لأول مرة منذ السبعينيات، أصبحت سياسات الدولة التي تدعو إلى توطين العمالة في دول الخليج تهدد مستقبل المهاجرين المصريين في ممالك النفط.
فعام 2020، كانت الإمارات والكويت وقطر والسعودية تستضيف 64% من إجمالي المصريين في الخارج، ولكن يتوقع أن ينخفض هذا الرقم انخفاضاً كبيراً في العقد المقبل.
واستمرت أعداد الراحلين في الارتفاع السنوات الأخيرة، فقد صدر قرار في الكويت بإعادة 2000 مصري إلى بلادهم عام 2019.
وفي السعودية، صدرت تعليمات بإعادة 30 ألف مصري إلى بلادهم عام 2017، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
وعام 2020، وضعت السلطات الكويتية خطة لتوطين الوظائف والتركيبة السكانية في البلاد، على أمل تحقيق "نسبة 70% من الكويتيين إلى نسبة 30% من المغتربين" بحلول عام 2030.
كان يوسف (56 عاماً) يعمل في الكويت منذ عقدين حين صدر قرار فجائي بترحيله بعد طرده من وظيفته لسبب غير مفهوم.
"كل شيء تغير"
وقال لموقع Middle East Eye: "بين ليلة وضحاها يتغير كل شيء، فكفيلي أنهى عقدي دون سبب واضح واضطررت إلى العودة بسرعة إلى مصر".
وقال: "في السنوات الأخيرة، يجد المهاجرون المصريون أنفسهم في هذا الموقف: إما أن يقرر صاحب العمل التخلص منهم دون سابق إنذار، أو تجبرهم سياسات التوطين على ذلك".
وأضاف: "نحن المصريين لم يعد مرحباً بنا في دول الخليج، الهجرة إلى هناك صارت أصعب من قبل".
وبالمثل، فرؤية 2030 التي وضعها محمد بن سلمان في السعودية عام 2016 تُلزم الشركات بزيادة عدد الموظفين السعوديين وإلا فستتعرض لعقوبات.
ضرائب على "الهواء الذي يتنفسونه"
يرى أحد الخريجين المصريين (25 عاماً) الذي أمضى طفولته في الكويت أن سياسات التوطين تغذيها كراهية الأجانب.
وقال شريطة عدم الكشف عن هويته: "بعض الكويتيين كانوا يشعروننا بأننا أقل منهم. والكويتيون يستخدمون صفة "مصري" حرفياً للإشارة إلى شخص غير متعلم، والقوانين معادية للأجانب".
وحتى أغسطس/آب عام 2021، على سبيل المثال، لم يكن يُسمح لغير السعوديين بامتلاك عقارات في المملكة. أما الكويت فلا تزال تعمل بقانون مماثل.
وأضاف الخريج: "وخلال العشر سنوات الماضية، بدأ كثير من الكويتيين في تحميل المهاجرين مسؤولية جميع مشكلاتهم والمطالبة بإعادتنا إلى بلداننا الأصلية".
وعام 2018، دعت النائبة الكويتية صفاء الهاشم المهاجرين المقيمين في البلاد إلى دفع ضريبة على "الهواء الذي يتنفسونه".
وبعد عام، طالب عدد من الساسة الكويتيين الحكومة بترحيل نصف المغتربين الذين يعيشون في البلاد والذين يزيد عددهم على ثلاثة ملايين.
ويذكر عمر، طالب الطب الذي نشأ في السعودية قبل أن يعود إلى مصر في سن 15 عاماً، شعوره بتنامي العدائية تجاه المغتربين.
وقال لموقع Middle East Eye: "الشعور بأنك مختلف قوي جداً بين المهاجرين في المملكة. كراهية الأجانب حاضرة في كل مكان، على مستوى الأفراد والدولة. فحتى العام الماضي، مثلاً، لم يكن يُسمح للأجانب بامتلاك العقارات في السعودية. وهذا الشعور بأنك مختلف يعني أننا لا نشعر بأننا في وطننا أبداً".
ومن بين القوانين التي وضعتها ممالك النفط لتنظيم الهجرة نظام الكفالة المثير للجدل، الذي يُلزم العاملين بإيجاد مواطن محلي ليتولى مسؤولية دخولهم إلى البلاد ويكفلهم طوال فترة إقامتهم.
وقبل إدخال التعديلات الأخيرة في قوانين السعودية وقطر، كان لابد من استشارة الكفيل -الذي يكون صاحب العمل عادة- قبل أن يتمكن موظفه من مغادرة البلاد، وهذا كان يمنع الموظفين الذين يتعرضون للاستغلال من المغادرة.
وقال يوسف لموقع Middle East Eye: "جميعنا خاضعون لإرادة الكفيل، فهو من يملي القواعد. وإذا لم يمنحنا الإذن بالسفر، لا يمكننا فعل أي شيء، هكذا تسير الأمور. عندي صديق لم يتمكن من العودة إلى مصر لسنوات؛ لأن صاحب العمل رفض عودته نكاية به".
البحث عن هوية
دفعت هذه المشاعر المرهِقة، والأمل في التجديد الاقتصادي والاجتماعي الذي أحدثه الربيع العربي، محمد إلى العودة بمفرده إلى القاهرة عام 2013 لمواصلة دراسته، تاركًا أسرته خلفه.
وقال: "لم يعد بإمكاني تحمل الطريقة التي كنت أُعامل بها، كنت أشعر بأن عليّ أن أنسى هويتي العرقية لأقبل بوضع كهذا. بعض زملائي المصريين هناك تخلوا عن لهجتهم الأصلية وتحولوا إلى التحدث باللهجة الشامية التي يقبلها الكويتيون أكثر من المصرية".
وأضاف: "وحين عدت إلى مصر، شعرت أنني ولدت من جديد. أخيراً أصبحت حيث كان ينبغي أن أكون. لن أعرض نفسي لآلام الغربة مرة أخرى أبداً".
لكن الاستقرار في مصر لم يكن سهلاً على بعض أبناء المهاجرين كما كان متوقعاً.
تقول سلمى، طالبة الطب البالغة من العمر 24 عاماً، لموقع Middle East Eye: "حين عدت إلى هنا في سن الـ 16 لمواصلة دراستي، كان عليْ أن أعتاد العيش في بلد لم أكن أعرف عنه أي شيء. أدركت مدى اتساع الهوة بيني وبين من هم في عمري، ثقافتهم ومصطلحاتهم كانت غريبة عني. كنت غريبة في بلدي".
ويعاني عمر شعوراً مماثلاً: "لم أشعر أني مصري تماماً في السعودية، لأنني كنت بعيد جداً عن وطني. ولكن حين عدت مع عائلتي لأستقر في مصر، لم أشعر بأنني مصري أيضاً بسبب الفجوة في اللغة والقيم والتجارب بيني وبين أبناء وطني".
وهذا البحث الدائم عن الهوية هو ما ألهم فكرة معرض "خرج والمفروض يعد"، الذي يعد أول معرض فني عن المهاجرين المصريين في الخليج.
تقول فرح حلابة، مبتكرة المعرض، الذي افتتح في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إن "تجربة الهجرة المرهقة لا تحظى بتمثيل كبير في المجالات الأكاديمية والفنية".
وقالت لموقع Middle East Eye: "جميع المصريين لديهم أفراد في عائلاتهم يعملون في الخليج، هذه تجربة طبيعية جداً، لكن التوثيق لهذا الموضوع شحيح، والصورة المأخوذة عن المصريين المغتربين هزلية جداً. فهم في الخليج إما متطرفون دينياً أو أثرياء جداً".
وأضافت: "يعاني المصري المغترب في الخليج ضغطاً هائلاً ليحقق نجاحاً مادياً، وحين لا يتمكن من ذلك، يعامله المجتمع على أنه حالة شاذة: فلم تغادر بلدك وحسب، بل ودون جدوى".
ويرى عمر، الذي نشأ في بيئة متعددة الثقافات في السعودية، أن تجربته في الخارج نعمة ونقمة.
ويقول: "اقتنعت متاخراً بأن نشأتي في بلدي الأصلي كانت ستوفر عليّ صدمات كثيرة. لكنني كنت محظوظاً بما يكفي لأدرس في مدرسة دولية في الخليج وهذا أتاح لي الوصول إلى العديد من الامتيازات والفرص في مصر".
وأضاف: "قدرتي على التحدث باللغة الإنجليزية، ورأسمالي الاقتصادي والثقافي، وانفتاحي على الآخرين، كل هذا أصبح ممكناً بفضل تجربتي في الهجرة. وأنا، وإن كنت لا أتمنى أن يمر أي شخص بهذه التجربة -بسبب ما تثيره من مشاعر ازدواج الهوية المزعجة- فقد جعلتني أيضاً ما أنا عليه اليوم".