بعد 4 سنوات من اقتحام إرهابي أسترالي مسجدين في بلدة كرايستشيرش الهادئة في نيوزيلندا، وقتل 51 مسلماً أثناء تأدية صلاة الجمعة، تسعى عائلات الضحايا لتعليم المجتمع المحلي والعالم الحب، وكبح العنف والعنصرية ضد الآخر، وتعزيز الروابط، حيث تقول العائلات إن المجتمع في نيوزيلندا لا يزال بحاجة إلى ذلك.
كيف تحاول عائلات ضحايا مذبحة المسجدين مداواة جراحها؟
بينما تجهِّز نوريني عباس قمصان الأفرقة، وتحضر الغداء لمهرجان محلي لكرة القدم يوم الأربعاء، 15 مارس/آذار 2023، تتذكر كيف نقلت أبناءها المهووسين بكرة القدم إلى الملعب في كرايست تشيرش، في نيوزيلندا، حيث أحب أبناؤها كرة القدم. كانت اللعبة تعني الاندماج والصداقة، بغضّ النظر عن اللغة أو الثقافة. عززت الروابط في مجتمعهم وبشرت بطريقةٍ تشكِّل روابط جديدة خارجها.
لكن جدول المباريات الودية يوم الأربعاء يختلف عن المباريات السابقة. حيث تستضيف نوريني الحدث السنوي لإحياء ذكرى ابنها الأصغر، صياد عباس ميلن و50 من المصلين المسلمين الآخرين، الذين قُتلوا عندما فتح برينتون تارانت، الإرهابي الذي يؤمن "بتفوق العرق الأبيض" النار على مسجدهم خلال صلاة الجمعة، قبل 4 سنوات.
وتقول صحيفة The Guardian البريطانية التي تروي الحكاية، إن صياد، ابن 14 عاماً عندما تُوفِّيَ، كان الأصغر بين النجوم اللامعين الخمسة في كرة القدم الذين قُتِلوا في 15 مارس/آذار 2019. والآن تعمل كل أمهاتهم، بطرق مختلفة، لتحقيق نفس الهدف: كبح العنف البغيض الذي تعرض له أطفالهم قبل أن يتمكن من قبض أرواح أطفال من عائلات أخرى. ويقولون إن هذا العمل يلم جراحهم.
تقول نوريني، التي بدأت العمل منذ الهجوم الدموي كمنسقة توعية للمسلمين في مركز Purapura Whetu للصحة النفسية والاجتماعية في كرايست تشيرش: "عندما نتحدث عن الحصول على المساعدة، قد يحصل الناس على العلاج أو الاستشارة. أفضل مساعدة تلقيتها هي العمل مع المجتمع، ومن أجله".
لا يزال المجتمع النيوزيلندي بحاجة لتعلّم الكثير
كانت جاسيندا أرديرن، رئيسة الوزراء آنذاك، سريعة في حظر جميع الأسلحة المستخدمة في الهجوم. ولكن بعد 4 سنوات، لا تزال عملية التحقيق في عملية القتل في مراحلها الأولى، ولا يزال العديد من الضحايا والناجين يبحثون عن الحقائق.
طلبت بعض العائلات من الحكومة التخلي عن أي حفل تأبين هذا العام، في حين أن نوريني جزء من مجموعة أخرى من النساء اللواتي يستضفن أسبوعاً من الفعاليات (بما في ذلك يومٌ في صالة كرة قدم لـ42 من أطفال المدارس الذين تتراوح أعمارهم بين 10 إلى 14 عاماً).
تقول نوريني، التي نجت من الهجوم على مسجد النور، أول مسجد هاجمه الإرهابي: "اليوم لا يتعلق بتذكر أننا فقدنا أطفالنا؛ لأننا نتذكر أطفالنا طوال الوقت. نريد أن يجتمع المجتمع الأوسع في ذلك اليوم، وأن يتذكر الناس حقاً ما فعلوه من أجل جيرانهم المسلمين في 15 مارس 2019".
لم تغير الهجمات أسلوب حياة نيوزيلندا بشكل جذري. في المقابل، استمرت التداعيات في إثارة قلق المجتمع المستهدف، حيث كان العديد من المسلمين يعرفون عشرات الرجال والنساء والأطفال الذين قُتلوا. بمرور الوقت، نشأ شعور بين بعض النيوزيلنديين بأن لا ضحايا إطلاق النار ولا الإرهابي لهم أي علاقة بهم.
أوصلته للمسجد، وبعد لحظات بدأ إطلاق النار
تقول روزماري عمر، والدة طارق عمر، الذي كان يبلغ من العمر 24 عاماً عندما قُتِل: "أشعر تقريباً بأن نيوزيلندا قد أغلقت الباب، وأنهم يواصلون حياتهم، وهو ما يمكنني تفهُّمه. لكني أريد أن يفهم الناس أن هذا يمكن أن يحدث لمجتمع آخر".
طارق، الثاني من بين 4 أبناء، كان يعود من الجامعة كل يوم بجيوبٍ مليئة بالحجارة، واستكمل دراسته في الجيولوجيا. كان خبيراً بيئياً ونباتياً صارماً، وكان حريصاً على التغذية والتدريب على كرة القدم. لعب طارق في أول 11 مباراة لناديه، وفاز اللاعبون البالغون من العمر 9 أعوام، الذين درّبهم بالبطولة قبل أيام من وفاته. وتُقام كأس سنوية على شرفه. لم يتعلم قيادة السيارات مُطلقاً، لذا كان دور والديه مهماً قبل أي مباراة.
في اليوم الذي قُتل فيه ابنها، اقتادته روزماري، كما كانت تفعل دائماً، إلى مسجد النور وانتظرت في السيارة، بينما ذهب طارق إلى الداخل للصلاة. بعد لحظات، بدأ إطلاق النار.
تساعد روزماري الآن في تنسيق الملاحظات والأسئلة الموجهة للحكومة من المسلمين في كرايست تشيرش، حول التقدم المحرز في برنامج عمل واسع النطاق التزمت به بعد التحقيق في الهجمات. وتقول إن التغيير بطيء، ويصعب أحياناً الحصول على دليل من المسؤولين على حدوث تحرُّك في هذه الأمور.
تركت والدة طارق غرفة نومه كما هي، وأدراجها مليئة بالحجارة. ووضعت صورته على كرسي شاغر في حفل زفاف أخته الكبرى، وتتخيله روزماري وهو يلعب مع حفيدها الأول، البالغ من العمر الآن عامين.
عندما كان طفلاً صغيراً، تردَّد طارق على روضة للأطفال المسلمين في كرايست تشيرش، وتظل آثار الدمار بارزة فيها إلى الآن. وكان من بين القتلى زملاء سابقون له، وكذلك آباؤهم. قُتِلَت طفلة تبلغ من العمر 4 أعوام كانت تؤدي الصلاة مع والدها، بعد إصابتها بطلقات نارية.
جهود كبيرة تقودها العائلات
ميسون سلامة، مديرة الروضة، أُصيبت هي الأخرى، وأُصيب زوجها بجروح بالغة في الهجوم، وقُتل ابنها عطا عليان، 33 عاماً، حارس مرمى منتخب نيوزيلندا لكرة الصالات. تقول إن إيمانها الإسلامي لا يزال قوياً كما كان دائماً. لكن أشياء أخرى أصبحت مختلفة.
تقول ميسون، الحاصلة على درجة الدكتوراه في علم الأحياء: "لم أكن أهتم بالسياسة من قبل. كنت أعيش حياتي، وأستمتع بعائلتي وأطفالي وأقوم بعملي كمعلمة".
كانت قرة عينيها ابنها البكر عطا، الذي كان محبوباً من قبل تلاميذ رياض الأطفال، حيث كان يقود شاحنتهم، وشيَّد شركة برمجيات خاصة به. تقول ميسون: "حتى بعد أن تزوج، كان يأتي كل يوم ويقول: ما الخطة اليوم يا أمي؟".
الآن ميسون عضوة في اللجان التي تقدّم المشورة للحكومة حول جهود التماسك الاجتماعي، لا سيما في قطاع التعليم، وحول احتياجات الثكالى والناجين. قامت بنشر كتاب كتبته لابنة عطا، التي كانت في الثانية من عمرها عندما قُتِلَ أبوها، يشرح الحزن والخسارة للأطفال، وقد وُزِّعَ في مدارس نيوزيلندا.
قانون لخطاب الكراهية
في سبتمبر/أيلول الماضي، تحدثت في لجنة تابعة للأمم المتحدة حول حقوق واحتياجات ضحايا الإرهاب، إلى جانب أم ثكلى في مذبحة عام 2011 على يد شخص متعصب لسيادة البيض في النرويج. أدرجت كلتا المرأتين مخاوف مماثلة، تفصل بينهما سنوات: عدم كفاية دعم الصحة النفسية، والافتقار إلى المساءلة، والانتشار العالمي الخبيث للتطرف العنصري عبر الإنترنت، الذي غذى كلتا الجريمتين.
تقول ميسون: "فقدان الثقة، وفقدان الأعمال التجارية، وفقدان العمل، والمشكلات التي يواجهها الناس تصعِّب على العائلات التعامل معها بمفردها".
في فبراير/شباط، أعلن رئيس الوزراء النيوزيلندي الجديد، كريس هيبكينز، عن قانون لخطاب الكراهية الذي اقترحته أرديرن بعد الهجوم، وسوف يُحال إلى لجنة مستقلة للمشورة.
ورغم كل جهودهم للتأثير على القوانين والسياسات، فهي وروزماري ونوريني مدفوعات بشيء أكثر بساطة. في الحكم الصادر في أغسطس/آب 2020 بحق الإرهابي، الذي حُكم عليه بالسجن المؤبد دون فرصة للإفراج المشروط بعد إقراره بالذنب في جميع التهم (وقد سعى منذ ذلك الحين للحصول على إذن للاستئناف)، قالت نوريني عباس للمحكمة: "سأعيش بشكلٍ أفضل، وسأفعل أشياءً لشعبنا ومجتمعنا".