على بعد شهور قليلة من الانتخابات النيابية والرئاسية التي ستعقد في تركيا يوم 14 مايو/أيار 2023؛ يظهر الدور البارز للصوت الكردي الذي يقدر بحوالي 15 مليون صوت ناخب من إجمالي 65 مليون شخص لهم حق التصويت في الانتخابات القادمة.
ووسط التوقعات بأن تصويت الأكراد يمكن أن يكون حاسماً في تحديد الرئيس القادم في الانتخابات التركية، وتحديد الغالبية البرلمانية داخل مجلس النواب التركي، تحاول التحالفات السياسية القائمة استقطاب هذه الأصوات لصالحها.
كيف تبدو الكتلة التصويتية للأكراد في تركيا؟
الكتلة التصويتية للأكراد ليست متجانسة، ولا تتحرك بأكملها في نفس الاتجاه. هذا ما يلخصه الباحث ريها روهافي أوغلو، الذي يجري دراسات ميدانية حول السلوك الانتخابي للناخبين الأكراد منذ سنوات.
وبحسب روهافي أوغلو، فإن السلوك الانتخابي العام للناخبين الأكراد يتم على النحو التالي: "وفقاً لانتخابات عام 2018، إذا كان هناك 100 كردي يعيشون في تركيا، أو بشكل أكثر دقة، إذا كان هناك 100 كردي يصوتون، فسيصوت حوالي 30 منهم لصالح حزب العدالة والتنمية، و10-11 لحزب الشعب الجمهوري، وقرابة الستين لحزب الشعوب الديمقراطية".
من هنا، يسعى كل طرف سياسي إلى الحفاظ على كتلته التصويتية من جهة، ومحاولة زيادة هذه الكتلة عبر استقطاب مزيد من أسواط الأكراد لصالحه.
أحزاب متفرقة
مع اقتراب موعد انتخابات 2023، يستمر البحث عن تحالفات بين الأحزاب والحركات السياسية؛ في ظل وجود 3 تحالفات في تركيا حالياً، هي تحالف الشعب الذي شكله حزب الحركة القومية وحزب العدالة والتنمية، وتحالف الأمة الذي شكلته أحزاب المعارضة، وتحالف العمل والحرية الذي شكله حزب الشعوب الديمقراطي.
إلى جانب ذلك، يريد حزب الشعوب الديمقراطي الذي يعد بمثابة زعيم الأحزاب الكردية، دخول انتخابات 2023 من خلال تجديد التحالف الذي شكله مع 7 أحزاب وحركات كردية في 2018.
وبصرف النظر عن حزب الشعوب الديمقراطي نفسه، يوجد حالياً حزب مؤتمر المجتمع الديمقراطي وحزب المناطق الديمقراطية وحزب آزادي، والرابطة الديمقراطية الثورية الكردية، وحزب الإنسان والحرية، والحزب الشيوعي الكردستاني، ومنصة الديمقراطيين الكردستاني، والحزب الديمقراطي الكردستاني – تركيا، وجميعها تتشارك في التحالف المسمى "التحالف الكردستاني".
استطلاعات الرأي
وأجرى مركز "بوصلة" التركي مسحاً استطلاعياً بين 23 و27 ديسمبر/كانون الأول 2023، شمل 2811 شخصاً في مدينة ديار بكر ذات الغالبية الكردية. ووفقاً للاستطلاع، حصل حزب الشعوب الديمقراطي على 63.8%، في انخفاض عن انتخابات 2018 التي حصل فيها على 65.5%.
وحصل حزب العدالة والتنمية على نسبة 20.3%، في انخفاض طفيف عن نتائج انتخابات 2018، التي حصل فيها الحزب الحاكم على 21.5% من الأصوات في ديار بكر. وبلغت نسبة حزب الشعب الجمهوري 4.7%، في ارتفاع عن الانتخابات السابقة التي حصد فيها 2.5%.
أما حزب الجيد فقد حصل على 3.2%، بعد حصوله على 2.8% من أصوات الناخبين الأكراد في ديار بكر عام 2018. وبلغت شعبية حزب "الديمقراطية والتنمية" 2.1%. أما حزب المستقبل فقد حصل على 1.8%، فيما حصل حزب البلد الذي أسسه محرم إنجه عقب استقالته من حزب الشعب الجمهوري؛ على 1.7% من أصوات الناخبين في ديار بكر.
مناورة الحياد
قبل أيام، أعلنت الرئيسة المشاركة لحزب الشعوب الديمقراطية؛ بيرفين بولدان، أن حزبها سيدخل الانتخابات المقبلة بـ"مرشحه الخاص"، في محاولة لإظهار أن الحزب سيبتعد عن دعم الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" من جهة، وكذلك "طاولة الستة" التي شكلتها عدة أحزاب من المعارضة، في فبراير/شباط 2022.
ويأتي عدم تنسيق المعارضة مع الحزب الكردي بسبب وجهات النظر المتضاربة لأحزاب "الطاولة الستة"، التي ظهرت إلى العلن أواخر العام الماضي، على لسان زعيمة "حزب الجيد" ذي الجذور القومية، ميرال أكشينار.
ففي حين قال نائب "حزب الشعب الجمهوري" في إسطنبول، غورسيل تيكين، إن "حزب الشعوب يمكن أن يمنح وزارة" في حال تم الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ردّت أكشينار في سبتمبر/أيلول 2022 بالقول: "لن نكون على الطاولة حيث يوجد حزب الشعوب الديمقراطي".
طبيعة قبلية
من جانبه، يرى الكاتب التركي صالح كمال في حديثه لـ"عربي بوست" أنه منذ تأسيس الجمهورية التركية لم تختلف توجهات الأكراد كثيراً، والتي تعتمد على اتخاذ قرار جماعي -عائلياً أو عشائرياً- لتحديد الحزب الذي ستصوت العائلة له.
ويشير كمال إلى أن المجتمع الكردي بطبعه هو مجتمع محافظ ومتعصب في التقاليد، لذلك دائماً يؤيد الأحزاب اليمينية المحافظة كالعدالة والتنمية. وجاء تصويت الأكراد تاريخياً – بحسب الكاتب التركي – في هذا الاتجاه، فدعموا عدنان مندرس وسليمان ديميريل ونجم الدين أربكان وتورغوت أوزال وغيره. واستمر هذا الوضع حتى الثمانينات.
وأضاف كمال أن الأمور تلك تغيرت خلال الأحكام العرفية التي شهدتها البلاد في الحكم العسكري والانقلابات التي منعت اللغة الكردية في معظم نواحي الحياة في تركيا؛ إضافة إلى الضغوط الثقافية والاجتماعية في النظام الانقلابي، التي أدت إلى خلق وعي قومي خارج نطاق مفهوم "الأمة الإسلامية في تركيا" في المجتمع الكردي لتدخل التوجهات اليسارية في الساحة الكردية.
بل استغل "حزب العمال الكردستاني" – المصنف إرهابياً في تركيا – ممارسات نظام الانقلاب الخاطئة بحق الأكراد ليبدأ عملياته السياسية والمسلحة في مطلع الثمانينيات.
ويرى الكاتب التركي أن العملية السياسية التي قام بها الجناح السياسي لـ"حزب العمال الكردستاني" تعطلت بعد إصرار النائبة ليلى زانا على أداء اليمين الدستورية في البرلمان التركي باللغة الكردية. الأمر الذي قسم المجتمع التركي آنذاك إلى قسمين؛ إذ أيد البعض فكرة احترام اللغة الكردية والسماح للتعامل معها كلغة غير رسمية. بينما رفض آخرون ذلك بشكل قاطع منكرين وجود لغة كردية وشعب كردي، لتكون التوجهات الكردية بعد الثمانينيات مبنية على حق الوجود.
وأوضح كمال أن الكردي يصوت على الحزب الذي يعترف بالشعب الكردي ولغته وثقافته، وهو ما ظهر في الانتخابات الأولى التي خاضها حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان.
مناصفة الأصوات
من جانبه، يرى أستاذ القانون في جامعة دجلة والباحث في الشأن الكردي الدكتور وهاب جوشكن في حديثه لـ"عربي بوست" أنه يتم تقاسم نحو 85-90% من أصوات الناخبين الأكراد بين حزب الشعوب الديمقراطي وحزب العدالة والتنمية، وهو ما ظهر على مدى السنوات العشرين الماضية.
ويرجع جوشكن تمكنَ حزب العدالة والتنمية من الحصول على أصوات الأكراد في المنطقة لسببين مختلفين حتى الآن؛ أولهما يعود للسياسات الخدمية للعدالة والتنمية في المنطقة؛ لا سيما الأعمال التي نفذت في الفترة الأولى من حزب العدالة والتنمية وأثرت في حياة الناس بشكل مباشر.
وثاني الأسباب بحسب أستاذ القانون في جامعة دجلة هو الرؤية التي قدمها حزب العدالة والتنمية في أيامه الأولى لحل القضية الكردية، ونفذ نقداً للسياسة الجمهورية التقليدية، ووعد باتخاذ خطوات في هذا الاتجاه، لهذا السبب، وفي سنواته الأولى، كان حزب العدالة والتنمية قادراً على حصد الأصوات من حزب الشعوب الديمقراطي.
أما فيما يخص سبب حصول حزب الشعوب الديمقراطي على الأصوات، فيرى جوشكن أنه جاء بسبب النظرة إليه على أنه حزب يحمل الهوية الكردية، ويرى الناس فيه الفرصة لحل القضية الكردية من خلال الوسائل الديمقراطية. ويشير إلى أنه طالما استمرت القضية الكردية بلا حلول جذرية، فسيواصل حزب الشعوب الديمقراطي حماية قاعدته وقوته الانتخابية.
القضية الكردية
ويرى أستاذ القانون أن الأحزاب السياسية التركية الأخرى لا تملك رؤية لحل القضية الكردية ولا تتعامل مع مشاكل الناخبين الأكراد، وهذا ما جعل حزب الشعوب الديمقراطي الحزب الوحيد الذي يلعب في هذه المنطقة والتفرد في هذا المجال.
لكنَّ وهاب جوشكن أوضح في حديثه لـ"عربي بوست" أن السنوات الخمس الأخيرة شهدت انخفاضاً في الأصوات التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية من الناخبين الأكراد بشكل كبير. يخسر الحزب الحاكم الأصوات في جميع أنحاء تركيا، لكن معدل الأصوات المفقودة من الناخبين الأكراد أعلى من المعدل الذي يخسره في تركيا بشكل عام.
ويرجع جوشكن ذلك إلى تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية، في انقطاع خطير عن التواصل مع الأصوات الكردية التي لا تفضل التصويت للأحزاب القومية المتشددة؛ خاصة في صفوف الأكراد المحافظين والمتدينين، ولهذا قد تشهد انتخابات 2023 انخفاضاً خطيراً في الأصوات الكردية التي يحصل عليها حزب العدالة والتنمية.
ويضيف جوشكن أن تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية؛ أظهر على الساحة السياسية التركية حزبين جديدين من داخل حزب العدالة والتنمية هما المستقبل والديمقراطية والتنمية بقيادة أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان؛ ما قد يشكلان بديلاً مقبولاً للعدالة والتنمية لدى الأكراد.
الأكراد ومرشح المعارضة
ويرى أستاذ القانون في جامعة دجلة وهاب جوشكن أن الناخبين الأكراد أقرب إلى مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية، لكن حزب الشعوب الديمقراطي يتوقع حواراً من المعارضة بهذا المعنى حتى يتسنى له دعم مرشح المعارضة.
ويتابع جوشكن أن المعارضة تركت دعوات حزب الشعوب الديمقراطي للحوار دون إجابة لتفادي رد فعل من جانب القطاع القومي المشارك في الطاولة السداسية عبر حزب الجيد برئاسة ميرال أكشينار؛ لهذا السبب، أشار حزب الشعوب الديمقراطي إلى أنه يمكنه تسمية مرشحه الخاص للانتخابات الرئاسية.
ويوضح جوشكن أنه إذا لم يدعم حزب الشعوب الديمقراطي مرشح المعارضة، فمن المرجح أن تذهب الانتخابات الرئاسية إلى الجولة الثانية، وهذا يوضح مدى أهمية حصول كل من الحكومة والمعارضة على أصوات الناخبين الأكراد، الذين يشكلون جزءاً كبيراً من السكان.
ويرى جوشكن أنه إذا انتقلت الانتخابات إلى الجولة الثانية، حيث سيتنافس مرشحان فقط، فسيتعين على الحكومة والمعارضة التفاوض مع حزب الشعوب الديمقراطي للحصول على أصوات الأكراد. كما يتعين على المعارضة تسمية مرشح يمكن أن يصوت له ناخبو حزب الشعوب الديمقراطي، كما يرى جوشكن.
وبينما يتوقع البعض أن تحسم الانتخابات من الجولة الأولى، يرى آخرون أن هذا الأمر مستبعد، إذ ستشهد جولتين أولى وثانية. ويجب أن يحصل المرشحون على نسبة 50+1 من الأصوات على الأقل ليتم انتخابهم، لكن في حال لم يحصل أي مرشح على الأغلبية المطلقة في الجولة الأولى، تُجرى جولة ثانية بعد 15 يوماً، بين المرشحين اللذين حصلا على أكبر عدد من الأصوات أولاً. وبعد ذلك سينتخب المرشح الذي يحصل على أغلبية الأصوات الصحيحة رئيساً.