لا تزال الحرب متواصلة في أوكرانيا، ومعها إراقة الدماء، بلا نهاية تلوح في الأفق.. وتشير التقديرات إلى أن الضحايا يزيد عددهم على نصف مليون، فضلاً عن خسائر التصعيد المصاحب وآثاره الممتدة إلى جميع أنحاء العالم.
ولذلك، يقول موقع Responsible Statecraft الأمريكي إنه يجب أن يبدأ القادة والزعماء في البحث عن سبل حقيقية لإيقاف هذا النزيف من الخسائر البشرية. وقد يكون "السيناريو الكوري" أحسن فرصة لحقن دماء الشعب الأوكراني وأيسر سبيل للعودة إلى الاستقرار العالمي. فهذا المسار يتضمن إيقاف القتال من الجانبين بهدنةٍ فورية على طول خط التماس الحالي، وتنحية معظم العقبات التي تعترض طريق السلام.
ما هو "الحل الكوري" الذي قد يدفع الغرب أوكرانيا نحوه؟
وُقعت "اتفاقية الهدنة الكورية" بين جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (الشمالية) والولايات المتحدة بوساطةٍ من الأمم المتحدة في 27 يوليو/تموز 1953، وتضمنت "إيقافاً كاملاً لجميع الأعمال العدائية بين القوات المسلحة للجانبين"، وهي اتفاقية لوقف إطلاق النار وليست معاهدة سلام، وقد تمخض عنها إقرار منطقة منزوعة السلاح بين الدولتين وإعادة أسرى الحرب إلى أوطانهم.
أثبتت القوات المسلحة الأوكرانية في الخريف قدرتها على شن هجمات واسعة النطاق، ومع ذلك فإن هذه الهجمات لم تسفر عن انهيار الجيش الروسي كما توقع بعض الخبراء، بل عاد إلى الهجوم وتمكن من استئناف الزحف في معظم جبهات القتال.
ويختلف الخبراء بين من يقول إن الاستيلاء الروسي على البلدات المحيطة بجبهة باخموت تمهيدٌ لهجومٍ روسي على هذه الجبهة، وثانٍ يذهب إلى أن استخدام قوات فاغنر يدل على أنها تدابير لإنهاك القوات المسلحة الأوكرانية والتمهيد لهجوم روسي أكبر على الأجنحة، وثالث يرى أن الهجوم الروسي قد يأتي عبر بيلاروسيا أو من الجنوب على طول نهر دنيبر باتجاه زابوريجيا.
مع ذلك، لا يمكن أن نستبعد احتمال أن يكون الجيش الروسي قد اختار أكثر الأهداف تحفظاً وأقربها إلى إمكان التحقق على المدى القريب، وهو السعي تدريجياً ومنهجياً إلى تأمين المناطق التي ضمها في دونباس.
من جهة أخرى، فإن النقاشات المحتدمة في الصحافة الغربية حول إمداد أوكرانيا بالدبابات، وما أثارته هذه المسألة من شقاق في العلاقات الأمريكية الألمانية، ربما تنطوي على أهمية رمزية وسياسية تفوق الأهمية المفترضة للمزاعم بأن تسليم الدبابات يعني تحولاً "يغير مسار الأمور" في مساعي الغرب المتعلقة بتعزيز القوات الأوكرانية. فقد يحتاج الأمر إلى عدة أشهر قبل ظهور الدبابات الأمريكية في البلاد لأسباب كثيرة، منها التدريبات المكثفة المطلوبة.
الدعم الغربي حتى اللحظة قد لا يغير من مسار الحرب في أوكرانيا الكثير
يقول الموقع الأمريكي إن ثمة أسباباً كثيرة للشك في أن إمداد أوكرانيا بالدبابات، ومنها دبابات ليوبارد الألمانية التي قد تصل في مارس/آذار، سيفضي إلى تغيير مسار المعركة تغييراً كبيراً. ويكفي هنا أن نستحضر أن معظم خبراء الدراسات الاستراتيجية كانوا يشككون منذ عام واحد في أهمية الدبابات بالجيوش الحديثة، بل نفى بعضهم أي قيمة لها في المستقبل، بالاستناد إلى انتشار الطائرات المسيرة والصواريخ المحمولة على الكتف.
في غضون ذلك، لم تفتُر نيران المدفعية الروسية، بل زادت ضرباتها دقة بعد الاستعانة بأدوات الرصد التي توفرها الطائرات المسيرة. وبرهنت طائرات الكاميكازي (الانتحارية)، مثل لانسيت الروسية، على نجاعة مشاركتها. ولا تزال طائرات الهليكوبتر الهجومية والطائرات ذات الأجنحة الثابتة تعمل على طول الجبهة.
يشكك بعض الخبراء أيضاً في فاعلية دبابات الناتو، لأوزانها الثقيلة وقلة ملاءمتها للأراضي الطينية في الربيع الأوكراني، فضلاً عن صعوبة الصيانة والتكاليف العالية للوقود. ومع ذلك، فإن هذا كله لا يعني أن الأوكرانيين لا يمكنهم استخدام الدبابات في دور متطور لتكون كالمدفعية المتجولة بدلاً من الاعتماد عليها على نمط تشكيلات الصدمة سهلة الاستهداف. وقد أبدى الجيش الأوكراني بالفعل براعة واضحة في القتال، ونجح في استخدام المدرعات الخفيفة بتكتيكات مبتكرة وجريئة خلال حملته لاستعادة خاركيف في الخريف.
على الرغم من الأسباب الباعثة على الشك، فإننا لا يمكن أن نستبعد الاحتمال القائل بأن دبابات الناتو قد تكون عنصراً "يغير مسار المعركة" ويؤدي إلى هزيمة حاسمة للقوات الروسية، خاصة إذا حظيت أوكرانيا بقوة جوية تحمي دباباتها ومدرعاتها. لكن الهزيمة الروسية قد تستدعي لجوء الكرملين إلى ضربات نووية تكتيكية ضد أوكرانيا.
ويجدر بنا أن نتذكر أنه لم يمضِ إلا بضعة أشهر على تحذير الرئيس الأمريكي جو بايدن من أن العالم أقرب إلى كارثة الحرب النووية من أي وقت مضى منذ أزمة الصواريخ الكوبية. وقد نُقل عن أندريه غوروليوف، نائب مجلس الدوما الروسي، في 16 يناير/كانون الثاني، تحذيره من أن "استخدام أوكرانيا للدبابات الألمانية الثقيلة قد يدفع الجيش الروسي لشنِّ هجوم نووي".
تداولت الصحافة العسكرية الروسية تحذيرات صادرة عن عدة مسؤولين من استخدام الأسلحة النووية خلال الأيام الماضية. ولكنَّنا إذا أمعنا النظر فسنجد أن وسائل الإعلام الروسية استفاضت في نقل تصريحات مماثلة منذ الصيف، ولم يتحقق أي منها. ومع ذلك فإنها تظل تحذيرات مقلقة على أقل تقدير.
"الحل الكوري قد يكون هو الحل الأنسب للأزمة الأوكرانية"
يقول موقع Responsible Statecraft إنه قبل سبعين عاماً، شهدت شبه الجزيرة الكورية أنهاراً مماثلة من الدماء والأرواح المزهقة بلا داعٍ ولا طائل، وقُتل عشرات الآلاف من الرجال في خنادق القتال. واستعان الجانبان بالقاذفات الثقيلة والمدفعية عالية التقنية، ومع ذلك لم تتقدم الخطوط الأمامية للقتال تقدماً يُعتد به خلال عامين من الحرب. وتعددت التهديدات النووية. وطالت الحرب بعض الوقت حتى اقتنع الجانب الشيوعي بأنها لن تجدي نفعاً. وأراد الغرب أيضاً آنذاك "نظاماً قائماً على القواعد"، لكن العالم أكثر اضطراباً من الانصياع لهذا المفهوم الصارم، وما زالت الحال كذلك اليوم.
ترشح الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور للرئاسة في خريف 1952، وطالب خلال حملته بإنهاء الحرب الكورية. ولما كان أيزنهاور قائداً سابقاً لجيش الولايات المتحدة وقوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، فقد كان على دراية كاملة بالآثار المدمرة للحرب ومعاناة الواقعين فيها، وأدرك أنه لا غنى عن إنهاء هذه النزاع إنهاء تاماً.
على الرغم من الأزمات المتوالية وتعاقب الاضطرابات بين العالم الغربي والعالم الشيوعي، فقد وقف أيزنهاور في صف السلام والتسوية. ولم يكن الداعي إلى هذا الموقف داعياً أيديولوجياً، بل كانت أسباب براغماتية واقعية وميلاً لدى أيزنهاور إلى التوجه السلمي.
والآن، لا شيء يمنع إنهاء الحرب في أوكرانيا بالطريقة ذاتها التي أُنهيت بها الحرب الكورية. وفي ظل اقتراب الذكرى السبعين للهدنة بين الكوريتين في يوليو/تموز 2023، فإن بايدن لديه فرصة سانحة ليضطلع بدور "صانع السلام". والواقع أن بعض الخبراء الاستراتيجيين الروس قد تخلوا بالفعل عن الأهداف العسكرية المتطرفة التي انتهجوها في البداية ويناقشون الآن تطبيق "السيناريو الكوري" في أوكرانيا مناقشة جدية.
وعلى الرغم من أن بعض الخبراء الروس أشاروا إلى أن الحرب الكورية كان ضحاياها أكثر عدداً من حرب أوكرانيا، فإن ذلك لم يجعلهم يستبعدون القول إنه "لا يزال من الممكن إيقاف الحرب بوساطةٍ من الأمم المتحدة".
هل ينهي هذا الخيار مشاكل أوكرانيا؟
يقول الموقع الأمريكي: صحيح أن إقرار الهدنة في أوكرانيا، على غرار الهدنة بين الكوريتين، سيؤجل الكثير من المشكلات الصعبة، مثل قضية التعويضات وترتيبات التجارة والسفر التي يتضرر منها كثير من الناس في البلدين، إلا أن أكبر مزية لهذا الحل هي الوقف الفوري للقتال، وإقرار التواصل سبيلاً للتعامل بين الجانبين في المستقبل المنظور. ومن المزايا الأخرى لهذا النهج، أن اتفاق الهدنة سيتضمن منطقة محايدة (مثل خط العرض 38 الواقع بين الكوريتين) وانسحاب القوات العسكرية من كلا الجانبين في غضون بضعة أشهر.
والسؤال: هل يستجيب قادة روسيا وأوكرانيا لهذا النداء ويحضرون إلى طاولة المفاوضات سعياً إلى هدنة على النمط الكوري؟ بوتين هو القائد الذي شنَّ الحرب ومن ثم يقع عليه أكبر قدر من المسؤولية في هذه المأساة، وهو يدرك بالتأكيد أن إرثه بالكامل في خطر شديد، وأن معارضة الحرب تتزايد في بلاده، ومن ثم فإن عليه أن يضع حداً لها في أقرب وقت ممكن.
وعلى الجانب الآخر، فقد كان السبب الذي انتُخب من أجله الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في الأصل هو السعي للسلام مع روسيا، أما وقد اشتعلت الحرب فإنه يدرك أن بلاده عانت خسائر شديدة الوطأة فيها، وأن الوقت قد حان للانتقال إلى مهمة إعادة البناء التي لا تقل مشقة عن الحرب. وفي الوقت نفسه، يجب أن يحث العاملون في المجال الإنساني قادة العالم الشجعان على التوسط ودعوة بوتين وزيلينسكي إلى التفكير في حل مماثل لـ"اتفاق الهدنة الكوري".