يعد الصراع السعودي الإيراني واحداً من أقدم الصراعات وأكثرها اتساعاً في منطقة الشرق الأوسط، ولذا فإن فهم أسباب هذا الصراع ومناطقه مهماً نتائج الاتفاق السعودي الإيراني على عودة العلاقات بين البلدين الذي أبرم بوساطة صينية، وتأثير الاتفاق على أزمات المنطقة.
ورغم أن الصراع المذهبي بين السنة والشيعة واحد من أقدم صراعات المنطقة، فإنه تراجع بشكل كبير منذ القرن التاسع عشر، ولكن عودة الخطاب الطائفي في المنطقة وبداية النزاع السعودي الإيراني بشكله الحالي، قد حدثا مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران التي أقامت جمهورية إسلامية شيعية ثورية في مواجهة دولة ملكية إسلامية سلفية محافظة رأسمالية حليفة للغرب.
جذور الصراع السعودي الإيراني
قدمت الثورة الإسلامية خطاباً شيعياً ثورياً، يحاول أن يتزعم العالم الإسلامي متذرعاً بالثورية والعداء لأمريكا وإسرائيل والبذخ الملكي، ليتخطى اختلاف المذاهب، وبالتالي ينازع الرياض رعايتها للإسلام السياسي التي ازدهرت بعد محاربته في مصر والدول العربية الجمهورية
وفي الوقت ذاته قدم ثورة إيران خطاباً شيعياً يركز على المظلومية، لتثوير الأقليات الشيعية بمنطقة الخليج.
كما أنه خطاب جمهوري ثوري يهاجم الأنظمة الملكية بنفس منطق الأنظمة الاشتراكية القومية العربية عبر انتقاد ما يعتبره فروقاً طبقية في الأنظمة الملكية، وعلاقتها بالغرب، وما يعتبره خذلانها منها للقضية الفلسطينية.
وترجم النظام الإيراني هذه الأيديولوجيا إلى عملية تصدير ثورة، كانت عمدية أحياناً، ومرتجلة أحياناً أخرى، وازداد التوتر مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية ودعم دول الخليج لبغداد التي كان يقودها صدام حسين.
وتحول التوتر الإيراني الخليجي لا سيما مع الكويت والسعودية، إلى عمليات عسكرية أحياناً، مع هجوم إيران على ناقلات النفط المنطلقة من الموانئ السعودية الكويتية وانتهت إحدى المواجهات بإسقاط طائرة F-15 سعودية مقاتلةً إيرانية من طراز F-4 فانتوم عام 1984.
ولكن المنافسة امتدت بعد ذلك لتشمل أجزاء واسعة من المنطقة.
لبنان ساحة الصراع السعودي الإيراني الأولى
حتى عام 1958، كان الصراع الطائفي في لبنان بين المسلمين والمسيحيين وبالأكثر بين الدروز والموارنة، مع دور سني بارز ولكن غير حاد.
وكانت الطائفة الشيعية مهمشة اجتماعياً في ظل فقرها وغلبة سكان الريف عليها، ولكن مع دخول تأثير الحركات القومية والاشتراكية، وتأثير الثورة الفلسطينية وزيادة التعليم، بدأ دور الشيعة في الصعود، بطريقة بدا في البداية أنها خالية من الطائفية، ونظر قادة اليسار اللبناني ومنظروه وزعماء الحركات الفلسطينية المسلحة إلى أن شيعة لبنان على أنهم جنود الثورة العربية الاشتراكية القادمة ضد الطائفة المارونية الموالية للغرب والتي يقودها رأسماليون فاسدون (حسب تعبيراتهم آنذاك)؛ والسُّنة الذين سلَّموا قياد طائفتهم لتجار متواطئون معهم.
ولكن سرعان ما حوَّل الإمام الشيعي موسى الصدر، الإيراني الأصل الذي جاء إلى لبنان عام 1959 كممثل لمرجع شيعي إيراني، الحراك الشعبي الشيعي الذي بدا في البداية علمانياً يسارياً قومياً، إلى موجة شيعية دينية بخطاب قومي اجتماعي ولكن بقيادة طائفية تعلمت مهارات التنظيم من اليسار والحركات الفلسطينية.
وتحالفت حركة أمل، التي أسسها الصدر (وهي اختصار لـ"أفواج المقاومة اللبنانية")، مع نظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي كان نظاماً طائفياً فجاً بخطاب علماني عروبي التوجه.
بعد اختفاء الصدر إثر زيارة غامضة لليبيا عام 1978، ونجاح الثورة الإسلامية الإيرانية عام 179، دشنت طهران نفوذها في الجناح الأكثر تديناً بالحراك الشيعي القادم، عبر إرسال لواء وخبراء من الحرس الثوري للجنوب اللبناني عام 1982 بعد الغزو الإسرائيلي.
في البداية نظر نظام الأسد بارتياب إلى حزب الله والمجموعات الشيعية المحسوبة على إيران، خاصةً أن نهج الحزب ضد الأهداف الغربية والخليجية والعراقية كان أكثر تطرفاً من أن يتحمله نظام الأسد رغم أنه حاول استغلاله.
وكان نظام الأسد في البداية متوجساً من تبعية حزب الله المباشرة والفجة لإيران، حيث يؤمن الحزب بولاية الفقيه، وبالتالي يعتبر مرشد إيران إمامه الديني وقائده السياسي الواجب الطاعة، إضافة إلى تدينه الشديد الذي يخالف سلوك وأفراد وخطاب نظام الأسد ذي الشكل العلماني بالذات في الحياة الاجتماعية، مما جعله قلقاً منه، وظلت "أمل" هي المقربة لدمشق، بينما حزب الله هو حليف إيران، التي هي بدورها حليفة لنظام الأسد.
اتفاق الطائف جعل لبنان ساحة نفوذ سورية سعودية وترك لإيران مساحة صغيرة
انتهت الحرب الأهلية اللبنانية عبر اتفاق الطائف الذي أُبرم عام 1989، بواسطة الذهب السعودي لإغراء المتحاربين بالاتفاق، والسيف السوري لمن يرفض منهم الاتفاق.
ومنذ ذلك الحين بدأت معادلة جديدة في لبنان وُصفت بمعادلة "س س" أي "السعودية-سوريا"، تقاسم البلدان النفوذ في لبنان: السعودية عبر حليفها المقرب مؤسس تيار المستقبل، وزعيم السنة رفيق الحريري، الذي تولى عبر رئاسته للوزراء، ملفَّي الإعمار والاقتصاد، مقتسماً بعضهما مع أبرز حلفاء سوريا مثل رئيس مجلس النواب نبيه بري.
إضافة إلى نفوذ سعودي واسع عبر التبرعات للعديد من المؤسسات اللبنانية خاصةً السنية، فضلا عن تعزيز العلاقات القديمة مع مراكز القوى المارونية.
بينما سيطرت سوريا على الأمن والجيش اللبنانيين، مباشرة، إضافة إلى نفوذها المتأتي عبر الطائفة الشيعية التي تقودها حركة أمل.
بدا أن النفوذ الإيراني محدود بجانب نفوذ السعودية وسوريا، حيث يتركز في مجموعة من المسلحين الذين يحاربون إسرائيل حرباً طوباوية لا جدوى منها (حزب الله)، ومتدينين شيعة فقراء في لبنان البلد الأكثر تغريباً بين البلدان العربية.
ولكن رهان إيران يبدو قد نجح بشكل لم تتوقعه هي نفسها.
كيف تحوَّل حزب الله من مجموعة شبه منبوذة لجماعة مسيطرة؟ السمعة والسيف والمال
فمقاومة حزب الله التي كانت محدودة في بدايتها توسعت، ونجحت في إجبار إسرائيل على الانسحاب من لبنان عام 2000، وتحوَّل الحزب الصغير الذي كان يوصف بالمتطرف لفترة، إلى أيقونة لبنانية متيَّم بها اليسار اللبناني ويُعجب بها السُّنة، ويحترمها قادة الموارنة اليمينيون، ويرونها خيراً من حلفاء الأسد الذين تورطوا في دماء المسيحيين ونهبوا ممتلكاتهم خلال الحرب الأهلية.
ولفترة من الزمن اكتسب حزب الله احترام كل الطوائف اللبنانية؛ ليس فقط لدوره المقاوم وعلاقته الجيدة برفيق الحريري، ولكن أيضاً لأنه لم يتورط في الحرب الأهلية ولا في الفساد الذي لطَّخ سمعة الأحزاب اللبنانية كلها، بعد نهاية الحرب، وساعد السمت المتواضع لقيادات وأعضاء الحزب المتناقض مع التأنق اللبناني المشهور، في تأكيد هذه السمعة.
وعلى الأرض وفي أزقة ضاحية بيروت الجنوبية وقرى الجنوب اللبناني، اكتسب حزب الله شعبية هائلة في أوساط الشيعة بفضل المساعدات الاجتماعية، والدروس الدينية، والخطابات الحماسية والاحتفالات الدرامية في المناسبات الشيعية، التي أدخلت مظاهر التدين الإيراني الشيعي بقوة للبنان.
وأسس الحزب دولة موازية للدولة اللبنانية، والأخطر أنه وفر مع حركة أمل، حصانة للطائفة الشيعية من سلطات الدولة الطبيعية عن عمد أو بشكل عفوي، فباتت كثير من المناطق الشيعية لا تدفع مقابل خدمة الكهرباء، لأنها تتوقع أن يحميها الحزب من عقاب الدولة (رغم أنه لم يفعل ذلك، ولكن تأثيره المعنوي دوماً حاضر ويمثل عائقاً أمام سلطة الحكومة).
بعد اغتيال الحريري بدا أن نفوذ إيران وسوريا قد انتهى بلبنان
ومع تزايد الخلافات بين الحريري ورئيس النظام السوري الحالي بشار الأسد، ازداد دور الحزب كحليف لسوريا مقارنة بحركة أمل الحليف التقليدي لدمشق.
وفي 14 فبراير/شباط 2005، وقع الحدث المفصلي في تاريخ لبنان والمنطقة، باغتيال رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري، الذي يعد أكبر زعيم سني في تاريخ لبنان (وقد يكون هذا سبب اغتياله)، وهي العملية التي اتهم مؤيدو الحريري سوريا بارتكابها، بينما أدانت فيها المحكمة الجنائية الدولية غيابياً عضواً بحزب الله رغم أنه نادراً ما يؤكد آل الحريري وتيار المستقبل على وجود دور للحزب في الجريمة.
وتبع اغتيال الحريري إندلاع ثورة الأرز، وما شهدته من مظاهرات ضخمة ضد الوجود السوري، وقبلها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 لعام 2004، بضرورة الانسحاب السوري من لبنان والذي نفذته دمشق بعد اغتيال الحريري.
بدا أن نفوذ سوريا وإيران في لبنان قد انتهى، ولكن الواقع أثبت عكس ذلك تماماً.
ولكن غزوة 7 أيار أثبتت أن لا أحد أقوى من حزب الله في لبنان
بينما انسحب جيش الأسد من لبنان، أدت عقود من الدعم الإيراني والرعاية السورية ونجاحات حزب الله الذاتية إلى تزايد قوة الحزب بشكل هائل، وأصبح هو المتحكم في الحياة السياسية والأمنية اللبنانية بدلاً من دمشق، بوطأة أخف وأكثر ذكاءً، وأشد عمقاً.
وورث حزب الله تدريجياً سلطة دمشق في التحكم بالقرارات الحكومية، وحلفائها وأتباعها المختلفين، كما تحالف الحزب مع أكبر قوة مارونية وهي التيار الوطني الحر بقيادة العماد ميشال عون، خصم آل الاسد السابق.
وبعد انسحاب حزب الله وحلفائه من من تشكيل الحكومة بقيادة القيادي بتيار المستقبل فؤاد السنيورة، انفردت قوى 14 آذار الموالية للغرب والسعودية، بالسلطة عبر هذه الحكومة، وظنت أنها قادرة على الحزب.
ولكن عندما قررت حكومة السنيورة بناء على ضغط من الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، تفكيك شبكة اتصالات حزب الله وإقالة مسؤول أمن المطار التابع للحزب، اجتاحات ميليشيات حزب الله و"أمل" المناطق السنية في بيروت والمناطق الدرزية بجبل لبنان، فيما عُرف بأحداث 7 أيار 2008، ووقف الجيش اللبناني يشاهد الأحداث كأنه مراقب تلفزيوني!
كان هذا اليوم تذكرة لا تنسى للبنانيين جميعاً، بأن لا أحد أقوى من حزب الله في لبنان، كما كان يوماً لا ينسى في تاريخ العلاقات السنية الشيعية بالمنطقة والصراع السعودي الإيراني.
بعد ذلك حاولت السعودية وتيار المستقبل وبعض القوى الخليجية بشكل متفرق، التصدي لنفوذ الحزب بأشكال مختلفة، وتفيد تقارير بأنه جرت محاولات لتسليح مجموعات سنية ذات طابع سلفي مثلما حدث عبر تسليح في طرابلس، كما يعتقد أن تيار المستقبل دعم الثوار السوريين.
كما يتهم الحزب وأنصاره تيار المستقبل، بالمسؤولية عن تسليح أحمد الأسير الذي دخل في مواجهة مع الجيش اللبناني عام 2013.
ولكن أثبتت التجربة أن التركيبة الدينية والاجتماعية لسُنة لبنان غير قابلة للتسلح بشكل فعال، فسُنة لبنان عكس بقية اللبنانيين، أهل مدن وليس أهل جبل، كما أن غياب البعد التنظيمي والأيديولوجي جعل مثل هذه الجماعات السنية خارجة عن السيطرة، وأحياناً تمثل خطراً على الدولة اللبنانية والطائفة السنية نفسها أكثر من كونها خطراً على حزب الله.
مع ذلك، ظلت الرياض تدعم لبنان والطائفة السنية رغم كل هزائم تيار المستقبل، والانتقادات الموجهة له بسوء إدارة الأموال السعودية، ولكن استمرت قوة حزب الله في التزايد، بينما الدولة اللبنانية تزداد ضعفاً.
الرياض وجدت نفسها تمول البلد الذي تتحكم فيه منافستها إيران
بدا أن لبنان بات ساحة للنفوذ الإيراني منفرداً، ولم يعد ساحة لتقاسم النفوذ السعودي السوري أو السعودي الإيراني، فنصيب السعودية من لبنان هو الإنفاق، وكان آخر مظاهر هذا الإنفاق منحة ملكية قررها الملك الراحل عبد الله بقيمة 3 مليارات دولار لتسليح الجيش اللبناني بأسلحة فرنسية بطلب من الرئيس اللبناني الأسبق ميشال سليمان، وكان واضحاً أن هدفها تقوية الجيش اللبناني في مواجهة حزب الله باعتباره القوة الوحيدة الوازنة له.
ومع تولى العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز السلطة عام 2015، وصعود دور الأمير محمد بن سلمان، ودخول السعودية في حرب اليمن، تحوَّل الحزب لداعم معلن للحوثيين في الحرب، بل هاجم نصر الله السعودية مراراً.
فقررت السعودية وقف الدعم عن الجيش اللبناني، الذي يعلم أي مراقب للشأن اللبناني أنه لن يتصدى يوماً لحزب الله.
وتدريجياً أوقفت السعودية كل دعمها للبنان ولتيار المستقبل، بل تم احتجاز رئيسه سعد الحريري الذي يحمل الجنسية السعودية لفترة بالرياض في عام 2017.
وبينما خسرت السعودية معركة النفوذ في لبنان، وكسبتها إيران وحزب الله، فإن لبنان نفسه خسر اقتصاده وعلاقاته الدولية والعربية، وبات أغلب اللبنانيين ومن ضمنهم بعض الشيعة، يحمّلون إيران وحزب الله مسؤولية الأزمة التي غرقت فيها بلادهم، بينما ابتعد الحريري عن العمل السياسي المباشر.
والآن، من غير المعروف هل تقبل السعودية عودة المعادلة السابقة للبنان بعد الانفراجة مع طهران، حينما كان يحكم رئيس وزراء موالٍ لها البلاد، ليجلب الأموال الخليجية للدولة ونخبها، بينما لا يستطيع حماية نفسه من حزب الله، إذا اختلف معه (كان الحريري أحياناً يعيش خارج لبنان توجساً من الحزب، وفي مرة دعاه نصر الله للعودة دون خوف!).
ولكن المؤكد أن لبنان لم يعد ذا أولوية للسياسة السعودية، وأن القيادة الحالية ترى الاستثمار السعودي في لبنان خسارة كبيرة.
وقد يعود النفوذ والدعم السعوديان للبنان ضمن إطار حل عربي ودولي تتحمل السعودية جزءاً من تكلفته وليس أغلبه، وقد تسهل التهدئة الإيرانية السعودية هذا التوجه، ولكنها لن تكون مفصيلة فيه.
في سوريا كادت الثورة المدعومة من السعودية تطيح بحليف إيران
عندما اندلعت الثورة السورية كانت هبَّة شعبية عفوية، ولكن القمع الوحشي لنظام الأسد لها، أدى إلى انشقاقات في الجيش السوري حوَّلتها لثورة مسلحة، وسرعان ما ظهرت مجموعات مسلحة إقليمية كان كثير منها ذا طابع سلفي أو إسلامي.
ودعمت دول الخليج، خاصةً السعودية وقطر، إضافة إلى تركيا والدول الغربية المعارضة السورية، ولكن في الأغلب دعمت كل دولةٍ جماعة أو جماعات بعينها، ودعمت الرياض جماعات تتركز في محيط دمشق بمنطقة الغوطة وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية بالغة، وأغلبها المجموعات التي مولتها الرياض هي جماعات سلفية غير جهادية، وأبرزها جماعة جيش الإسلام التي أسسها زهران علوش، كما كان للسعودية دور كبير في وقت من الأوقات، في دعم معارضة الجنوب السوري عبر الأردن وبالتعاون مع الولايات المتحدة.
وكانت لجماعات غوطة دمشق تحديداً، سطوة كبيرة في مرحلة من مراحل الثورة السورية، وكادت تقضي على نظام الأسد، قيل إن بعضها كان يقصف قصر الأسد بطلب من الرياض؛ لإظهار قوة نفوذها.
ولكن التدخل الإيراني، خاصة عبر حزب الله، أنقذ نظام الأسد المترهل، وأدى صعود تنظيم داعش إلى إضعاف الثورة السورية، ثم جاء التدخل الروسي ليقضى عليها، ومنذ ذلك الوقت تراجع الاهتمام السعودي بسوريا، ولكن ظلت الرياض أشد المعارضين للتطبيع العربي مع الأسد وعودته للجامعة العربية.
ولكن من شأن الانفراجة السعودية الإيرانية أن يكون لها تأثير كبير على الموقف السعودي من نظام الأسد، خاصةً أنه سبق الاتفاق السعودي الإيراني حديث وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، عن ضرورة تغيير المقاربة في التعامل مع دمشق، وعن اتفاق عربي لحل الأزمة السورية عبر "الحوار مع دمشق"، وحدوث وزيارات من وفود عربية لدمشق.
وعكس لبنان، حيث يوجد استياء سعودي شديد من حزب الله، فإن مشكلة الرياض مع الأسد تتعلق في الأكثر بتحالفه مع إيران، ومن ثم فإن التهدئة السعودية الإيرانية قد تكون مفيدة للأسد ولكن لا يعني ذلك أنه سيصبح حليفاً للرياض أو يبتعد عن طهران، لأنّ تحالف الأسد وإيران تحالف طائفي مصيري، ولكن قد تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه في بعض أوقات عهد حافظ الأسد وبداية عهد بشار: تحالف سوري مع إيران وعلاقة جيدة مع الرياض، أو على الأقل علاقة ليس فيها تشنج.
في المنافسة على العراق، إيران كسبت النفوذ وخسرت معركة القلوب
عكس لبنان وسوريا، يجاور العراقَ، إيران والسعودية بحدود كبيرة مع البلدين، وقد تحوَّل لساحة تنافس بين طهران الرياض بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 على يد أمريكا حليفة السعودية، وكانت إيران أكبر مستفيد من هذا السقوط.
وبعد الغزو، توترت العلاقة بشدة بين السعودية وبين الجماعات الشيعية الطائفية الموالية لطهران، والتي جاءت إلى الحكم على ظهر الدبابات الأمريكية محمَّلة بأثقال الاضطهاد الصدامي الذي تراه هو والسعودية رمزي السنة.
وزاد الخلاف باندلاع المقاومة السنية التي تحوَّلت بعض فصائلها إلى مهاجمة الشيعة واتهمت بعض الأحزاب الشيعية الرياض بدعمها وهو اتهام غير منطقي، بالنظر إلى أن الأمريكيين أكثر من عانوا من المقاومة ولم يشتكوا من السعودية، بل العكس اتهموا دمشق بتسهيل دخول المسلحين للعراق(وكذلك نوري المالكي وجَّه اتهاماً مماثلاً لنظام الأسد بعد هجمات عنيفة في بغداد).
ولكن بصفة عامة، أدى غزو العراق وما تبعه من فتن ومذابح إلى أسوأ أزمة في العلاقات الشيعية-السنية، وجعل كثيراً من السُّنة يتهمون إيران والموالين لها بأنهم حلفاء أمريكا السريون، في رد على اتهام تقليدي توجهه طهران والجماعات الشيعية للسعودية والجماعات السنية.
وخلال فترة الاحتلال الأمريكي للعراق، أسست الرياض علاقات مع بعض المجموعات السياسية والعشائرية السنية، ومن المحتمل أنها قد نسجت علاقات مع في بعض الأوقات مع بعض مجموعات المقاومة، ولكنها لم تؤسس علاقات قوية وطويلة الأمد مع مكونات عراقية سنية مثلما فعلت في لبنان واليمن وسوريا.
مع خروج الأمريكيين من العراق، وسيطرة الأحزاب الموالية لطهران على السلطة في بغداد، بدا أن العراق بات ولاية إيرانية، والعرب وضمنهم السعودية، ليس لديهم فيه نفوذ ولا حتى بقية مودة.
ولكن المفارقة أن الرأي العام العراقي أصبح كارهاً للسيطرة الإيرانية، ومحمّلاً إياها المسؤولية عن تدهور الأوضاع في ظل تحكُّم حلفائها في السلطة منذ سنوات، وفي الوقت ذاته مدّت الرياض أواصر العلاقات مع أكبر تيار شيعي، وهو التيار الصدري، حيث استقبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، زعيمه مقتدى الصدر في عام 2017.
كما وطدت الرياض العلاقات الرسمية مع بغداد خاصة في عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، واتسمت بأنها علاقات طبيعية لا ترمي إلى منافسة النفوذ الإيراني وخلق مراكز قوى تابعة لها، وهو ما أدى إلى تحسن لافت في العلاقات بين الجانبين، وتوسط بغداد في المحادثات بين السعودية وإيران، وأدى كل ما سبق إلى تراجع ملحوظ في الخطاب التحريضي الطائفي الشيعي ضد السعودية في العراق، رغم أنه يعتقد أن جماعات عرقية موالية لطهران قد شاركت في الهجوم على منشأة أرامكو السعودية عام 2019.
ويمكن القول إن التطبيع السعودي الإيراني قد يحسّن هذا التوجه الإيجابي في علاقات الرياض وبغداد، ويعزز الاستثمارات التي وعدت السعودية بضخها في العراق.
كما تقي الانفراجة في العلاقات السعودية العراقية، إلى حد ما من التأثيرات المحتملة لخروج رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي من السلطة، وتولي السلطة محمد شياع السوداني، رجل نوري المالكي وأهم حلفاء طهران في بغداد.
اليمن ساحة الصراع الأهم التي يؤمل أن تشهد التغير الأكبر
يمثل اليمن أهم وأسخن ساحات الصراع السعودي الإيراني، والأكثر حساسية بالنسبة للرياض، وورقة الضغط الأقوى والأقل تكلفة في يد طهران تجاه السعودية، بل العالم، في ظل موقع اليمن الاستراتيجي المجاور للسعودية ولمضيق باب المندب أحد أهم الممرات الملاحية، إضافة إلى وعورة تضاريس البلاد التي تعطي أفضلية عسكرية كبيرة للحوثيين حتى أمام جيش حديث مثل الجيش السعودي.
ونقترب الآن من الذكرى السنوية الثامنة لانطلاق حرب اليمن التي بدأت باقتحام الحوثيين للعاصمة صنعاء وطرد الحكومة المؤقتة آنذاك بالمخالفة للاتفاقات بين الجانبين، ثم أعقب ذلك التدخل العسكري السعودي بالبلاد في 25 مارس/آذار.
ولكن التنافس السعودي في اليمن أقدم من ذلك، حيث بدأ مع اندلاع أول المواجها بين الحوثيين ونظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح المدعوم من الرياض عام 2004، والتي تكررت مراراً، وشهدت في بعض الأحيان تنفيذ هجمات حوثية ضد الأراضي السعودية.
وعندما قامت ثورة شبابية في اليمن توسطت السعودية ودول الخليج بين النظام والثوار عبر ما عُرف بالمبادرة الخليجية التي أفضت إلى تولي حكومة انتقالية للسلطة برئاسة عبد ربه منصور هادي، ولكن الحوثيين استغلوا الفوضى ليستولوا على صنعاء ومعظم البلاد، ثم تدخلت الرياض والإمارات وبعض دول الخليج الأخرى فطردتهم من عدن ومعظم مناطق الجنوب، ولكن بعد ذلك أخفقوا في هزيمتهم بالشمال الأكثر وعورة.
ورغم القصف السعودي الواسع لمواقع الحوثيين، فإنهم تمكنوا عبر الجغرافيا الجبلية للبلاد، والطبيعة المقاتلة للشيعة الزيدية في شمال اليمن، إضافة إلى الدعم الإيراني، من التحول إلى قوة لا تسيطر فقط على معظم اليمن الشمالي، بل طوروا قوة صواريخ وطائرات مسيَّرة باتت تطال السعودية والإمارات، وتمثل ضغطاً على المناطق الحساسة في البلدين الثريين مثل المدن الرئيسية والمطارات والمنشآت النفطية.
وتعقد السعودية محادثات سرية مباشرة في سلطنة عمان مع جماعة الحوثي منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022، وقد يكون للاتفاق الإيراني السعودي تأثيرات إيجابية على هذه المفاوضات، حسب صحيفة The Guardian البريطانية.
في هذه المحادثات، تريد جماعة الحوثي إنهاء القيود السعودية على مطار صنعاء وميناء الحديدة، إضافة إلى دفع الرياض جميع الرواتب الحكومية، وضمن ذلك رواتب خدمات الجيش والأمن، مقابل مد أمد الهدنة. كذلك تريد جماعة الحوثي من الرياض الانسحاب من الحرب، والتوقف عن دعم حكومة اليمن المعترف بها دولياً في عدن، ودفع الأموال اللازمة لإعادة الإعمار.
وقد تذكّر هذه الشروط بالنموذج الذي كان سائداً في لبنان قبل سنوات، حينما كان الحكم في البلاد شراكة مضطربة بين حلفاء السعودية من ناحية وحلفاء إيران ونظام الأسد من ناحية أخرى، شراكة تتيح السيطرة الأمنية لحلفاء إيران وبقاء الحالة الميليشياوية أعلى من سلطة الدولة، كل ذلك في الحالة اللبنانية يتم والدولة يتم تمويلها من قِبل السعودية والخليج، وبصورة أقل: الغرب.
المفارقة أنه قد يكون للرياض حافز لتنفيذ ولو جزء من هذه المعادلة في اليمن أكثر من لبنان؛ لمجاورته للسعودية، وحاجة المملكة لتأمين حدودها ووقف تهديدات الحوثيين.
ولكن السؤال هو: هل يلتزم الحوثيون بالمعادلة أم يفعلون مثل حزب الله ويستغلونها لتوسيع نفوذهم، خاصةً أن الحوثيين أقل التزاماً بأوامر إيران وأقل اكتراثاً بتأثيرات الضغوط الاقتصادية والأمنية والمعيشية للأزمات على مواطني بلادهم من اكتراث حزب الله بأزمات لبنان؟