أحيا زلزال تركيا وسوريا الذي خلّف في آخر حصيلة، الأربعاء 15 فبراير/شباط 2023، ما لا يقل عن 40 ألف قتيل، النقاش حول أهمية تكيُّف الدول ذات النشاط الزلزالي العنيف مع هذا النوع من الكوارث ومع قسوة الطبيعة، على غرار اليابان.
هذا البلد الذي بات رائداً في هذا المجال، خصوصاً مع أبنيته المضادة للزلازل، ومع خفضه عدد الضحايا بشكل لافت. لكن هل التجربة اليابانية في مكافحة آثار الزلازل قابلة للتطبيق في بقية الدول؟ وكيف يمكن إنقاذ كل هذه الأرواح؟، بحسب تقرير لموقع فرانس 24.
لا يزال عدد ضحايا الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا، الإثنين 6 فبراير/شباط، بقوة بلغت 7.8 درجة على سلم ريختر، في ارتفاع متواصل مع تسجيل ما لا يقل عن 40 ألف قتيل، حسب آخر إحصائية لوكالة رويترز، الأربعاء 15 فبراير/شباط (5000 قتيل في سوريا و35 ألفاً في تركيا).
مع هذه الضريبة البشرية الهائلة، وفي ظل استمرار التهديد الزلزالي للمنطقة، ودول أخرى معنية بهذه المخاطر، هل من أفق لمواجهة مثل هذه الكوارث الطبيعية أو على الأقل التخفيف من عدد القتلى؟
يبدو أن الجواب الأكثر إقناعاً هو في "كوكب" اليابان، البلد المعروف بنشاطه الزلزالي الكثيف والعنيف، الذي تمكن إلى حد كبير من التعايش مع قسوة الطبيعة عموماً والزلازل على وجه التحديد، والوقاية من آثارها، خصوصاً من خلال هندسة البنايات المقاومة للزلازل.
تعرضت اليابان على سبيل المثال لا الحصر في الفترة ما بين 5 و14 فبراير/شباط إلى ما لا يقل عن 10 زلازل تراوحت قوتها ما بين 4.1 و5.8 درجة، حسب أرقام موقع البيانات العالمية لخّصها نقلاً عن الإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي NOAA.
كما يجدر الوقوف عند الإحصائيات المرتبطة بالخسائر البشرية الناجمة عن النشاط الزلزالي في اليابان لفهم أهمية التجربة اليابانية في مكافحة آثار الزلازل، خصوصاً أن عدد القتلى هو بالمقارنة مع زلازل ضربت باقي دول العالم أدنى بكثير، عدا عن كارثة زلزال 11 مارس/آذار 2011 الذي ضرب هونشو أكبر جزر اليابان بقوة 9.1 درجة على مقياس العزم الزلزالي المستخدم من المركز الأمريكي NOAA، وكذا هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية USGS لقياس الزلازل الكبيرة.
فحسب الموقع نفسه، فإن عدد القتلى المباشر لزلزال 2011 كان حوالي 1475، لكن الكارثة كانت أكبر لتسببها في موجات تسونامي ضربت السواحل الشرقية لليابان، ما أدى لارتفاع الحصيلة إلى أكثر من 18 ألف قتيل حسب مركز NOAA.
ولعل آخر مثال عن قدرة اليابان على التكيف مع قسوة الطبيعة، هو زلزال 16 مارس/آذار 2022 الذي ضرب فوكوشيما بقوة 7.3 درجة وخلّف أربعة قتلى. وزلزال آخر في 20 مارس/آذار 2021 ولم يخلف أية ضحية رغم أن قوته بلغت 7 درجات.
الأبنية المضادة للزلازل
من ناحية ثانية، فإن اليابان معروفة بأبنيتها المضادة للزلازل، يوضح موقع لاكراو دوت كوم la-croix.com أن اليابان التي اعتادت على الزلازل باتت تفرض معايير بناء تعتبر الأكثر صرامة في العالم، كما يتم تجديد البنايات مع مراعاة المخاطر الطبيعية التي تهدد الأرخبيل. يضيف الموقع الفرنسي أن زلزال تركيا وسوريا الأخير أحيا التساؤلات حول مدى هشاشة المباني التي دمرتها الهزات العنيفة على جانبي الحدود، ما يذكرنا بأهمية احترام معايير البناء وفقاً للنموذج الياباني.
يوضح المصدر نفسه أن اليابان استفادت من خبرة طويلة الأمد في مجال مكافحة الزلازل ترجع لقرون، وأضاف أن دراسات علم الزلازل بدأت منذ 100 عام، خصوصاً في أعقاب الزلزال الذي دمّر طوكيو في 1923 وخلّف أكثر من 100 ألف قتيل، حيث دمّرت الهزات غالبية المباني الغربية الطراز المبنية بالطوب، وكذا المنازل الخشبية التقليدية.
في 1924، حدد التشريع المحلي المعايير التي يجب مراعاتها في تصميم وبناء المباني الجديدة، وهو بمثابة أول تشريع هندسي في العالم يحدد معايير البناء التي تراعي النشاط الزلزالي.
"مكاتب تحقيق في الجرائم المتعلقة بالزلزال"
وفي تركيا، يطرح انهيار المباني إشكالية كونها قد شيدت بطريقة بعضها غير ملائم للزلازل، ما أثار غضباً عارماً في البلاد، وهو ما دفع السلطات، السبت، إلى توقيف حوالي 12 مقاولاً في قضية انهيار آلاف المباني جنوب شرقي البلاد.
وبين الموقوفين مقاول في محافظة غازي عنتاب و11 في محافظة شانلي أورفا، حسب ما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية. وحسب المصدر نفسه، فمن المتوقع توقيف المزيد من الأشخاص بعد إعلان المدعي العام في ديار بكر إحدى المحافظات العشر المتضررة بالزلزال، السبت، إصدار 29 مذكرة توقيف، وفقاً لوكالة أنباء الأناضول الرسمية.
كما باشر مدعون تحقيقات في المحافظات المنكوبة مثل كهرمان مرعش، حيث كان مركز الزلزال في منطقة بازارجيك. وأمرت وزارة العدل التركية المدعين العامين في المحافظات العشر بفتح "مكاتب تحقيق في الجرائم المتعلقة بالزلزال". واعتقلت الشرطة، الجمعة، مقاولاً في مطار إسطنبول، بعد انهيار مبنى فخم على قاطنيه في محافظة هاتاي.
ووفقاً لاتحاد الشركات والأعمال التركي فإن أسوأ زلزال شهدته تركيا منذ نحو 100 عام خلّف دماراً يمكن أن يكلف أنقرة ما يصل إلى 84.1 مليار دولار، منها 70.8 مليار لترميم المنازل المتضررة، فيما قدر مسؤول حكومي الخسائر بأكثر من 50 مليار دولار، وفق وكالة رويترز.
وقال تقرير اتحاد الشركات والأعمال التركي إن التكاليف الرئيسية ستتمثل في إعادة بناء المساكن وخطوط النقل والبنية التحتية وتلبية الاحتياجات قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى لإيواء مئات الآلاف الذين أصبحوا بلا مأوى. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أعلن أن الدولة سوف تستكمل إعادة بناء المساكن في غضون عام، وأن الحكومة تعد برنامجاً "لجعل البلاد تنهض من جديد".
الاستراتيجية اليابانية لمكافحة الزلازل.. ما هي؟
يوضح د. محمود القريوتي الباحث المتخصص في علم ورصد الزلازل أن "هناك عدة خطوات تجسد الاستراتيجية اليابانية لمكافحة آثار الزلازل: الخطوة الأولى هي تقييم الخطر الزلزالي، بمعنى معرفة الصدوع النشطة، وأماكن الصفائح التكتونية، بحيث يتم تقييم المخاطر لكافة المناطق، وتحديد أكبر نشاط يمكن أن يحدث في المناطق المعنية بالدراسة، ثم أيضاً معرفة خصائص ومميزات الأبنية والمنشآت بشكل عام، وأماكن التجمعات السكنية لوضع خرائط تبين مواقع الخطر الزلزالي.
أما الخطوة الثانية فهي وضع سيناريوهات اعتماداً على أماكن الخطر الزلزالي، وأيضاً على أماكن التجمعات والمنشآت السكانية، بحيث يمكن تطبيق تلك المخاطر على المناطق السكانية، ومعرفة حجم التهديد الزلزالي".
يضيف القريوتي: "بالإضافة إلى ذلك هناك استراتيجيات توسع المدن وانتشارها في المناطق الأقل خطراً، بحيث يتم التركيز عليها والابتعاد قدر الإمكان عن مناطق الصدوع النشطة، لأنه لا يمكن مطلقاً منع النشاط الزلزالي، لكن يمكن تخفيف مخاطره.
هناك إجراءات مهمة جداً مثل صياغة تشريع هندسي لمقاومة آثار الزلازل بناءً على دراسات زلزالية جيولوجية هندسية مختلفة، بحيث يتم تنظيم المعايير الهندسية والمتطلبات الواجب اتخاذها من الأطراف المعنية، بما في ذلك مصممو الأبنية والمنشآت الهندسية أو المنفذون، والالتزام التام بهذه المعايير والخطوات حتى تكون المنشآت المختلفة تقاوم آثار الزلازل.
هناك إجراءات أخرى تخص الأبنية حيث يتم إخماد الموجات الزلزالية أثناء حدود النشاط الزلزالي، من خلال وضع مجسّات أو مصنّعات هندسية مختلفة على مستوى الأساسات وأماكن أخرى لجعل المبنى يتحرك بشكل يناسب الحركة الزلزالية، حتى يتم إخماد تلك الموجات.
هذه التجربة ناجحة جداً؛ حيث إن اليابان تعتبر من المناطق التي تشهد نشاطات زلزالية عنيفة، وقد سمحت هذه الإجراءات بشكل ممتاز بتخفيف الأخطار، ما أدى إما إلى انعدام الضحايا خلال حدود الزلازل، أو سقوط عدد قليل جداً.
يمكن تطبيق هذه الاستراتيجية على بلدان كثيرة، من ضمنها تركيا وسوريا والمناطق ذات النشاط الزلزالي. لكن تركيا لها باع جيد في هذا المجال، حيث إن هناك إجراءات معقولة في عمليات تقييم الخطر الزلزالي ورصده، أما في سوريا والمناطق الأخرى فيمكن أن تطبق فيها، لكن لا أعتقد أن هناك إجراءات قد اتخذت في هذا المجال. عملنا الكثير من الدراسات ورسمنا الكثير من الخرائط للمناطق الأكثر خطراً والأقل خطراً وما بينهما من قليل إلى متوسط. التشريع الهندسي يمكن وضعه، ولنا تجربة في هذا المجال لتطويره في بعض المناطق".
"استراتيجية خاصة بكل دولة حسب حجم المخاطر"
من جانبه، يشرح عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية في جامعة القاهرة: "دول العالم معرضة لخطر الزلازل لكن بدرجات متفاوتة، حيث هناك مناطق خطيرة للغاية مثل اليابان، ولكن ليست هي فقط، بل كل الدول الواقعة على المحيط الهادئ، يليها في الخطورة المناطق التي تلتقي فيها الكتل القارية أو ما يسمى أيضاً بالصفائح أو الشرائح القارية، ومن بين هذه الدول تركيا، يليها من حيث الخطورة سوريا وإيران وقبرص واليونان وإيطاليا، لأنها على حوافّ التقاء الكتلة الإفريقية مع الأفروآسيوية.
إذاً كل دولة في العالم هي معرضة لخطر الزلازل، ومن هنا لا يمكن أن تقوم كل الدول بتبني الاستراتيجية نفسها، بل إن لكل دولة خصوصية مختلفة، فاليابان لديها تشريع هندسي خاص بالزلازل من المفروض أن يكون على أعلى مستوى من الصرامة، يليها بدرجة أقل تركيا، بينما هناك دول أخرى مثل مصر ليست معرضة للخطر نفسه، فلماذا ستكلف ميزانيتها وضع قانون مشابه لمواجهة ظاهرة لا تحدث فيها عادة بالقوة نفسها. فإذاً كل دولة لها الإجراءات الخاصة بها بما يناسب احتمال حدوث زلازل قوية عندها".
يضيف شراقي: "مصر والدول الأخرى لديها هذا التشريع أيضاً، لكن مشكلة دول العالم الثالث هي كونها لا تطبق هذا التقنين، وهذا يحدث في مصر رغم أنها تبنت التشريع الأوروبي، بحكم أن هناك دولاً أوروبية معرضة للزلازل.
هذا من الناحية النظرية، لكن في الواقع العملي: هل الدول العربية تطبق التشريعات الخاصة بها؟ لا هذا غير صحيح. فكثير من الدول تغض الطرف عن بعض المخالفات في البناء، ومن هنا المصيبة الكبرى، حيث إن الكثير من المباني وقعت بعد الزلزال، كما هناك مبانٍ يمكن أن تنهار رغم التشريع الهندسي هذا بسبب كونها شيّدت فوق الفوالق (الصدوع في القشرة الأرضية).
شاهدنا في تركيا حدوث فوالق كبيرة حصلت فيها إزاحة 3 أمتار تقريباً، فأي أبنية في تلك المنطقة ستنهار، بينما رأينا أبنية بقيت واقفة وسليمة، ما يعني أن هندستها تحترم المعايير الهندسية، ثم إن عدم احترام هذه التشريعات يرجع في الغالب لأسباب كثيرة، منها الفساد".
"أمن المواطنين وقابلية إصلاح المباني"
من جهة أخرى، قالت د. سميرة مبيض باحثة وأكاديمية في العلوم البيئية والجغرافية، إن "الزلازل المتتالية ذات القوة التدميرية الكبيرة في المحيط الجغرافي لليابان دفعتها إلى تطوير استراتيجيتها وتقنياتها العلمية والتطبيقية في هذا المجال. فوفق الباحث الياباني Otani من جامعة طوكيو التي أسست جمعية علم الزلازل ضمنها عام 1880، وهي من أوائل الجمعيات العلمية المختصة بالزلازل في العالم. تلاها تشكيل لجنة دراسة الزلازل عام 1892 بعد زلزال عام 1891 المدمر، الذي أصاب منطقة ناغويا، كما تم إدخال التصميم المقاوم للزلازل للمباني في قانون البناء الحضري في اليابان عام 1924 بعد زلزال كانتو الكبير الذي أصاب طوكيو ويوكوهاما وغيرها من المناطق".
وتوضح محدثتنا: "يمكننا الإشارة إلى عدة آليات في استراتيجية اليابان لمقاومة آثار الزلازل، حيث تعمل الجهات المختصة على تقييم الأضرار وقابلية إعادة تأهيل المباني على مستويين.
مستوى أولي سريع بعد حصول الزلزال مباشرة، يليه مستوى أكثر دقة للتقييم الكمي وتحديد الإجراءات المطلوبة على المدى المتوسط. فتبرز توجهات نحو إعادة تأهيل المباني التي بقيت قائمة بعد الزلزال، بداية عبر التدعيم الهندسي والإنشائي، ومن ثم التوجه لتقنيات البناء الحديثة في الأبنية التي يتم تشييدها بعد الزلزال، والتي تستطيع مقاومة الزلازل المستقبلية.
ترتكز هذه التقنيات الحديثة بشكل رئيسي على منطلق تبديد طاقة الزلزال عوضاً عن أن تصيب جدران الأبنية وتؤدي لتصدعها أو لتدميرها، ومن أهمها التقنيات التي تعتمد على الهياكل المعدنية، وهي تقنية تم تطويرها في اليابان في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، واستخدمت في المباني للمرة الأولى ضمن هذه الدولة في أوائل التسعينيات، ومن ثم تم العمل عليها من قبل باحثين في دول عديدة واختبار فعاليتها وتحسينها بشكل مستمر، وهي اليوم معتمدة في دول عديدة معرضة للزلازل.
تختلف المواد التي تستخدم في بناء هذه الهياكل، فقد تكون من الفولاذ أو من الألمنيوم، وقد أظهرت هذه الهياكل أداءً جيداً في ظل الزلازل القوية، واستمر تطوير هذه التقنيات لتصبح أكثر مرونة وأقدر على مقاومة الزلازل في أحدث الأبحاث التي جرت حولها في 2020. إضافة للتقنيات التي تعتمد على الهياكل المعدنية هناك تقنيات عزل قواعد المنشآت والمباني التي تساعد على إخماد طاقة الزلزال وتفادي تصدعات المباني الناجمة عنها".
كما تضيف الباحثة المختصة في البيئة والجغرافيا: "تجدر الإشارة إلى أن السياسة اليابانية في إطار المباني الحديثة المقاومة للزلازل تعتمد على مبدأين رئيسيين؛ الأول هو حماية حياة القاطنين في هذه المباني، والثاني هو قابلية الإصلاح والاستدامة للمبنى، إضافة إلى التقييم المستمر وتطوير التقنيات الهندسية، وهي بذلك تضمن سلامة وأمن مواطنيها، وتشكل مصدراً علمياً مهماً للتفاعل العالمي حول هندسة بناء المساكن المقاومة للزلازل.
عموماً فإن هذه التقنيات قابلة للتطبيق في أي بلد يقع في منطقة نشاط زلزالي في العالم، كسوريا وتركيا وغيرها، لكن يتطلب ذلك تأهيل الكفاءات القادرة على تطبيق هذه الأسس، ومن ثم اختبارها وفق أنماط التربة المختلفة.
لتحقيق مثل هذه الاختبارات يمكن الاستعانة بنماذج رقمية لمحاكاة الظروف المختلفة على أرض الواقع. وتبقى المتابعة والرصد المستمر والتقييم هي الأدوات الأكثر فاعلية في تطوير استراتيجيات التصدي لمخاطر الزلازل وكيفية الاستجابة المحلية لكل منطقة جغرافية، وتبادل الخبرات العلمية على المستوى العالمي حولها".