فرض بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قيوداً على البنك المركزي العراقي هدفها الحد من الفساد والتدفقات غير المشروعة للدولارات، لكن النتيجة كانت شللاً ضرب الأسواق العراقية وانهيار الدينار وتهريب الدولار عبر الحدود، فما القصة؟
إذ إنه من خلال فرض القيود الجديدة على مزاد الدولار العراقي، والذي تستخدمه بغداد لتحويل الدولارات الأمريكية التي تتلقاها مقابل مبيعات النفط، وضع بنك الاحتياطي الفيدرالي العراق في واحدة من أكبر الأزمات المالية التي واجهها منذ عام 2003.
فمنذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، تم وضع احتياطي العراق من العملات الأجنبية في الاحتياطي الفيدرالي للولايات المتحدة، وهو ما يمنح الأمريكيين سيطرة كبيرة على إمداد العراق من الدولارات.
كيف بدأت أزمة الدينار الحالية؟
بدأت الأزمة الحالية بتراجع الدينار العراقي بشكل مستمر أمام الدولار منذ أن فرض بنك الاحتياطي الاتحادي في نيويورك ضوابط أشد صرامة على المعاملات الدولارية الدولية التي تجريها بنوك تجارية عراقية منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بهدف إيقاف تحويل الدولارات من العراق إلى إيران المجاورة الخاضعة لعقوبات أمريكية قاسية.
وبموجب القيود التي دخلت حيز التنفيذ قبل أكثر من شهرين بقليل، يجب أن تستخدم المصارف العراقية منصة إلكترونية للإفصاح عن تفاصيل المعاملات، لكن أغلب المصارف الخاصة لم تسجل في المنصة ولجأت إلى السوق السوداء غير الرسمية في بغداد لشراء الدولارات.
وقال مسؤولون في البنك المركزي العراقي ومتعاملون لرويترز إن هذه الضوابط الأمريكية الجديدة أحدثت عجزاً في الدولار، إذ تجاوز الطلب العرض وسرع وتيرة هبوط قيمة الدينار أمام الدولار.
ونشر موقع Middle East Eye البريطاني تقريراً حول الأزمة عنوانه "جهود أمريكا لوقف غسيل الأموال تؤدي إلى تهريب ضخم للدولار عبر حدود العراق"، رصد كيف تسبب عدم قدرتها على تحويل دولاراتها النفطية إلى دينار بالسهولة التي كانت عليها في السابق، في أن تصبح الحكومة العراقية تكافح من أجل أن تدفع التزاماتها، بما في ذلك رواتب ملايين الموظفين العموميين، والمعاشات التقاعدية والدعم الاجتماعي.
واتخذت الحكومة العراقية عدة خطوات عاجلة لمواجهة الأزمة. إذ فتحت المزيد من مكاتب صرف العملات الرسمية، وأطلقت خطة لتشجيع صغار التجار والمستثمرين على استخدام مزاد الدولار، وعلقت الضرائب على بعض السلع، وقدمت الإعانات، من بين تدابير أخرى. ومع ذلك، لا تزال مبيعات المزاد بالدولار متخلفة عن المتوسط.
أظهرت البيانات العامة لمزاد العملات الأجنبية، التي راجعها موقع Middle East Eye البريطاني أن مبيعات شهر يناير/كانون الثاني لم تتجاوز 131 مليون دولار في اليوم في المتوسط، مقارنة بـ227 مليون دولار في أكتوبر/تشرين الأول.
ونتيجة لذلك، تأخذ أسعار صرف الدولار في السوق السوداء في الارتفاع، حيث بلغ سعر صرف الدولار في سوق بغداد السوداء، الخميس 2 فبراير/شباط، 1740 ديناراً للدولار مقابل 1480 ديناراً في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
كان لهذا التقلب آثار غير مباشرة في أسواق الجملة وانعكس بقوة في أسعار السلع الاستهلاكية. تضاعف سعر بعض المواد الغذائية، مثل السكر وزيت الطهي.
إرسال الدولارات عبر البلاد
فُرِضَت إجراءات المراجعة الجديدة لبنك الاحتياطي الفيدرالي، والتي فرضت مزيداً من التدقيق على مصدر الأموال الأجنبية المستخدمة في شراء الدولار في مزاد الدولار، في نوفمبر/تشرين الثاني.
وقال مسؤولون عراقيون ومصرفيون وأصحاب شركات الصرافة والوساطة المالية لموقع Middle East Eye إن الإجراءات أدت إلى إحجام التجار وأصحاب رؤوس الأموال عن المشاركة في المزاد لتجنب الكشف عن هوياتهم والغرض من التحويلات المالية وهوية المستفيد النهائي ومعلومات حساسة أخرى.
وبدلاً من ذلك، لجأوا إلى السوق السوداء وغيرها من الطرق غير الرسمية للحصول على الدولارات، مما أدى إلى ارتفاع كبير في تهريب الدولارات من العراق عن طريق البر، والحفاظ على ارتفاع أسعار الصرف.
وقال عضو في رابطة المصارف العراقية الخاصة لموقع Middle East Eye إن البنوك الخاصة تعاملت في السابق مع كل التفاصيل للعملاء الرئيسيين الذين يريدون استبدال الدينار في مزاد الدولار.
أقامت الحكومة العراقية عدة نقاط تفتيش جديدة مزودة بأجهزة سونار على طول الطريق من بغداد إلى كردستان. وفي غضون ذلك، شنت قوات الأمن حملة لتعقب تجار العملة والوسطاء الذين يشترون ويبيعون الدولارات في السوق السوداء. وقالت مصادر أمنية إن العديد منهم اعتُقِلوا بالفعل خلال الأيام القليلة الماضية.
وقد أثار ذلك فزع مكاتب الصرافة، التي تحصل على حصة يومية ثابتة من مزاد الدولار، فتوقف معظمها تقريباً عن بيع الدولارات إلا لعملاء معروفين خوفاً من الاعتقال.
وبالمثل، حُذِفَت مجموعات واتساب وفايبر التي استُخدِمَت لطلب الدولارات من البنوك والوسطاء الخاصة بدافع القلق من إمكانية اختراقها، حسبما قالت مصادر أمنية ومالية لموقع Middle East Eye.
ورغم ذلك، يُهرَّب ما لا يقل عن 70 مليون دولار يومياً من العراق عبر المنطقة الكردية، وفقاً لما قاله مصرفيون ومسؤولون عراقيون لموقع Middle East Eye.
استبدال المزاد
يعتمد اقتصاد العراق بشكل كبير على مبيعات النفط، والتي أُودِعَت لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ عام 2004. لاستخراج أمواله وتحويلها إلى دينار، يطلب البنك المركزي العراقي الدولار من الاحتياطي الفيدرالي، والذي يبيعه بعد ذلك للمصارف الخاصة وعدد قليل من المؤسسات المالية الأخرى من خلال مزاد الدولار اليومي.
ومع ذلك، ترى واشنطن أن هناك استمراراً لاستخدام مزاد الدولار لغسل الأموال وإمداد بلدان مثل سوريا وإيران، الخاضعة لعقوبات أمريكية شديدة، بالدولارات.
الفضيحة الأخيرة المعروفة باسم "سرقة القرن"، عندما اختُلِسَ 2.5 مليار دولار بشكل غير قانوني من حساب مصرفي للحكومة العراقية، وخضع لعملية غسيل من خلال البنوك الخاصة، بدت وكأنها القشة الأخيرة، ودفعت بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى إدخال شيكات جديدة على تحويلات الأموال المستخدمة في المزاد. رداً على ذلك، توقفت جميع البنوك الخاصة البالغ عددها 72، باستثناء القليل منها، عن استخدام المزاد.
لاستبدال مصدر الدولارات هذا، بدأ الناس في الاعتماد على السماسرة والمصرفيين الذين يمكنهم الحصول عليها، من خلال المزيد من الوسائل غير المشروعة. ووفقاً لبيانات البنك المركزي العراقي، هناك 1.094 شركة مرخصة للخدمات المصرفية والمالية. ومن بين هؤلاء، حصل 249 على تصنيف بنكي من A و81 على تصنيف B.
يحق لهذه الشركات المشاركة في المزاد بالدولار، بالأموال التي تؤمنها والمخصصة ظاهرياً للسلع المستوردة والطلبات المحلية، وتُحدَّد حصتهم الأسبوعية بالدولار على التصنيف المصرفي لكل شركة.
يمكن أن تحصل الشركة المصنفة "A" على مليون و800 ألف في الأسبوع، في حين أن الشركة المصنفة في التصنيف "B" تحصل على 750 ألف دولار، حسبما قال مصرفيون لموقع Middle East Eye.
ويقوم السماسرة الآن بشراء الدولارات من شركات الصرافة هذه ونقلها براً إلى كردستان. إذ قال ثلاثة من أصحاب شركات الصرافة والوساطة المالية ومسؤولون عراقيون لموقع Middle East Eye إن مجموعة من المسؤولين والسياسيين المحليين المؤثرين يأخذون هذه الدولارات عبر المعابر الحدودية إلى خارج البلاد.
وأخبر مالكو شركات الصرافة والسمسرة المالية موقع Middle East Eye أن تكلفة تحويل الأموال إلى الخارج قد زادت مرة ونصف المرة خلال الأسبوع الماضي، حيث أصبحت العملية "أصعب وأكثر تكلفة".
وقالت مصادر للموقع البريطاني إن الرسوم التي يتقاضاها السماسرة عند إخراجهم نقداً من العراق لا تزيد عن 15 ألف دولار لكل مليون دولار. لكن وفقاً لثلاثة من مالكي شركات الصرافة والسمسرة المالية واثنين من المصرفيين، فإن الأمر يكلف 184 ألف دولار لتبادل مليون دولار في صفقة لإخراج هذه الأموال من العراق -أكثر بكثير من السعر المحلي.
في الواقع، قبل أن يبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي إجراءات المراجعة، كانت بعض شركات الصرافة تتقاضى 80 دولاراً فقط لكل 10 آلاف دولار تُحوَّل إلى الخارج، وفي بعض الأحيان تُقدَّم الخدمة مجاناً للعملاء.
مع هذه الأنواع من النفقات العامة الجديدة، يشير ذلك إلى أن الأشخاص الذين يحاولون إخراج الدولارات من العراق هم إما دول مجاورة تعاني من مشاكل السيولة وإما أشخاص يحتاجون إلى غسيل أموالهم.
العراقيون يدفعون الثمن
لكن تأثير هذه التطورات المالية على العراقيين كان قاسياً للغاية، وأواخر يناير/كانون الثاني، تظاهر مئات العراقيين بالقرب من مقر البنك المركزي في بغداد؛ للاحتجاج على هبوط قيمة الدينار العراقي أمام الدولار، والذي استتبعه ارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية المستوردة، بحسب رويترز.
إذ لوح المئات من مناطق مختلفة بالعراق بأعلام البلاد أو رفعوا لافتات تطالب بتدخل الحكومة لإيقاف تراجع الدينار إلى نحو 1620 ديناراً مقابل الدولار، هبوطاً من 1470 ديناراً مقابل الدولار في نوفمبر/تشرين. وطلبت إحدى اللافتات المرفوعة بوقف "سرقة" دول مجاورة للدولارات من العراق، وذلك في إشارة إلى إيران.
وانتشر العشرات من أفراد شرطة مكافحة الشغب حول مبنى البنك المركزي وفي الشوارع المحيطة، لكن لم ترد أنباء عن وقوع اشتباكات أو حدوث اعتقالات.
وزارة الخزانة الأمريكية، من جانبها، قالت السبت 4 فبراير/شباط إن الولايات المتحدة ترحب بجهود البنك المركزي العراقي بشأن إصلاحات القطاع المصرفي، فضلاً عن الالتزام بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وكان براين نيلسون، كبير مسؤولي العقوبات في وزارة الخزانة، قد التقى مع محافظ البنك المركزي العراقي علي العلاق في إسطنبول الجمعة 3 فبراير/شباط. وجاء في بيان عن الاجتماع مع العلاق: "رحب وكيل الوزارة نيلسون بتعامل المحافظ العلاق مع هذه القضايا"، مشيراً إلى "التعاون والشراكة الطويلة الأمد بين وزارة الخزانة والبنك المركزي العراقي، لا سيما فيما يتعلق بمنع الجهات غير المشروعة والفاسدة من استغلال النظام المالي الدولي".
وأضاف البيان أن نيلسون أقر بتفاني العراق "الراسخ" في تحسين معايير الامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وعرض التعاون المستمر في تحديث القطاع المصرفي.
جاء ذلك في إطار زيارة نيلسون لتركيا والشرق الأوسط لتحذير البلدان والشركات من أنها قد تخسر التعامل مع أسواق دول مجموعة السبع إذا تعاملت مع كيانات خاضعة للقيود الأمريكية، في الوقت الذي تتخذ فيه واشنطن إجراءات صارمة تجاه المحاولات الروسية للتهرب من العقوبات المفروضة عليها بسبب حربها في أوكرانيا.