توصف البلقان بأنها برميل بارود أوروبا، وتسعى البوسنة إلى الانضمام لعضوية الناتو، لكن روسيا تعارض هذا الأمر بشدة، فلماذا يجب على الحلف العسكري الغربي البت في الأمر قبل فوات الأوان؟
تناول تحليل لمجلة Foreign Policy الأمريكية هذا السؤال انطلاقاً من توجيه السفير الروسي لدى البوسنة تهديداً مستتراً للبلاد، خلال فبراير/شباط الماضي، في حال قررت المضي في مسعاها للحصول على عضوية الناتو.
ففي عام 1995، أنهى تدخل عسكري بقيادة الولايات المتحدة 3 سنوات ونصف السنة من الحرب في البوسنة، لكن على الرغم من استثمار الولايات المتحدة بكثافة، جنباً إلى جنب مع الاتحاد الأوروبي، في إرساء السلام في البلاد، تهدد الآن الجهات المؤيدة لروسيا بتقويض مستقبل البوسنة مع المؤسسات الغربية، من خلال عرقلة خطة انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو).
تركيبة الحكم المعقدة في البوسنة
ترى فورين بوليسي أن الفرصة لا تزال سانحة أمام الولايات المتحدة وحلف الناتو للتحرّك والترحيب بالبوسنة في الحلف قبل فوات الأوان، حيث حان الوقت لاغتنام زخم الحرب في أوكرانيا، وتوسيع الحلف العسكري ليضم البوسنة.
كانت قوة يقودها حلف الناتو قد نجحت في تنفيذ الجوانب العسكرية لاتفاقية الإطار العام للسلام في البوسنة والهرسك، المعروفة باسم "اتفاقية دايتون"، خلال الفترة من أواخر عام 1995 إلى عام 2004. كانت هذه القوة العسكرية، التي بلغ قوامها 60 ألف جندي، سبباً رئيسياً لعدم انزلاق البلاد مُجدَّداً إلى حالة الصراع. في الواقع، يُنسب إلى حلف الناتو بوجهٍ عام الفضل في ضمان الأمن في البوسنة في مرحلة ما بعد الحرب.
كان الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو تحديداً أحد أهم الأهداف الاستراتيجية للبوسنة منذ عقود حتى الآن. ويُمثّل التاريخ الحديث للبلاد، الذي اتسم بالانشقاقات الداخلية والتدخل الخارجي من صربيا وكرواتيا المجاورتين، في تسعينيات القرن الماضي، تذكيراً دائماً بضرورة الحصول على مظلة أمنية.
تبذل منذ ذلك الحين جميع مؤسسات الدولة، من ضمنها مؤسسة الرئاسة والحكومة الرسمية والبرلمان، جهوداً حثيثة من أجل تحقيق هدف الحصول على العضوية الكاملة في الناتو. في المقابل، تعمل الجهات المناهضة لحلف الناتو على ضمان بقاء البلاد هشة، حتى تفشل في تلبية متطلبات الانضمام إلى الحلف.
لكن النظام السياسي المعقد للغاية يُسهم في تخريب مسعى البلاد باتجاه عضوية الناتو، إذ تتمتع البوسنة بمستويات متعددة من الحكم: مستوى الدولة والكيانات والكانتونات والبلديات، الأمر الذي ينجم عنه سلسلة من قرارات النقض المؤثرة سلباً في كفاءة عملية اتخاذ القرار داخل مؤسسات الدولة.
يعني هذا النظام أنَّ الأمر يستغرق شهوراً حتى تتشكَّل حكومة على مستوى الدولة. يوجد حوالي 10 أحزاب سياسية رئيسية في البلاد داخل السلطة والمعارضة في آنٍ واحد على مختلف مستويات الحكم، بالإضافة إلى السياسات القائمة على العرق وحق النقض المعيقة للتغيير الفعَّال.
واجهت البوسنة على مدار سنوات جموداً مؤسسياً وانشقاقات داخلية وفساداً مستشرياً وتدخلاً خارجياً، وهو ما دفع آلاف البوسنيين إلى مغادرة البلاد بحثاً عن مستقبل أكثر إشراقاً في أماكن أخرى من أوروبا.
في الفترة التي سبقت الانتخابات، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، سوَّق عدد من الأحزاب السياسية نفسها على أنَّها "إصلاحية" ووعدت بتغييرات كبيرة في بلد تهيمن فيه الانتماءات العرقية.
من هم أبرز المعارضين لانضمام البوسنة لحلف الناتو؟
عندما تشكَّلت أخيراً حكومة جديدة على مستوى الدولة، في أواخر يناير/كانون الثاني، رحب الدبلوماسيون الدوليون المقيمون في العاصمة سراييفو بهذا الأمر، باعتباره علامة على تغيير مهم تشتد الحاجة إليه. من جانبه، أشاد الاتحاد الأوروبي بخطوة تشكيل الحكومة، وأعربت السفارة الأمريكية عن دعمها للبوسنة، وعرضت المساعدة في "تنفيذ الإصلاحات المطلوبة لتحقيق التكامل الأوروبي الأطلسي".
ومع ذلك، باتت آفاق مواصلة التغيير والمسار الموالي للغرب موضع شك الآن، حيث لا يزال هناك حزبان متشددان يهيمنان على السياسات في البلاد: حزب "تحالف الديمقراطيين الاشتراكيين المستقلين" الصربي (SNSD)، وحزب "الاتحاد الديمقراطي الكرواتي للبوسنة والهرسك (HDZ)".
وأغفلت وثيقة التحالف الحزبي، التي وُقّعت قبل أن تتولى الحكومة الجديدة السلطة، هدف البوسنة المُتمثّل في الانضمام إلى حلف الناتو، ورغم وجود إشارة إلى طموح الدولة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فإنه لا يوجد أي ذكر للسعي نحو الانضمام لحلف الناتو العسكري.
ظهرت في جمهورية صرب البوسنة المتمتعة بالحكم الذاتي، والتي تشكل 49% من أراضي البلاد، دائرة انتخابية مناهضة لحلف الناتو. عندما كان لدى الحلف قوات على الأرض حتى عام 2004، لم يكن هناك الكثير من المشاعر المعلنة المعادية للغرب. ثم أدَّى تحوّل الأمريكيين بعيداً عن البلقان، ورحيل القوات الأمريكية في أعقاب الحرب في أفغانستان والعراق، إلى فراغ في السلطة بالبلاد.
بينما كان نهج الاتحاد الأوروبي تجاه البوسنة عديم الفاعلية تماماً، ظهر تأثير روسيا في جميع أنحاء أوروبا خلال العقد الماضي، لاسيما في البوسنة. بالعودة إلى عام 2009، كان العضو الصربي في مجلس رئاسة البوسنة والهرسك، نيبويسا رادمانوفيتش، يؤيد تطلع البوسنة للانضمام إلى الناتو.
لكن الآن يتصدر زعيم حزب "تحالف الديمقراطيين الاشتراكيين المستقلين" الصربي، ميلوراد دوديك، المشاعر المعادية للانضمام إلى حلف الناتو. تولَّى دوديك، الذي أشادت به ذات يوم وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت السلطة منذ عام 2006، ورسَّخ مكانته بقوة باعتباره الشخصية المهيمنة في جمهورية صرب البوسنة.
وعلى مدى سنوات، أنشأ دوديك علاقات وثيقة مع موسكو. أعلن تأييده الهجوم الروسي على أوكرانيا، وزار الرئيس فلاديمير بوتين مرتين العام الماضي. قدَّم دوديك نفسه على أنَّه الحليف الأكثر ولاءً للرئيس الروسي في هذا الجزء من أوروبا. منح دوديك، الزعيم السياسي لصرب البوسنة، الرئيس الروسي أعلى وسام شرف في جمهورية صرب البوسنة، في أوائل يناير/كانون الثاني، وذلك تقديراً لاهتمامه بهذا الجزء من البوسنة.
وفي خطوة استفزازية أخرى للغرب، سافر رئيس برلمان جمهورية صرب البوسنة وحليف دوديك، نيناد ستيفانديتش، في زيارة رسمية إلى موسكو هذا الأسبوع، بينما تستعد أوكرانيا لإحياء الذكرى السنوية الأولى لبدء الهجوم الروسي، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر".
هل يتحرك الناتو أم أن روسيا أكثر تأثيراً؟
بالإضافة إلى دوديك، ثمة طرف مؤثر آخر في الحكومة الجديدة، ألا وهو زعيم حزب "الاتحاد الديمقراطي الكرواتي للبوسنة والهرسك"، دراغان كوفيتش. على عكس دوديك، لم يصدر كوفيتش تصريحات مناهضة لحلف الناتو، لكنه كان يبث وجهات نظر موالية لروسيا على مدى السنوات القليلة الماضية. صوَّت كوفيتش وعدد من أعضاء حزبه ضد انضمام البوسنة إلى عقوبات الاتحاد الأوروبي المفروضة على روسيا، بعد هجومها على أوكرانيا.
مع وجود حزبين سياسيين مؤثرين في الائتلاف الحاكم الجديد للبوسنة، يحملان وجهات نظر موالية لروسيا، يدق ناقوس الخطر بالنسبة لمسلمي البوسنة "البوشناق". وفقاً لآخر تعداد مُسجّل في عام 2013، تُشكّل المجموعة العرقية "البوشناق" 50.1% من السكان. بينما يتمتع الصرب والكروات بمجاورة أقاربهم من المجموعة العرقية نفسها في صربيا وكرواتيا، فإنَّ الوضع مختلف بالنسبة للبوشناق، الذين ليس لديهم وطن بديل أو خيار إضافي، لذا يُمثّل بناء مؤسسات الدولة والانضمام إلى حلف الناتو أمراً بالغ الأهمية للبوشناق، لضمان سلامتهم.
ثمة تداعيات أوسع نطاقاً لتحركات الأطراف الموالية لروسيا في هذه الزاوية من أوروبا، حيث إنَّ تداعيات زعزعة استقرار البوسنة قد تمتد بسهولة إلى دول الناتو المجاورة، كرواتيا والجبل الأسود. يعد الخط الساحلي للبوسنة البالغ طوله 12 ميلاً المنطقة الوحيدة غير التابعة لحلف الناتو على البحر الأدرياتيكي.
وينذر تنامي تأثير السياسيين الموالين لبوتين أيضاً في الجبل الأسود بإمكانية وصول روسيا إلى المياه الدافئة، وهو ما يعني أنَّ دولتين كانتا في يوم من الأيام مواليتين للغرب أصبحتا متنازعاً عليهما بين الغرب وروسيا. ثمة سيناريو أسوأ يطرحه بعض المحللين، يتمثَّل في فتح جبهة صراع جديدة في البلقان لصرف الانتباه عن الحرب في أوكرانيا.
تبعد سراييفو مسافة ساعة بالطائرة عن فيينا، وكان مئات الآلاف من اللاجئين البوسنيين قد شقوا طريقهم إلى أوروبا الغربية في أوائل تسعينيات القرن الماضي. لذا، يرى كثير من الخبراء أنَّ الاستثمار في أمن البوسنة هو استثمار مباشر في أمن أوروبا، وبناءً عليه تكون الرسالة الموجهة إلى الولايات المتحدة وحلفائها واضحة: يجب قبول انضمام البوسنة إلى حلف الناتو قبل فوات الأوان.
تظهر استطلاعات الرأي أنَّ الناتو لا يزال يتمتع بشعبية واسعة، رغم السياسة الانتخابية المتغيّرة في البوسنة. فقد وجد استطلاع رأي أجراه المعهد الجمهوري الدولي، العام الماضي، أنَّ 69% من البوسنيين و77% من الكروات يؤيدون الحصول على عضوية الناتو.
دعم أمين عام حلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، انضمام البوسنة إلى التحالف العسكري في أعقاب الهجوم الروسي على أوكرانيا، وصرَّح بأنَّ البلاد في طريقها إلى الحصول على العضوية. ويتابع الحلف تنفيذ خطة عمل العضوية الخاصة بالبوسنة، والتي تعد نقطة انطلاق باتجاه الانضمام إلى الناتو، لكن عامل الوقت جوهري في هذه الحالة، يجب أن يتنحى جانباً هذا التركيز ضيق الأفق المتعلق بتلبية متطلبات عضوية الناتو لصالح تحقيق الهدف الأكبر المتمثل في تأمين هذه الزاوية من أوروبا.
وفي هذا السياق، يشمل تاريخ الحلف العديد من حالات التوسع الاستراتيجي. حصلت اليونان على عضوية الناتو في أعقاب الحرب الأهلية اليونانية في عام 1952. قُبلت عضوية ألمانيا الغربية في عام 1955، بينما كانت تحت وصاية الولايات المتحدة. انضمت إسبانيا إلى الناتو في عام 1982، بعد عدة سنوات من انتهاء فترة حكم الجنرال فرانسيسكو فرانكو، المعروفة باسم "ديكتاتورية فرانكو".
في هذه الحالات، تراجعت أهداف التنمية الديمقراطية خطوة إلى الوراء لصالح تحقيق ضرورات استراتيجية. ومن هذا المنطلق يرى تحليل المجلة الأمريكية أنه يجب حدوث الأمر نفسه اليوم مع البوسنة، إذا لم يتقرر ضم البوسنة سريعاً فقد يشهد الغرب واقعاً جديداً، يكون فيه بؤرة روسية، فيما كان ينبغي أن تكون أراضي موالية للناتو.