تونس، التي كانت مهداً للربيع العربي وأيقونة للديمقراطية، أصبحت ترزح تحت حكم الرجل الواحد، فماذا يريد الرئيس قيس سعيد؟ ولماذا انفض الجميع من حوله؟ وما تأثير هذا المسار على حاضر البلاد ومستقبلها؟
كان قيس سعيد قد أصدر، في يوليو/تموز 2021، قرارات بتعطيل البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه، منفرداً بالسلطة، ومتذرعاً بالجمود السياسي الذي يعطل البلاد ومصالح العباد، مستنداً إلى المادة 80 من الدستور التونسي.
لكن بعد ما يقرب من عامين من انفراده بالسلطة، انهار الاقتصاد التونسي تقريباً وأصبح الانقسام سيد الموقف، كما تشوّهت صورة البلاد في الخارج، بينما لا يزال الرئيس مصرّاّ على مواصلة حكم الرجل الواحد، فإلى أين تتجه الأمور؟
حكم الرجل الواحد في تونس
مجلة The Economist البريطانية نشرت تحليلاً عنوانه "حكم الرجل الواحد في تونس سيئ للبلد وشعبه"، ألقى الضوء على سياسات قيس سعيد التي حولت تونس من مهد الربيع العربي والديمقراطية الحقيقية الوحيدة في العالم العربي، إلى دولة تعاني من الحكم الفردي المنبوذ من الناخبين.
وفي حوار له مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عام 2021، قال الرئيس تونسي: "لماذا تعتقدون أنَّي سأبدأ بسن 67 عاماً مسيرتي كديكتاتور؟"، مقتبساً كلمات الزعيم الفرنسي الراحل شارل ديغول. وكان لدى سعيِّد مبرر وجيه ليتخذ موقف الدفاع.
فقبل ذلك الحوار بأسابيع قليلة، كان الرئيس التونسي قد أقال رئيس الوزراء، وعطَّل البرلمان، وتولَّى السلطة التنفيذية. ووقع ذلك "الانقلاب الذاتي" الذي قام به سعيد في ذروة جائحة كورونا، وكانت حُجَّته هي أنَّ النظام قد يبدو سلطوياً، لكنَّه سيقتصر إلى حدٍّ كبير على احتواء التهديدات السياسية. لكن يبدو الرجل الآن كشخصية ما بعد ثورية مألوفة: ديكتاتور يواجه أزمات متعددة خارج نطاق قدراته، ويختار القضاء على أي معارضة، حتى ولو كانت متصورة أو غير حقيقية.
فقائمة المنتقدين الذين تعتقلهم الشرطة التونسية تتنامى بصورة لافتة، وعلى مدار الأسابيع القليلة الماضية، تم جرُّ قادة أحزاب إسلامية وعلمانية من منازلهم. ويقبع خلف القضبان أيضاً منتقدون بارزون، بما في ذلك محامون ومديرون تجاريون ومدير محطة إذاعية رائجة.
وقد جرَّم سعيِّد المعارضة، مختبئاً خلف نظرية المؤامرة السخيفة التي تقول إنَّه يسجن "الإرهابيين" و"الخونة". وشنَّ الرئيس أيضاً هجوماً على القضاء، فأعلن أنَّ أولئك القضاة الذين قد يُبرِّئون المعارضين من الاتهام الواهي بأنَّهم جزء من عصابة الخيانة سيكونون "متواطئين" مع العدو.
وشملت كباش الفداء الرئاسية سياسيين فاسدين، ومُضاربين، وعملاء أجانب. ومع ذلك، تحوَّل الأمر إلى عنصرية بغيضة حين هاجم سعيِّد المهاجرين ذوي البشرة السوداء. إذ ادَّعى الشهر الماضي، فبراير/شباط، كذباً، أنَّ هنالك مؤامرة امتدت لسنوات من أجل جلب "جحافل" من المهاجرين المجرمين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى البلاد "لتحويل التركيبة الديمغرافية لتونس".
هذه الديماغوغية حفَّزت هجمات جسدية على أقلية صغيرة ضعيفة، تم احتجاز العديد من أفرادها أيضاً. وفي حين نال الرئيس إشادات من ساسة فرنسيين عنصريين، فإنَّه لاقى توبيخاً حاداً من الجيران الأفارقة، الذين بدأوا في إجلاء مواطنيهم الأسبوع الماضي.
ماذا يريد قيس سعيِّد؟
اللافت في الأمر هو أن قيس سعيِّد نفسه كان قد وصل إلى السلطة لأنَّ التونسيين أُحبِطوا من طبقة سياسية بدت عاجزة عن حل مشكلات البلاد، فعلى مدار العقد الماضي، لم ينمُ الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 1%، ولم تتراجع البطالة إلى أقل من مستوى 15%. تملك تونس الموارد بالفعل، البشرية منها والطبيعية. لكنَّ الفساد والمحسوبية مزدهران.
لكن بعد ما يقرب من عامين من انفراده بالسلطة، يبدو أن التونسيين قد ضاقوا ذرعا به وبسياساته، ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، شارك 11% فقط من جمهور الناخبين في الإدلاء بأصواتهم في انتخابات المجلس التشريعي الجديد المُدجَّن.
واستمرت الأوضاع الاقتصادية في التدهور أكثر وأكثر، وأصابت البلاد أزمة شح كبير في العديد من المواد الغذائية وغياب بعضها من الأسواق تماماً، لتضيف مزيداً من الأعباء المعيشية على المواطنين، في ظل أوضاع مالية معقدة تمر بها البلاد.
وفي فبراير/شباط 2022، حذر رئيس الجمهورية قيس سعيّد التجار من خطورة المضاربة، وأصدر أوامره بتتبع المضاربين والمحتكرين قضائياً، وقامت وزارة التجارة بحجز كميات هائلة من المواد الاستهلاكية الأساسية، لكن كل تلك الإجراءات لم تكن لها أية آثار إيجابية على حالة الأسواق، بل تفاقمت الأزمة بشكل واضح.
وفي ظل ارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية، تعاني تونس من نقص الدولارات، ولجأت إلى صندوق النقد الدولي للحصول على حزمة إنقاذ بقيمة ملياري دولار، لكنَّ المال لن يُقرَض لنظام ديكتاتوري بلا دعم من المجتمع المدني –لاسيما اتحاد الشغل القوي في تونس- الذي يقمعه سعيِّد.
وإذا ما تم الأمر، فإنَّ صندوق النقد يواجه خطر تنصُّل أي إدارة جديدة من سداد الدين. ويُمثِّل تصاعد موجة الهجرة من البلاد إلى أوروبا تحذيراً من أنَّ الحكومة تخفق. ومن المُرجَّح أن يخرج التونسيون إلى الشوارع. وقف الجيش في 2010 بجانب المحتجين وليس النظام. وإعادة التاريخ لنفسه من عدمها هي للأسف مقامرة يبدو الرئيس، المفتقر إلى الدهاء والكياسة، مستعداً لخوضها، بحسب تحليل مجلة الإيكونومست.
وتعاني تونس، التي ترزح تحت جبل من الدين العام الإجمالي البالغ 89% من الناتج المحلي الإجمالي، من أجل دفع فاتورة الواردات، وهنالك نقص في السكر والمعكرونة وغيرها من المواد الغذائية الأساسية. ووصلت محادثات الحصول على حزمة إنقاذ مالي مع صندوق النقد الدولي إلى طريق مسدود.
إلى أين تتجه الأمور في تونس؟
ويرغب التونسيون بشدة في الهروب من بلدهم الاستبدادي الراكد. إذ وجدت دراسة أجراها العام الماضي مركز أبحاث مُشجِّع للتجارة أنَّ 71% من خريجي الجامعات العامة يرغبون بالهجرة.
ويستقل المتعلمون أو الأغنياء التونسيون الطائرات إلى الغرب أو الخليج أو، للمفارقة، إلى إفريقيا جنوب الصحراء. ويُجرِّب الفقراء التونسيون حظهم في البحر المتوسط. ووصل أكثر من 2600 إلى إيطاليا على متن الزوارق في 2019، العام الذي تولَّى سعيِّد الحكم فيه. وفي 2022، أقدم أكثر من 18 ألف شخص على خوض رحلة العبور الخطيرة من تونس.
القرب الجغرافي من أوروبا جعل من تونس محطة على طريق المهاجرين المتجهين إلى أوروبا من بلدان مثل ساحل العاج. لكنَّ أعدادهم صغيرة. ويُقدِّر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وجود 21 ألف مهاجر غير شرعي فقط من إفريقيا جنوب الصحراء في بلد يبلغ تعداد سكانه 12 مليون نسمة، يقوم العديد منهم بأعمال يدوية خلال إقامتهم في تونس، وتنتشر الانتهاكات وسرقة الأجور، وإذا كانت هذه مؤامرة لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس، فهي مؤامرة سيئة.
انزعج بعض التونسيين من تصريحات سعيِّد. فانضم المئات إلى احتجاج في 25 فبراير/شباط 2023. واضطر وزير الخارجية التونسي، نبيل عمار، لإصدار شبه اعتذار، قائلاً إنَّ الحكومة ستحمي كل المهاجرين في تونس. لكنَّ كلمات سعيِّد وجدت أيضاً جمهوراً مُتقبِّلاً، فتقول مجموعات حقوق الإنسان إنَّ العشرات من المهاجرين ذوي البشرة السوداء تعرَّضوا للاعتداء أو السرقة بعد تصريحاته.
إنَّ الديماغوغية أداةٌ خطيرة أينما كانت، لكنَّ سعيِّد لم يعد يملك مَن يمكنه إلقاء اللوم عليه. وهنالك مخاوف متنامية من عجز تونس عن سداد ديونها دون التوصُّل إلى اتفاق مع صندوق النقد، ومن شأن ذلك إغراق اقتصادها أكثر، وإرسال مزيد من مواطنيها على متن قوارب كي يُجرِّبوا هم أنفسهم رحلتهم اليائسة.