طريق النقل البري الوحيد بين الشرق والغرب يمر في منطقة شديدة التعقيد، تزخر بالقوى الإقليمية المتصارعة، وتتربص به دولة عظمى تريد إيقافه، إنه طريق الممر الأوسط الذي تنقل عبره بضائع الصين وآسيا الوسطى إلى أوروبا، والذي أصبح مرشحاً للتحول لواحد من أهم ممرات النقل في العالم.
فعبر العاصمة الأذربيجانية باكو، تمرّ سكة حديدية تمثل مسار النقل البري الوحيد بين الشرق والغرب، ويُطلق عليه اسم الممر الأوسط، حسبما ورد في تقرير لمركز "أسباب" للدراسات الاستراتيجية.
وبعد الحرب الروسية على أوكرانيا وتعطّل سلاسل التوريد ونقص السلع الغذائية ورفع أسعار السلع، بدأ هذا الممر يحدث تغييراً في مسار التجارة العالمية، ويرى الكثيرون أنه قد يحدث ثورة في النقل والتجارة العالمية.
فمع استمرار الأزمة الأوكرانية والحصار الغربي على روسيا من المتوقع أن تزداد اتجاهات النقل بين آسيا الوسطى إلى أوروبا دون المرور بالأراضي الروسية الشاسعة، من خلال تطوير الطرق الجنوبية التي تتجنب روسيا وتتجه من آسيا الوسطى إلى أوروبا عبر الموانئ البحرية في كازاخستان وتركمانستان عبر بحر قزوين إلى ميناء باكو الأذربيجاني، ومنها لجورجيا ثم إلى تركيا، أو عبر الموانئ الجورجية على البحر الأسود وما بعده إلى الاتحاد الأوروبي.
الممر الأوسط.. أقصر طريق بين آسيا وأوروبا
يمتدّ الممر الأوسط بدءاً من الصين أكبر مصنع ومصدر في العالم، مروراً بكازاخستان، وقيرغيزستان وأوزبكستان، وتركمانستان في آسيا الوسطى، ليعبر بحر قزوين وصولاً إلى أذربيجان ومنها إلى جورجيا قبل أن يتصل بأوروبا عبر السكك الحديدية والموانئ التركية.
ويمكن إرجاع اسمه "الممر الأوسط" إلى أنه يسير في وسط القارة الآسيوية، متجنباً العبور عبر الأراضي الروسية في الشمال في العقوبات الغربية على موسكو، وكذلك أراضي إيران التي تخضع لعقوبات أمريكية أسبق.
ويوفر الممر الأوسط أقصر طريقٍ بري بين آسيا وأوروبا، لهذا زادت أحجام الشحنات فيه بمقدار ستة أضعاف عام 2022، حسبما ورد في تقرير لمركز "أسباب" للدراسات.
ويعتمد هذا الممر الذي تشجعه تركيا على موقعها عند نقطة الالتقاء الجغرافية التي تربط أوروبا، وروسيا، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط.
تركيا.. منفذ الشحن الرئيسي بالبحر المتوسط وها هي تعزز شراكتها مع بكين
وسعت تركيا إلى التكامل مع مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين، كما تعمّقت العلاقات الثنائية بين البلدين لدرجة أن تركيا والصين اتفقتا عام 2015 على تنسيق مشروعات البنية التحتية في البلدين.
من بين هذه المشروعات خط سكة حديد باكو-تبليسي-قارص الذي افتُتِح عام 2017 ويمر عبر جورجيا لتركيا، ليحل محل السكك الحديدية السوفيتية التي تمر عبر أرمينيا.
وأصبح الممر الأوسط أقصر طرق السكك الحديدية العابرة لمنطقة أوراسيا، ما يعزز خطة أنقرة لتصبح مركزاً للشحن بالحاويات بين الصين والاتحاد الأوروبي.
زادت تركيا حجم استثماراتها في البنية التحتية للموانئ بما في ذلك تطوير ميناء مرسين بتكلفة 3.8 مليار دولار، وتطوير ميناء فيليوس بتكلفة 870 مليون دولار، وكذلك تطوير ميناء إزمير بتكلفة 1.2 مليار دولار.
في عام 2015، اشترى ائتلاف تجاري صيني نحو ثلثي أسهم ميناء كومبورت التركي مقابل مليار دولار.
أبرز ميزات طريق الممر الأوسط: يخفض وقت الشحن من شهرين لأسبوعين
ويُتيح المشروع لبكين فرصة تنويع طرق التجارة لأن استقرارها السياسي وازدهارها الاقتصادي يعتمد على التجارة الدولية.
ويتفادى الممر الأوسط المرور بالمناطق عالية الخطورة مثل إيران وأفغانستان وروسيا ونقاط الاختناق مثل ملقا وسوندا ولومبوك.
ويعدّ الممر ضرورياً لبكين من أجل تنويع محفظة مشروعاتها الجيواقتصادية.
وتسعى بكين لإنهاء المشروع عن طريق بناء سكة حديد من قارص بشرق تركيا إلى أدرنة بغربها على الجانب الأوروبي من مضيق البوسفور، وذلك مروراً بجسر السلطان سليم الأول ونفق مرمرة.
عند ربطه بخط سكة حديد باكو (عاصمة أذربيجان)–تبليسي (عاصمة جورجيا)–قارص (بشرق تركيا)، سيختصر الممر الأوسط الطريق بمسافة 7,000 كيلومتر (بدلاً من الطريق البحري الأطول).
وستنخفض أوقات الشحن من شهرين إلى أسبوعين وسيرتفع عدد الركاب من مليون شخص إلى ثلاثة ملايين شخص.
وسيزيد حجم البضائع المنقولة من 6 ملايين إلى 15 مليون طن.
بحلول عام 2034، سيمثل الممر الذراع المركزي لما تصفه بكين بطريق الحرير الحديدي.
أهمية الممر الأوسط زادت قبل الحرب الأوكرانية الأخيرة واستخدامه شهد طفرة
كان الممر الأوسط بمثابة موضوع هامشي حتى وقتٍ قريب، وذلك على صعيد شؤون الجغرافيا الاقتصادية لأوراسيا، إذ اعتُبر أن جمعه بين الشحن البحري والسكك الحديد يجعله بمثابة نموذج متعدد يفتقر إلى الكفاءة مقارنةً بممر السكة الحديد الشمالي المباشر في روسيا، علاوةً على أن دول آسيا الوسطى مثل كازاخستان كانت تخشى تداعيات تقويض النفوذ الروسي، لهذا لم تكن هناك حركة كبيرة بطول الممر الأوسط قبيل الفترة الأخيرة.
لكن العقوبات المرتبطة بضم روسيا للقرم عام 2014، دفعت دول آسيا الوسطى إلى محاولة الخروج من عباءة موسكو، حسب مركز أسباب.
كما زادت أهمية تركيا بالنسبة للجانب الأوروبي بفضل ممر الغاز الجنوبي وهو خط الأنابيب الذي يمر عبر الأراضي التركية ليربط أذربيجان بإيطاليا مروراً بجورجيا واليونان وألبانيا.
وأدى توقيع معاهدة الحدود البحرية لبحر قزوين عام 2018 إلى إزالة العوائق في وجه التكامل الإقليمي.
مع وجود البنية التحتية الجديدة بدأت أحجام التجارة عبر الممر الأوسط في الزيادة لترتفع بنسبة 50% بين عامي 2020 و2021.
وبدأ استخدام الممر بواسطة شركات مثل ميرسك الدنماركية وNurminen Logistics الفنلندية وRail Brigde Cargo الهولندية وCEVA Logistics الفرنسية وADY Container وشركات صينية.
هكذا أخذ الزبائن من روسيا
وأدى الهجوم الروسي على أوكرانيا إلى صعود هذا الاتجاه، حيث تأثرت جميع التدفقات التجارية بين روسيا وأوروبا، وتراجعت الشحنات عبر الممر الشمالي بنسبة 40% الذي يمر عبر روسيا.
إذ تسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا في تحويل موسكو إلى شريكٍ غير موثوق من وجهة نظر الدول الأوروبية.
ومنذ بداية الحرب الأوكرانية جذب الممر الأوسط ثلث تجارة الممر الشمالي، ومن المتوقع أن تزيد حصته بستة أضعاف في 2022، مقارنةً بإحصاءات عام 2021، أي ما يعادل 3.2 مليون طن من البضائع.
استغلت أنقرة قوتها الناعمة لتحقيق المكاسب في آسيا الوسطى، فوقعت شراكات استراتيجية جديدة مع كازاخستان وأوزبكستان، ثم وسّعت نطاق مسؤوليات منظمة الدول التركية التي تضم تركيا وأذربيجان وكازاخستان وأوزبكستان وقيرغيزستان بالإضافة إلى تركمانستان والمجر كعضوين مراقبين.
وتعمل الدول المشاركة في الممر الأوسط على: تقوية الاتصال فيما بينها بإضافة الموانئ والعبّارات والقطارات الجديدة، ووضع اللوائح والمعايير الفنية اللازمة لتطوير منظومة متكاملة لإدارة الجمارك والحدود.
أذربيجان وكازاخستان تتحركان بقوة
ولكن يعتمد نجاح الممر الأوسط على بحر قزوين وعلى العلاقة بين أذربيجان وكازاخستان.
وبالفعل، نجحت كل منهما في تطوير وتوسعة موانئها وأصبح لديها مطارات وسكك حديدية جديدة.
وتعمل كل من أذربيجان وكازاخستان على زيادة أسطولها من سفن الشحن حتى تستوعب زيادة معدلات الشحن.
الغاز قد يكون سلعة رئيسية يجرى نقلها عبر هذا الطريق
كما يمكن أن يكون الغاز إحدى السلع الرئيسية المنقولة عبر الممر الأوسط أو بمحاذاته، حيث تسعى تركيا إلى تنفيذ خطة تهدف إلى نقل الغاز من آسيا الوسطى لأوروبا، للعمل على حل مشكلة الغاز التي تواجه العديد من دول القارة، جراء الأزمة الأوكرانية، ولكن الخطة تحتاج إلى قدر كبير من الحذر تحسباً لغضب روسيا ذات النفوذ الكبير في منطقة آسيا الوسطى.
وبعد اندلاع الحرب الأوكرانية بأشهر، أفادت تقارير بأن تركيا، وتركمانستان الدولة الغنية بالغاز، تعملان على صفقة، تشمل استيراد أنقرة الغاز من تركمانستان وتصديره إلى بلغاريا، ومن المرجح أن تمتد الصفقة إلى أوروبا، في محاولة لتقليل اعتماد دول الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي، حسبما ورد في تقرير لموقع Al-monitor الأمريكي.
وفي يوليو/تموز 2022، قالت وسائل إعلام تركمانية إن البلاد تجري مباحثات مع أذربيجان وتركيا وجورجيا والاتحاد الأوروبي بشأن إمكانية بناء خط أنابيب غاز بسعة 10 إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً. وهذا يعادل سعة واحد من خطيْ مشروع أنابيب نورد ستريم 2 الروسي المعلق الآن (الذي كان يفترض أن يحمل الغاز لألمانيا)، حيث تبلغ طاقة كل من خطيْ نورد ستريم على 27.5 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً.
ويقدر إجمالي احتياطي الغاز الطبيعي في تركمانستان بحوالي 50 تريليون متر مكعب.
وسيسمح المشروع الذي طورته شركة Trans Caspian Resources الأمريكية، بترتيب توريد الغاز الطبيعي التركماني إلى أذربيجان وإلى جنوب القوقاز وتركيا ودول أخرى في حاجة إلى الغاز، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي.
من المتوقع أن يتم تنفيذ مشروع الربط العابر لبحر قزوين، والذي، وفقاً للتقديرات الأولية، سيستغرق حوالي أربعة أشهر، وسيتطلب استثمارات بقيمة 400 مليون دولار أمريكي، سيكون أساس تنفيذ المشروع هو البنية التحتية المتاحة بالفعل في تركمانستان وأذربيجان في بحر قزوين، علماً بأن أذربيجان تقوم بالفعل بتصدير الغاز عبر خطوط أنابيب لتركيا وأوروبا.
عراقيل تواجه الممر الأوسط.. من يعترض على بناء سكك حديدية عبر بحر قزوين؟
ولا شك أن بناء سكة حديد عبر بحر قزوين هو أمرٌ ممكن فنياً، لكن موسكو وطهران لديهما حق الاعتراض على مشروع كهذا.
ومن المعروف أن هناك خلافاً بين الدول المتشاطئة على بحر قزوين هل هو بحر مغلق أم بحيرة كبيرة، حيث يؤدي ذلك لاختلافات في طريقة تقسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية والجرف القاري لكل دولة.
والبلدان الكبيران ليس من مصلحتهما إنشاء خط السكك الحديدية المقترح عبر قزوين لخدمة الممر الأوسط وتسهيل النقل البري المباشر عبره، لأن المرر يستبعدهما بسبب خلافاتهما مع الغرب.
ولهذا من المرجح أن يظل الممر الأوسط عالقاً في نموذجه المتعدد في وسائط النقل (بين بري وبحري)ـ وهو أمر مكلف نسبياً.
تعقيدات في تركمانستان وقيرغيزستان
يمكن وصف بنية البلدين التحتية بأنها متهالكة، حسب تقرير مركز أسباب.
وتُعَدُّ مرافق ميناء تركمانباشي بجمهورية ترکمانستان ناقصة التطوير وغير جذابة نتيجة تعريفات الشحن المرتفعة.
وهناك حاجة إلى التطوير والتكامل التنظيمي حتى يصبح هذا المسار عملياً.
بالنسبة لقيرغيزستان، يشكك مشرّعوها في أن السكة الحديد يمكنها أن تجلب المكاسب الاقتصادية للبلاد.
ولذلك سيظل الطريق الذي يمر عبر كازاخستان الواقعة في الشمال باعتباره الطريق الأكثر معقولية.
والصراع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان
بخلاف أوجه القصور في البنية التحتية قد تؤدي التوترات الإقليمية إلى تعطيل المشروع ومنها الصراع بين أرمينيا وأذربيجان مثلاً.
ورغم استفادة أوروبا بشدة من الممر الأوسط فإن هناك قلقاً في الغرب من أن التعاون الوثيق بين جورجيا وأذربيجان وتركيا سيعزل أرمينيا ويغريها بتقوية العلاقات مع روسيا وإيران.
وبعد وقف الحرب بين أرمينيا وأذربيجان عام 2020، اقترح ساسة إعادة فتح خطوط السكك الحديدية بين البلدين، والتي يرجع تاريخها إلى الحقبة السوفييتية، وإنهاء تركيا إغلاقها الحدود مع أرمينيا، مقابل نقل البضائع من أذربيجان لتركيا عبر أرمينيا بدلاً من جورجيا (طريق أقصر).
وأشار مسؤولون أرمن إلى أن هذه الخطوة قد ترفع إجمالي الناتج المحلي لبلادهم بمقدار الثلث في غضون عامين، لكنها ستُلزم أرمينيا بالتخلي عن مطالبها الإقليمية لصالح أذربيجان.
يريفان ترفض إنشاء ممر بين أذربيجان وجزء من أراضيها مفصول عنها
عقدة الحل بين البلدين، تتعلق بممر زانغيزور، وهو ممر مقترح وفقاً لاتفاق وقف إطلاق النار الذي عقد بوساطة روسيا، وأنهى حرب عام 2020 التي انتصرت فيها باكو بدعم تركي، واستعادت معظم أراضيها التي كانت تحتلها يريفان.
ويفترض أن يربط هذا الممر بين أذربيجان وجمهورية ناختشيفان وهي إقليم أذربيجاني يتمتع بالحكم الذاتي، ولكنه مفصول عن بقية أراضي أذربيجان بمنطقة أرمينية تدعى زانغيزور، كما أنه ملاصق لتركيا من جهة الغرب.
وتتألف الاتفاقية بين أذربيجان وأرمينيا من أقسام تتعلق بفتح طرق النقل، وورد في المادة 9 من اتفاق وقف إطلاق النار: "يجب إلغاء حظر جميع الروابط الاقتصادية والنقل في المنطقة، على أن تضمن جمهورية أرمينيا أمن اتصالات النقل بين أذربيجان وجمهورية ناختشيفان الأذربيجانية".
وفقاً لباكو وأنقرة، فإن فتح الممر هو من شروط البيان الثلاثي الصادر في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 الذي أنهى الحرب بين البلدين، حيث تعتقد أذربيجان أن المادة 9 من الاتفاقية تشمل فتح ما يعرف باسم ممر زانغيزور بين ناختشيفان وبقية أذربيجان.
وعلى الرغم من أن روسيا، التي من المفترض أن يكون حرس حدودها مسؤولين عن الإشراف على النقل بين أذربيجان وأرمينيا، لا تشير إلى الطريق على أنه ممر زانغيزور ولا على أنه "ممر"، إلا أنها تدعم افتتاحه.
وسبق أن تفاوض البلدان حول "الممر"، وفي البداية لم ترفض أرمينيا الفكرة، ولكنها علقتها بدعوى أنه لم يمكن مناقشة طرق النقل الجديدة مع أذربيجان بينما كان هناك الكثير من التوتر على طول حدودهما، ثم صعدت يريفان موقفها برفض الفكرة برمتها، حيث قال رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان، بعد اشتباك وقع بين البلدين في سبتمبر/أيلول 2022، إن أرمينيا لن توافق على إنشاء ممر على أراضيها، لكنها مستعدة لفتح خطوط المواصلات لجميع الجيران، بما فيها أذربيجان.
ومنطقة زانغيزور، التي أطلق الممر على اسمها، هي حالياً جزء من جنوب أرمينيا، ولكنها كانت منطقة متنازعاً عليها بين البلدين (اللذيْن كانا جزءاً من روسيا القيصرية ثم الاتحاد السوفيتي) منذ الحرب العالمية الأولى، واليوم تسمي أرمينيا المنطقة مقاطعة سونيك.
وخلال الحقبة السوفييتية، أنشأت موسكو خطين للسكك الحديدية لربط منطقة ناختشيفان الأذربيجانية بالأراضي الأذربيجانية الرئيسية في منطقة تشير إليها باكو الآن باسم ممر زانغيزور، الذي يطلق عليه أحياناً ممر ناختشيفان من قبل وسائل الإعلام والمحللين الأذربيجانيين. لكن هذه السكك الحديدية أصبحت غير قابلة للاستخدام خلال حرب كاراباخ الأولى، التي بدأت في عام 1992.
وتهدف باكو الآن إلى إعادة بناء السكك الحديدية التي تعود إلى الحقبة السوفييتية وإنشاء طرق سريعة في المنطقة لربط أذربيجان بمنطقة ناختشيفان. علاوة على ذلك، يعد الممر أيضاً جزءاً من مشروع نقل كبير يربط باكو بإسطنبول.
استناداً إلى مصطلح "الممر"، تريد أذربيجان ترتيباً يسمح للمركبات والقطارات الأذربيجانية بعبور الحدود بين أرمينيا وأذربيجان، والمرور عبر مقاطعة سونيك في أرمينيا، ثم دخول جمهورية ناخيتشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي (منطقة أذربيجانية)، دون أي قيود، مثل جواز السفر والرقابة الجمركية التي ينفذها الجانب الأرميني. يقول بعض الخبراء الأذربيجانيين إن باكو قد تقترح أسماءً أخرى إذا كان مصطلح "الممر" يزعج أرمينيا، مثل "منطقة العبور الخاصة".
وذلك لأن استخدام مصطلح "ممر" يشير إلى مستوى من السيادة الأذربيجانية على الطريق، على الرغم من الطبيعة الدقيقة لمن سيستمتع بالسيطرة على الطريق وكيف لم يتم تحديدها نهائياً.
لا تقبل أرمينيا جوهر اقتراح أذربيجان (عبور البضائع والركاب عبر الأراضي الأرمنية دون أي رقابة)، بغض النظر عما إذا كان سيُطلق عليه اسم ممر أو منطقة عبور خاصة أو أي مصطلح آخر.
وسيلعب ممر زانغيزور دوراً حاسماً في زيادة الاتصال الإقليمي، ليس فقط في جميع أنحاء القوقاز، ولكن أيضاً عبر أوراسيا الكبرى، حيث يصل آسيا الوسطى وأذربيجان بالأراضي التركية، أي يربط أوروبا بآسيا، وهو أمر ازدادت أهميته بعد اندلاع حرب أوكرانيا وتوقف دور روسيا كممر للنقل بين أوروبا وآسيا الوسطى.
ولكن قد لا يكون من مصلحة روسيا في الوقت الحالي فتح هذا الممر الذي سيعزز التواصل بين آسيا الوسطى وأذربيجان من ناحية وبين أوروبا من ناحية أخرى عبر تركيا.
تعقيدات بسبب مخاوف إيران.. تخشى تمرد أقليتها الكبيرة
علاوة على المخاوف من أن بناء خط سكة حديدية بطول ممر زانغيزور وصولاً إلى نخجوان قد يعزل أرمينيا عن إيران، وكذلك يشعر المسؤولون الإيرانيون بالقلق من النزعة الانفصالية داخل مناطقهم التي توجد فيها أغلبية عرقية أذرية تحمل اسم أذربيجان الإيرانية، حيث يمثل الأذربيجانيون نحو 16% من سكان إيران.
ولهذا تعارض طهران استخدام ممر زانغيزور لأنه قد يُعزز نفوذ باكو بين الإيرانيين الأذربيجانيين.
وجورجيا لا تريد إغضاب روسيا
يعاني المسار الرئيسي للممر الأوسط عبر جورجيا من حزمة مشكلات بسبب العلاقة المتوترة أصلاً بين جورجيا وروسيا.
إذ تقلق جورجيا من أن مخاوف موسكو من تهميشها من التجارة الإقليمية قد تدفعها إلى استغلال حلفائها الانفصاليين في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بجورجيا وقره باغ بأذربيجان لتعكير صفو الأجواء بطول خط سكة حديد باكو-تبليسي-قارص.
مخاوف صينية من تعاطف تركيا مع الإيغور وتعزيز نفوذها بآسيا الوسطى
تخشى بكين أن يؤدي تركيز أنقرة على الهوية التركية الواسعة والحقوق الثقافية للمجموعات المنتمية للعرق التركي الكبير إلى تفاقم ما تسميه بـ"النزعة الانفصالية بين الإيغور في سنجان" الذين ينتمون ثقافياً ولغوياً للعرق التركي الكبير.
وبجانب دوره التجاري، قد يؤدي الممر الأوسط لتعزيز نفوذ أنقرة في منطقة آسيا الوسطى الموطن الأصلي للشعوب التركية، وما قد يعني ذلك من صعود المشاعر القومية التركية والإسلامية بين شعوب المنطقة الذين يعدون أولاد عمومة الإيغور.
وتسببت إساءة معاملة الصين للإيغور في اندلاع التوترات من قبل بين تركيا وبكين، حيث تعد أنقرة من الدول الإسلامية القليلة التي انتقدت اضطهاد الصين للإيغور، وهي ملاذ لمهجر إيغوري كبير، لكن الآن تحتل الأعمال التجارية صدارة الأولوية بين البلدين، حيث تُعَدُّ الصين ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا.
وارتفع حجم التجارة الثنائية بينهما من مليار دولار عام 2001 إلى 36 مليار دولار في 2021، كما أن هناك أكثر من 1,200 شركة صينية داخل تركيا.
ويصل حجم الاستثمارات الصينية المباشرة في البلاد إلى أربعة مليارات دولار.
لماذا يبدو الممر الأوسط واعداً رغم المشكلات التي تحيط به؟
ورغم كل المشكلات السياسية والجغرافية المحيطة بالممر الأوسط فإنه يستطيع أن يُحدث تحولاً في البنية الجغرافية والاقتصادية لمنطقة أوراسيا، إذ سيقرب الاتحاد الأوروبي إلى دول القوقاز ومنطقة آسيا الوسطى والصين، ما سيعزز مكانة تركيا الإقليمية بالتبعية.
لكن نجاح المشروع سيعتمد بنسبةٍ كبيرة على غياب البدائل القابلة للنجاح، وهو أمر أصبح واقعاً في ظل حرص أوروبا على إيجاد بدائل للطرق المارة بروسيا، وحرص بكين على تعزيز تجارتها مع أوروبا، وتصاعد التوتر بين الغرب وإيران، الأمر الذي يجعل الممر الأوسط المسار شبه الوحيد للنقل بين الشرق والغرب بجانب المسارات البحرية الأطول.
كما أن الحصار الغربي على روسيا دفع دول آسيا الوسطى، ولاسيما كازاخستان لمحاولة الخروج بحذر من الطوق والوصاية الروسية التي باتت قيداً على الدولة الغنية بالموارد وتحتاج لمنافذ للتصدير لأسواق أوروبا، بينما أذربيجان شبه متمردة أصلاً على موسكو وإيران، وهي حليف لأنقرة، ودولة مهمة للغرب بفضل نفطها وغازها الوفيرين.
ولكن العامل الأهم المؤثر على الممر الأوسط هو كيفية التعامل مع غياب الاستقرار الجيوسياسي بطول الممر، وخاصةً موقف القوى الإقليمية التي ترى أنها ستخسر الكثير بسببه مثل إيران وروسيا، الأمر الذي قد يؤدي إلى إضعاف جاذبيته.
وقد تكون إحدى نقاط القوة في الممر أن تركيا راعية الممر، رغم تنافسها الجيوسياسي مع روسيا وإيران، فإن لديها علاقة اقتصادية وثيقة معهما، وهي تنسق معهما في الأزمة السورية خاصة مع موسكو، كما أن أهميته ازدادت للبلدين جراء تعزيز الحصار الغربي عليهما.