خمسة من الوزراء أقالهم الرئيس التونسي قيس سعيد، خلال الشهرين الأخيرين، مع تعيين بدلاء لهم، وسط تساؤلات حول أهداف هذا التعديل الوزاري بتونس، وهل هو اعتراف من الرئيس بإخفاق حكومته التي لم يمض عليها سوى نحو 16 شهراً، أم تمهيد للتصعيد ضد المعارضة، وكيف سيؤثر كل ذلك على مستقبل حكم سعيد؟
وبدأت حكومة نجلاء بودن التي انفرد الرئيس بتشكيلها بالمخالفة للدستور، عملها في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2021، بتشكيلة تتكون من 24 وزيراً، إضافة إلى كاتبة دولة وحيدة.
أغلب التوقعات كانت تتحدث عن تغيير حكومي بعد انتخابات مجلس النواب، التي جرت بالفعل في 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسط سياق مشحون وإقبال ضعيف.
لكن تتابع الإقالات أثار ردود فعل واسعة في الشارع التونسي، حيث ذهب بعض السياسيين، إلى أنها "مخطط لها من فترة"، فيما ذهب آخرون إلى أنها "مناورة لكسب الوقت".
التعديل الوزاري بتونس جرى وسط عزوف قياسي بالانتخابات ونقص في السلع
ومن بين التغييرات إقالة الرئيس التونسي قيس سعيّد وزيري الزراعة والتربية في وقت تعاني فيه البلاد من نقص بمنتجات أساسية وإضرابات متفرقة في قطاع التعليم. ولم يذكر الرئيس التونسي الأسباب لكن الإقالات تأتي وسط أزمات اقتصادية وتوترات سياسية وانقسامات عميقة واضطرابات، كما تعقب الإقالتان الجديدتان أيضاً نتائج الدورة الثانية من الانتخابات النيابية بعد عزوف قياسي من الناخبين عن المشاركة فيها، حسب وصف موقع فرانس 24، حيث سجلت الدورة الثانية من الانتخابات النيابية التي أجريت نهاية شهر يناير/كانون الثاني، معدل عزوف قياسياً، إذ بلغت نسبة الذين أدلوا بأصواتهم 11.4% فقط، وتعد نسبة المشاركة هذه هي الأضعف منذ ثورة 2011.
كما يأتي التعديل الوزاري بتونس في سياق توتر سياسي، إذ تشهد البلاد انقسامات عميقة منذ أن قرر سعيّد الاستئثار بالسلطات في 25 تموز/يوليو 2021.
وأدت الأزمتان السياسية والمالية في الأشهر الأخيرة إلى نقص في بعض المنتجات الأساسية، لا سيما الحليب والسكر والأرز والبن، وتراجع القدرة الشرائية للمواطن التونسي بسبب التضخم المتسارع الذي بلغ حوالي 10%، مع وصول نسبة مديونية تونس إلى أكثر من 80% من ناتجها المحلي الإجمالي.
وتوصلت البلاد إلى اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2022، حول قرض جديد بقيمة حوالي ملياري دولار، لمساعدتها في مواجهة صعوبات اقتصادية متفاقمة. لكن صندوق النقد الدولي أجل موافقته النهائية إلى تاريخ لم يحدده، وسط معارضة من قبل الاتحاد العام للشغل لشروط صندوق النقد الدولي.
سلسلة طويلة من الإقالات
بدأت إقالات سعيد، في 7 يناير/ كانون الثاني الماضي، بإعفاء وزيرة التجارة وتنمية الصادرات فضيلة الرابحي من مهامها.
وفي 30 من الشهر نفسه، أجرى سعيد، تعديلاً آخر على الحكومة بإقالة وزيري التعليم فتحي السلاوتي، والزراعة محمود إلياس حمزة.
وفي 7 فبراير/شباط الماضي، أقال وزير الخارجية عثمان الجرندي، الذي كان يحتفظ بمنصبه منذ تعيينه في حكومة هشام المشيشي عام 2020.
وفي 23 من الشهر نفسه، أقال وزير التشغيل والتكوين المهني نصر الدين النصيبي، الذي كان يشغل أيضاً منصب الناطق باسم حكومة بودن.
وكان سعيد قد قَبِل في 8 مارس/آذار 2022، أول استقالة بحكومة بودن، وقدمت من قبل "عائدة حمدي" كاتبة الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية والهجرة.
الإقالات مؤشر لقناعة الرئيس بأن حصيلة الحكومة غير إيجابية
وعن توقيت الإقالات، قال الباحث في علم الاجتماع هشام الحاجي لوكالة الأناضول: "يمكن فهمها على أنها تعبير عن أن حصيلة ومردود حكومة بودن لم تكن إيجابية بالمرة، وربما كان من المفترض التفكير في تغيير الحكومة برمتها".
وأضاف الحاجي: "ربما لجأ الرئيس إلى هذا الأسلوب بالتغيير الجزئي والمرحلي حتى لا يقر بفشله في اختيار نجلاء بودن رئيسة للحكومة من ناحية، وحتى يربح الوقت ويحافظ على الأوضاع كما هي من ناحية أخرى".
واستدرك: "لكن الحصيلة في كل المجالات والملفات تبقى سلبية وهذا يتفق حوله الجميع، ففي كل مرة يعالج سعيد مشكلة وزارة في محاولة لربح الوقت، تماشياً مع منطق يرى أن التعديل الحكومي الكلي سيكون بعد تنصيب مجلس النواب الجديد".
أما عبد الرزاق الخلولي، رئيس المكتب السياسي لحركة شباب تونس الوطني (حراك 25 يوليو/تموز) المساند لسعيد، فقال إن "التعديلات تدخل في إطار نظرة جديدة للحكومة، وتقييم الرئيس لأداء أعضاء الحكومة وخاصة بعض الوزراء".
وأضاف الخلولي، للأناضول: "لا نعتبرها إقالات، بل تعديل حكومي كان من الضروري أن يقع، ونحن طالبنا وما زلنا نطالب بمراجعة التعيينات (بالحكومة) خاصة أننا رأينا وجود تململ وتعثر وفشل في أداء بعض الوزراء".
التغيير الحكومي في تونس كان مخططاً منذ فترة، ولكن تأخر بسبب مفاوضات صندوق النقد
وقال الرئيس السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية (حكومي يتبع الرئاسة) طارق الكحلاوي، إن "التغيير الحكومي كان مخططاً منذ مدة طويلة، وما عطله هو تأجيل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي".
وأضاف الكحلاوي، للأناضول: "فريق التفاوض مع صندوق النقد يتكون من رئيسة الحكومة، ووزير الاقتصاد والتخطيط (سمير سعيد)، ومحافظ البنك المركزي (مروان العباسي)، الذي قد يكون هو أيضاً هدفاً للتغيير".
رئيسة الحكومة قد تكون عرضة للإقالة أيضاً
وتابع: "رئيسة الحكومة قد تكون عرضة للإقالة، في انتظار حسم الاتفاق مع صندوق النقد، الرئيس لم يكن راضياً عن أداء الحكومة بشكل عام، لكن هذا فريق تفاوضي لا يمكن تغييره وسط المفاوضات لإمكانية التشويش على مآلها".
ومنذ فترة، تسعى تونس إلى الحصول على قرض من صندوق النقد في ظل أزمة اقتصادية حادة فاقمتها تداعيات جائحة كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية المتواصلة منذ 24 فبراير شباط 2022.
وعن الوزراء المقالين، قال هشام الحاجي، إن إقالة الناطق باسم الحكومة لها "علاقة بتوازناتها الداخلية، فليس سراً أن الحكومة فيها تجاذبات وقراءات مختلفة، وهذا ربما أدى الى أن يدفع وزير التشغيل الثمن".
قيس سعيد يبعث برسالة لاتحاد الشغل عبر وزير الزراعة الجديد
ورجّح مراقبون أن تكون إقالة وزيرة التجارة على خلفية ارتفاع الأسعار، وفقدان عدد مهم من المواد الأساسية، وتزايد عمليات المضاربة والاحتكار.
كما أن تعيين عضو المكتب التنفيذي السابق محمد علي البوغديري للاتحاد العام التونسي للشغل، وزيراً للفلاحة (الزراعة) خلفاً للسلاوتي، قد يكون رسالة من الرئيس قيس سعيد موجهة لاتحاد الشغل، بأنه لن يرضخ لضغوط النقابات التعليمية التي تقدم حزمة من المطالب المادية والمهنية، حسب مراقبين.
غموض حول أسباب إقالة وزير الخارجية رغم حماسه المشهود لحكم قيس سعيد
أما عن إقالة وزير الخارجية التونسي، فأشار الحاجي، إلى أن "إقالة عثمان الجرندي تلفت الانتباه، خاصة أنه إلى حد الآن لم ذكر أسبابها سواء من قبل الحكومة أو الرئاسة".
ويرى "الظاهر أن إدارة السيد الجرندي للخارجية كانت فاشلة، يكفي أن نرى أن عدداً من البعثات الدبلوماسية بقيت دون سفراء وقناصل، وتراجع دور تونس في المشهد الدولي، إلى جانب عدة أوجه نقص أخرى".
فيما علق عبد الرزاق الخلولي المؤيد للرئيس، بأن "التقييم الذي يقوم به رئيس الدولة هو الذي يؤخذ بعين الاعتبار، وتقييم أداء وزير الخارجية يندرج في إطار عمل سعيّد الرئيسي، لذا فالقرار كان صائباً وليس هناك مبرر لطرح سؤال كيف ولماذا".
وتابع: "لربما رأى رئيس الجمهورية أنه (الجرندي) لم يقم بواجبه، وهذا يدخل في إطار صلاحيته، ونحن لا نتدخل في الصلاحيات ولا ننقدها لأنه ليس من اختصاصنا".
وتعقيباً على قرار إعفائه من منصبه، غرّد وزير الشؤون الخارجية المُقال على تويتر قائلاً: "انتهت اليوم مهامي كوزير للشؤون الخارجية بعد سنوات 3، وفي ظرف دقيق بوصلتي الوحيدة فيه كانت مصلحة تونس العليا".
ورغم طبيعة إقالته المفاجئة له، قال الجرندي: "كل التقدير للرئيس على ثقته ولرئيسة الحكومة ولإطارات الوزارة، سأظل حيثما كنت في خدمة هذا الوطن، كلنا عابرون وتبقى تونس شاهدة على من أحبها وأخلص لها".
من جهته، ذهب طارق الكحلاوي، إلى أن "إقالة وزير الخارجية جاءت بطلبه"، مشيراً إلى أن "المصادر القريبة منه تقول إنه طلب المغادرة منذ مدة لأسباب صحية".
وقارن الكحلاوي، بين وزير الخارجية السابق والوزير الحالي نبيل عمّار، وذكر أن "الجرندي لم يكن ديناميكياً بالشكل الكافي بالنسبة لقيس سعيد في الردود والدفاع عن مواقف الرئيس".
وتابع أن "أحد أهداف تعيين وزير الخارجية الحالي كان واضحاً، وهو حضوره في الإعلام بقوة، لا سيما أنه متحمس لمسار 25 يوليو/تموز 2021 (حل سعيد للحكومة والبرلمان بالمخالفة للدستور)".
وتولى الجراندي حقيبة الخارجية في أكثر من حكومة تعاقبت على تونس، منذ سقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
وحتى بعد الإجراءات الاستثنائية التي بسطت سلطان الرئيس قيس سعيّد في البلاد منذ يوليو/تموز 2021، آثرت رئيسة الحكومة نجلاء بودن الاحتفاظ بالجرندي (71 عاماً) على رأس هذه الوزارة السيادية حتى أمس.
وكثيراً ما دافع عثمان الجرندي عن قرارات الرئيس قيس سعيد، خصوصاً تلك الإجراءات الاستثنائية، حيث يؤكد أن تونس تعيش في مناخ ديمقراطي منفتح على النقد.
ورغم أن البعض ربط قرار إقالة الجرندي بإجرائه محادثة مع نظيره السوري فيصل المقداد عقب الزلزال المدمر في سوريا وتركيا، فإن الدبلوماسي التونسي السابق عبد الله العبيدي، قال للجزيرة نت إن الإقالة كان مخططاً لها من قبل.
ويرى مراقبون أن سعيد استغنى عن الجرندي لعدم نجاحه في إقناع الغرب بمسار 25 يوليو/تموز 2021، تاريخ التدابير الاستثنائية التي ألغى بمقتضاها الدستور والبرلمان وأقال الحكومة وحكم البلاد بالمراسيم.
وفسر آخرون إقالة وزير الخارجية التونسي، عثمان الجرندي، بمحاولة لإرضاء الجزائر بعد تهريب باريس المعارضة الجزائرية أميرة بوراوي من تونس إلى فرنسا.
ومنذ 25 يوليو/تموز 2021، تعيش تونس أزمة سياسية بعد اتخاذ سعيّد إجراءات استثنائية من أبرزها حل مجلس القضاء والبرلمان وإصدار تشريعات بأوامر رئاسية وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة أسفرت عن برلمان خال من المعارضة، وبنسبة تصويت متدنية وإقرار دستور جديد.
وتصف قوى تونسية، في مقدمتها جبهة "الخلاص الوطني" المعارضة "مسار 25 يوليو/تموز" بأنه "تكريس لحكم فردي مطلق"، فيما تراها قوى أخرى "تصحيحاً لمسار ثورة 2011" التي أطاحت بالرئيس آنذاك زين العابدين بن علي.
أما سعيد، الذي بدأ في 2019 فترة رئاسية تستمر 5 سنوات، فقال إن إجراءاته "ضرورية وقانونية" لإنقاذ الدولة من "انهيار شامل".
التعديل الوزاري بتونس اعتراف بإخفاق الرئيس .. فكيف سيؤثر على مستقبل حكمه؟
وتمثل التغييرات الوزارية الواسعة على حكومة شكلت منذ أقل من عام ونصف اعترافاً واضحاً من سعيد بفشل الحكومة التي انفرد باختيارها، عكس الحكومات السابقة في ظل الدستور السابق الذي كان يجعل تشكيل الحكومة بشكل كبير نتيجة مشاورات بين الكتل البرلمانية والرئاسة وكان سعيد يشكو منه، وعلقه قبل أن يقوم بتعديله.
يعني ذلك أن أداء الحكومة هذه المرة مسؤول عنه قيس سعيد تماماً ولن يتفرق دمها بين الأحزاب والرئيس كالحكومات السابقة.
هذا الإخفاق، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية، والسخط السياسي، سوف تنعكس أو انعكست بالفعل على نظرة الشارع للرئيس، وتزايد الخلاف بينه وبين المعارضة، خاصة الاتحاد التونسي للشغل، الذي كان يغازل الرئيس قليلاً بعد إطاحته بالدستور والقانون، وكان يقدم نفسه كوسيط وليس معارضاً للرئيس، ولكن بعد جفاء قيس سعيد معه، واضطراره للذهاب لصندوق النقد الدولي بسبب الأزمة الاقتصادية، زادت شقة الخلاف بين الاتحاد ذي القاعدة الجماهيرية الواسعة والرئيس.
وأظهر التدني القياسي، للمشاركة في الانتخابات جفاءً شعبياً تجاه الرئيس أيضاً.
ولكن هل يعني أن حكم سعيد مهدد، ليس بالضرورة، فرغم وضوح أن هناك استياء شعبياً من الأوضاع الاقتصادية، وقلقاً من إجراءات الرئيس القانونية غير الدستورية، فإن هناك استياء مقابلاً من أداء الأحزاب السياسية في فترة الديمقراطية السابقة.
وفي مقابل فشل الرئيس في حشد تظاهرات مؤيدة له أو جذب الناخبين لصناديق الاقتراع في انتخاباته غير التنافسية، فإن الأحزاب وقوى المجتمع المدني رغم تعدد احتجاجاتها وتظاهراتها، فإن حجمها وزخمها يبدو ضعيفاً.
فإخفاقات الأحزاب في المرحلة الديمقراطية أفقدت السياسة في تونس زخمها، والشعب يبدو مستاء من سعيد ومعارضيه على السواء، وأجهزة الدولة تنفذ أوامر الرئيس بلا نقاش، وبلا حماس أيضاً.
والرئيس يفتح معركة جديدة ضد جبهة سياسية دون أن يحسمها مع الجبهة السابقة.
الجانب الإيجابي، حتى الآن أن تونس تجنبت أزمة ديون على النمط السريلانكي أو مواجهة دموية بين الرئيس والمعارضة، رغم تصعيده للقمع، مقابل التزام المعارضة بالسلمية والقانون.
ولا تبدو تونس مقبلة على انفجار سياسي وشيك، ولا كارثة اقتصادية على النمط اللبناني في زمن قريب، ولكنها تسير على مسار انحداري بطيء (أو متوسط السرعة)، على الصعيدين الاقتصادي، والسياسي.
فلا نالت مرونة الديمقراطية وشفافيتها، ولا حسم الحكم القوي، وهو مسار يراكم المشكلات بطريقة قد تجعلها قد تنفجر بعد وقت بعيد نسبياً.
ولكن مع استمرار انفراد سعيد بالسلطة، فإن الشارع المتذبذب بين نفوره من المعارضة والرئيس على السواء، سوف يبدأ في تحميل تدهور الأوضاع أكثر للرئيس.