء محطات قطارات في مدينتي نيس وتولوز جنوب البلاد.
ويمثل ذلك، إلى جانب الإضرابات المستمرة التي تؤثر على مستودعات النفط والنقل العام وجمع القمامة، أخطر تحدّ لسلطة الرئيس ماكرون منذ احتجاجات أصحاب "السترات الصفراء" قبل أربع سنوات. وتظهر استطلاعات الرأي أن أغلبية الفرنسيين يعارضون قانون التقاعد وكذلك قرار الحكومة تمريره في البرلمان من دون تصويت. أما أوليفييه دوسوبت، وزير العمل، فقد قال إن الحكومة لا تنكر حالة التوتر بالبلاد لكنها تريد المضيّ قدماً في التغييرات.
فيليبي مارتينيز، زعيم الكونفيدرالية العامة للشغل، قال في أعقاب خطاب ماكرون الذي أعلن فيه عن دخول القانون حيز التنفيذ نهاية العام الجاري: "أفضل رد يمكن أن نقدمه للرئيس هو مشاركة الملايين في الإضرابات وخروجهم إلى الشوارع".
والخميس شوهدت أعمدة من الدخان تتصاعد من أكوام حطام محترقة أعاقت حركة المرور على طريق سريع بالقرب من تولوز في جنوب غرب فرنسا، كما تسببت الإضرابات في إغلاق طرق بمدن أخرى لفترة وجيزة. وقال متحدث باسم شركة مطارات باريس لرويترز إن الاحتجاج بالقرب من المبنى رقم 1 في مطار شارل ديجول لم يؤثر على الرحلات الجوية.
ومن المقرر تنظيم مسيرات احتجاجية في أنحاء البلاد في وقت لاحق من اليوم، بينما استهدفت احتجاجات أخرى مستودعات للنفط وأغلقت محطة للغاز الطبيعي المسال في مدينة دنكيرك الشمالية.
ما خيارات ماكرون إذا؟ وإلى أين تسير فرنسا؟
على أية حال، يبدو أن موجة الاحتجاجات والإضرابات التي كانت تهدف إلى إجبار إيمانويل ماكرون على التراجع عن خطته لرفع سن التقاعد قد فشلت، لكن استمرار الاحتجاجات والإضرابات واتساع رقعتها وحجمها رغم إقرار القانون يشير إلى أن المعركة لم تحسم بعد.
فعلى الرغم من فشل أحزاب المعارضة في حجب الثقة عن حكومة إليزابيث بورن بعد تمرير قانون إصلاح نظام التقاعد باستخدام المادة 49.3 من الدستور الفرنسي، التي تجيز للرئيس تمرير القوانين دون تصويت بشرط أن يؤكده المجلس الدستوري، وهي الخطوة التي لم تحدث بعد، إلا أن هذا لا يعني أن المعركة الهادفة لإسقاط هذا القانون قد انتهت.
كان ماكرون، الذي يبدو معزولاً في قصر الإليزيه، قد التقى برئيسة الجمعية الوطنية يائيل براون بيفيه ورئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه للاستماع إليهما ومعرفة موقفيهما من الوضع السائد في البلاد قبل حديث الأربعاء، الذي أعلن فيه ماكرون تمسّكه بالقانون.
كما أنه قرر تنظيم مأدبة عشاء لأعضاء الكتلة البرلمانية الداعمة لكي يحثهم على الصمود أمام العاصفة، خاصة وأن بعض النواب أصبحوا يشككون في نجاعة قانون إصلاح نظام التقاعد الذي تعارضه غالبية الفرنسيين، ويخشون أن يؤثر سلباً في الناخبين خلال الانتخابات المقبلة.
من جهتها، قررت إليزابيث بورن، التي نجت من اقتراحي حجب الثقة بالجمعية الوطنية بفارق تسعة أصوات فقط (278 مقابل 287) اللجوء "في أسرع وقت" للمجلس الدستوري للنظر في شرعية وقانونية قانون التقاعد الجديد الذي دافعت عنه بقوة. وهي نفس الخطوة بالذات التي قامت بها المعارضة التي تأمل أن يعارض المجلس الدستوري القانون الجديد أو على الأقل أن يشطب أكبر عدد من مواده بحجة أنها "غير دستورية".
لكن النقابات العمالية، التي اجتمعت للمرة الأولى منذ 12 عاماً في تكتل نقابي موحّد، نظمت مظاهرة حاشدة الخميس هي العاشرة من نوعها، للمطالبة بسحب قانون التقاعد الجديد بحجة أنه غير "قانوني" ولم تتم المصادقة عليه من قبل البرلمان.
وصرح المتحدث باسم الحزب الاشتراكي الفرنسي في الجمعية الوطنية أرتور دولابورت بأن "هناك مخرجين اثنين لإنهاء الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد: الأول يتمثل في اللجوء إلى المجلس الدستوري الذي سيحكم في نهاية المطاف على القانون. والثاني يمر عبر تنظيم استفتاء شعبي تشاركي لحسم هذه القضية".
لكن هذا المخرج يتطلب الوفاء لبعض الشروط، أولها جمع حوالي خمسة ملايين توقيع شعبي و185 توقيعاً من قبل أعضاء البرلمان (إجمالي 577) لكي يتم تنظيم هذا الاستفتاء.
من ناحيته، دعا حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان رئيسة الوزراء إليزابيث بورن إلى "التنحي من منصبها" أو إقالتها من قبل الرئيس ماكرون. لكن "الرئيس الفرنسي يرفض تغيير الحكومة أو سحب القانون أو تنظيم استفتاء شعبي"، حسب ما كشفت وكالة الأنباء الفرنسية.
وأضافت الوكالة التي استقت الخبر من بعض المشاركين في الاجتماع الذي نظمه الرئيس الفرنسي صباح الثلاثاء أن هذا الأخير طلب من حزبه أن "يقدم له بعض الاقتراحات والأفكار بغية إيجاد منهجية إصلاحية جديدة".
لكن بعض المتتبعين للسياسة الفرنسية يعتقدون أنه في حال أراد ماكرون العودة إلى وسط اللعبة، فعليه قبل كل شيء أن يتخذ بعض القرارات الجريئة، كسحب القانون الجديد مثلاً أو تعيين حكومة جديدة. وإلا، فإنه سيواجه مشاكل كثيرة في البرلمان من أجل تمرير قوانين أخرى كقانوني الهجرة والعمل اللذين سيطرحان للمناقشة في الأيام أو الأشهر القليلة المقبلة.
كما يخشى البعض الآخر من دخول فرنسا في دوامة عنف طويلة الأمد، مثل ما حدث خلال مظاهرات السترات الصفراء والتي تركت ذكرى أليمة عند الفرنسيين ولدى الرئيس ماكرون نفسه.
الكرة الآن في ملعب الرئيس ماكرون الذي ترى المعارضة أنه المسؤول الأول عن نشوب الأزمة السياسية، فهي تطالبه بالتراجع عن القانون. فهل سيسحب ماكرون القانون أم يقيل الحكومة أم يلجأ لخيار الاستفتاء الشعبي؟ وفي حالة إصرار ماكرون على التمسك بالقانون، فإلى أين تتجه فرنسا؟