تُعَدُّ مدينة أنطاكية العاصمة القديمة لمحافظة هاتاي، المنطقة الأشد تضرراً من أسوأ زلزال ضرب تركيا منذ قرن تقريباً. ويكافح الآلاف في جميع أنحاء المدينة التاريخية التي تحوي معالم تاريخية نفيسة تعود لآلاف السنين، لاستيعاب الكارثة التي قلبت حياتهم رأساً على عقب، وتركت العديدين منهم دون منزل أو ممتلكات أو ذكريات، بينما تركت البعض الآخر دون أي مستقبل هناك.
كيف يعيش أهل أنطاكية حياتهم بعد الزلزال المدمر؟
ينصب الأنطاكيون فراشهم أينما سنحت لهم المساحة في زوايا الشوارع المظلمة، والحدائق العشبية الصغيرة، وقرب مدرسةٍ ابتدائية، وعلى سفح تلة تنتصب فوقها واحدة من أقدم كنائس العالم.
وعانى كثيرون من أجل اجتياز ليلةٍ أخرى في أنطاكية، بحسب ما رصدته صحيفة New York Times الأمريكية، إذ كانت السيارات باردةً جداً على أن تنام فيها الأسر، فضلاً عن كونها أصغر من أن تستوعب غالبية العائلات. لكنها تظل أدفأ من الخيام، التي كانت مجرد طبقةٍ رقيقة تخفي الدمار الشامل الذي يعانيه الناس داخلها.
ومع ذلك، كانت السيارات والخيام أفضل من أغطية التربولين، التي كانت تمتد بين حافلتين، أو تحملها الأعمدة لتثبيتها. بينما تظل الأجواء شديدة البرودة مهما أحرق الأنطاكيون من أخشاب وقمامة لتدفئة عائلاتهم.
تقول المربية صبا يغيت (52 عاماً) للصحيفة الأمريكية: "لا كهرباء، ولا ماء، ولا حمام". وكان يوم الخميس، 9 من فبراير/شباط، ثالث يومٍ تستيقظ فيه صبا متجمدةً من البرد داخل سوق الخضار. حيث احتمت في سوق الخضار مع عائلتها عقب زلزال يوم الإثنين الذي دمر منزلهم قرب البحر المتوسط. وأردفت صبا: "الأمر مروع".
جرى استخدام بعض "البسطات" في السوق كأسرّةٍ مؤقتة. بينما ظلت بعض البسطات الأخرى معبأةً بالبقدونس، والملفوف، والبصل الأخضر، والقرنبيط الذي بدأ يذبل الآن. وظهرت بضع حبات من الجزر المتفحم داخل رماد شعلة النار الصغيرة التي أشعلتها صبا، لتكشف بذلك عن وسيلة الطهي الوحيدة التي تقدر عليها هي وعائلتها في هذه المدينة. إذ لطالما امتلأت هذه المدينة بالمأكولات اللذيذة نتيجة امتزاج الأطباق المتوسطية، والعربية، والأناضولية داخلها طيلة قرون.
تقول صبا إن الخضروات جاءت من جماعات الإغاثة وليس من سوق الخضار المحيط بها، حيث توفر جماعات الإغاثة مصدر الغذاء الوحيد لغالبية أبناء أنطاكية. وأوضحت إنها تأمل أن يحافظ أصحاب أكشاك السوق على رغبتهم في بيع الخضروات مستقبلاً، لكنها تظل أمنيات حالمة أكثر من كونها واقعاً ملموساً، حسب تعبيرها.
لم تتبقَّ بيوت للتحصّن فيها من البرد
كان يوم الخميس رابع يوم يقضيه غالبية سكان أنطاكية نائمين في العراء. حيث فقد العديد منهم منزله في الزلزال، بينما يخشى البعض الآخر أن تتداعى بيوتهم وشققهم المتبقية مع أقل هزةٍ ارتدادية. ووصل بهم الأمر إلى الخوف من دخول المباني لاستخدام ما تبقى من مراحيض سليمة.
وجلست صبرية كارا أوغلان (70 عاماً) ملتفةً ببطانية رقيقة فوق كرسي تخييم أزرق، وذلك في الممشى الواقع على سفح الجبل المطل على المدينة. وقالت صبرية: "سنموت هنا فوق كراسينا، بينما ننتظر وصول الخيام".
ووضعت بجوارها قفص ببغاوات بعد إنقاذها من منزل عائلتها. وفي الشارع المقابل، وقفت السيارة التي ينام أفراد العائلة داخلها بالتناوب كل ليلة. وأوضحت أنهم اعتادوا في وقتٍ من الأوقات على قيادة السيارة إلى شاطئ البحر عند اعتدال الطقس، آخذين معهم الكراسي الزرقاء نفسها أثناء التنزه.
أنطاكية.. الزلزال قذف بحضارة عمرها آلاف السنين إلى الوراء
يُذكر أن مدينة أنطاكية تأسست عام 300 قبل الميلاد على يد الإسكندر الأكبر، وعاشت لزمنٍ طويل شهد تدميرها وإعادة بنائها عدة مرات. وأطلق عليها الإغريق، والرومان، والبيزنطيون اسم "أنتيوك". حيث كانت المدينة تمثل مركزاً تجارياً شديد النفوذ، لدرجة أنها كانت ثالث أكبر مدن الإمبراطورية الرومانية.
وبُنِيَت المدينة الجديدة فوق أطلالٍ وأطلال من أنقاض حضارات أفلت شمسها قبل زمنٍ بعيد. وما يزال عبق التاريخ يتسلل من بين ثنايا العديد من مناطقها. ويتجلى ذلك في الكنيسة المسيحية القديمة التي أسسها القديسان بطرس وبولس في كهف، وداخل المساجد الحجرية القديمة في أقدم أجزاء المدينة، وعبر قطع الفسيفساء البيزنطية النادرة.
لكن قِدم تاريخ المدينة لم يحمل أي عزاءٍ لأولئك الذين يتلقون المكالمات كل بضع ساعات، ليصلهم معها نبأ وفاة شخصٍ آخر من أحبائهم. وينطبق الوصف السابق على غالبية سكان أنطاكية في الأسبوع الجاري. وأثناء سيرهم في الشوارع بحلول يوم الخميس، توقفت النداءات التي كانوا يسمعونها من الأشخاص العالقين تحت الأنقاض.
"لا أنطاكية بعد اليوم"
بينما قال كاظم قصيري (41 عاماً)، مالك فندق Savon الأشهر في أنطاكية: "لا أنطاكية بعد اليوم". حيث كان ينام داخل سيارته في بهو الفندق مع نحو 25 من أقاربه، وموظفيه وأقاربهم، وأصدقائهم.
وأردف قصيري: "لقد فقدت أصدقائي، وفقدت البنايات التي كنت آكل وأشرب مع أصدقائي داخلها. لقد فقدت كل ذكرياتي. ولم يعُد لديّ سبب للعيش في هاتاي بعد الآن، لأنه لم يتبق أي شيء".
ولم تُعف الكارثة أحداً، إذ شهدت بعض الأحياء انهيار أو تحطُّم جميع البنايات فيها، بل إن بعضها مسح بالكامل. ولم تسلم حتى الأشجار من ندوب الكارثة، بعد أن قطع الناس أغصانها لحرقها في سبيل التدفئة.
وتعرّض أقدم جزءٍ في المدينة للتدمير بشكلٍ شبه كامل بعد أن كان يستضيف المساجد، والكنائس، والكنائس العلوية، والمعابد اليهودية جنباً إلى جنب. ويقول السكان إن وجود ذلك الجزء القديم كان خير شاهدٍ على تعايش العديد من الأديان داخل أنطاكية.
"أتمنى لو كان الزلزال قد ضرب مدينتي بدلاً من هذا المكان"
وتعرض التسامح في أنطاكية، التي يسكنها أكثر من 200 ألف شخص، لاختبارٍ جديد في العقد الماضي. حيث وصل آلاف اللاجئين السوريين إلى أراضي المدينة.
واعتاد المتسوقون، والمتجولون، والسياح على ارتياد شارع الاستقلال (أول شارع مضاء في العالم) من أجل زيارة مطاعم الكباب، ومتاجر التوابل، ومتاجر الحلويات، ومتاجر الخياطة، والصيدليات، وصالونات الحلاقة. لكن كل تلك المحال التجارية أصبحت متصدعةً أو مدمرةً اليوم.
وقال أحمد غونش (34 عاماً)، الكردي التركي الذي اعتاد زيارة أنطاكية من مدينته أورفا لبيع الماشية: "من المؤلم رؤية شارع الاستقلال في هذا الحال. إنه مكان مثالي. أتمنى لو كان الزلزال قد ضرب مدينتي بدلاً من هذا المكان".
وعلى الجانب المقابل لفندق Liwan العثماني الأنيق، وُضِعَت 3 أكياس جثث على الرصيف. وحمل أحد الأكياس ملصقاً يقول إن الجثة لسوري يبلغ من العمر 19 عاماً، بينما حمل كيس آخر ملصقاً يقول إن الجثة لتركي يبلغ من العمر 10 سنوات.
وتعثر رجل سوري في مشيته بجوار الجثث وهو يرتدي جورباً مع صندل، ويحمل في يده قائمةً تضم 6 أسماء مكتوبة على قطعة ورق مقوى ممزقة. إذ كانت الأسماء تخص 6 من أقاربه، وبينهم والداه. وقال الرجل السوري إن أقاربه الستة قد فارقوا الحياة. ثم ابتعد مترنحاً وهو يغطي وجهه الباكي.
"لم نفقد مجرد مدينة هنا، بل فقدنا تاريخاً كاملاً"
نشأ عيسى سولماز (51 عاماً) في هذا الحي قبل أن ينتقل إلى إسطنبول للعثور على عمل، وكان يقف مع صديقٍ له لحماية متجرٍ فني في سوق أنطاكية القديم من اللصوص في الجوار. ونجح شقيق سولماز في إنقاذ والدتهما من تحت أنقاض المنزل، لكنهم فقدوا كل شيء آخر يُذكرهما بطفولتهما، وكل الأشياء التي كانت مصدر فخرٍ للآباء والأجداد.
حيث كانت رائحة الخبز المفرود الشهية تنبعث من فرن المخبز في نهاية الشارع، وقد اعتادا نزول السلالم ركضاً في تلك الأوقات من أجل شراء الخبز. بينما اعتاد جارهما الأكبر سناً، الذي فارق الحياة، على إخفائهما في منزله عندما يهربان من عقاب والدتهما.
وقال سولماز لصحيفة نيويورك تايمز: "تنام ذات ليلة، ثم تستيقظ لتجد أنك لم تعد تتذكر طفولتك". وتنبأ سولماز بأن غالبية سكان أنطاكية سيغادرون المدينة عاجلاً أم آجلاً. ثم أردف: "يشبه الأمر فقدان الذاكرة. لم نفقد مجرد مدينة هنا. بل فقدنا تاريخاً كاملاً، وفقدنا حضارة".
وأصبحت أصوات النوائب تقطع نوم النازحين طوال الليل. إذ تدوي صفارات الإنذار بلا انقطاع. بينما تمر المروحيات التي تحمل المساعدات من فوقهم كل بضع دقائق.
المساعدات الإنسانية هي مصدر العيش الوحيد لسكان أنطاكية
وصارت المساعدات الإنسانية تمثل مصدر الطعام الوحيد بعد إغلاق المتاجر، والمطابخ، والمطاعم أو تدميرها. ويتألف الطعام في الأغلب من العدس مع المعكرونة العادية، أو التونة المعلبة، أو البسكويت المعبأ.
وظهرت مشكلة أخرى تتمثل في البقاء على تواصل مع الأهل والأصدقاء، وذلك في ظل عدم توافر الكثير من الكهرباء وخدمات الهاتف المحمول. حيث اختفت مقابس الكهرباء مع انهيار البيوت والمكاتب، بينما اصطفّ العشرات حول شاحنات الكهرباء القليلة الموجودة، من أجل توصيل هواتفهم الخلوية بمقابس الطاقة المتدلية في كل اتجاه.
ولا خلاف على صعوبة الاعتماد على الطاقة من السيارات أيضاً، نظراً لندرة الوقود في محافظة هاتاي، وفرض قيود على كمية الغاز المسموح بشرائها.
والأهم من ذلك كله أن الجميع يشعرون بالبرد. وقد وزعت جماعات الإغاثة بعض البطانيات والملابس الدافئة، لكن الناس النائمين في العراء اضطروا لحرق كل شيء يمكنهم العثور عليه من أجل التدفئة. وقدّمت الشاحنات المتنقلة والمتطوعون أكواب الشاي وحساء العدس الساخن في بعض المناطق، في ما تجلب الشمس بعض الدفء إلى الأصابع المتجمدة. لكن عناء البحث عن الدفء يبدأ من جديد مع حلول المساء.
ولم يكن سكان أنطاكية ليصدقوا أنهم سيضطرون للعيش بهذه الطريقة قبل بضعة أيام، أو أنهم سيعتبرون أي مدينةٍ أخرى وطناً لهم. لكنهم وجدوا أنفسهم يخططون للرحيل اليوم. حيث قال إبراهيم قايا (55 عاماً)، الذي كان يحتمي بسوق الخضار مع أقاربه: "انتهى أمر هاتاي".
ولم ينقذوا شيئاً من منزلهم سوى كيس البوريك، وهي عبارة عن معجنات مصنوعة بالجبن. وربما يعيشون على المساعدات الخيرية اليوم، لكن هذا الأمر لا يمنعهم من تقديم واجب الضيافة عندما يصلهم أي زائر. حيث صبّوا أكواب الشاي، وقدموا لنا المعجنات، ثم ابتسموا لبرهةٍ وسط دموعهم.