يطرح قرار الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا إقالة قائد الجيش، في أعقاب محاولة الانقلاب التي قام بها أنصار الرئيس السابق بولسونارو، تساؤلات هامة بشأن العلاقة بين الرئيس اليساري والمؤسسة العسكرية صاحبة النفوذ الضخم، فأي منهما أقرب لحسم الأمور لصالحه؟
كان دا سيلفا قد قرر، السبت 21 يناير/كانون الثاني، إقالة قائد الجيش البرازيلي، خوليو سيزار دي أرودا، كما بدأ الزعيم اليساري "مراجعة عميقة" للمؤسسة العسكرية، بعد أن أعرب عن عدم ثقته ببعض المسؤولين المكلفين بتأمين مقار الرئاسة.
قرارات دا سيلفا، الذي عاد إلى رئاسة البرازيل مطلع العام الجاري، تأتي بعد نحو أسبوعين من قيام أنصار الرئيس السابق جايير بولسونارو باقتحام مبنى الكونغرس والقصر الرئاسي والمحكمة العليا في العاصمة برازيليا؛ اعتراضاً على خسارته الانتخابات الأخيرة.
ماذا يحدث في البرازيل؟
على طريقة اقتحام أنصار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، مبنى الكونغرس اعتراضاً على خسارته الانتخابات، جاء مشهد الآلاف من أنصار بولسونارو، الذين يرتدون ملابس صفراء وخضراء، وهم ينشرون الفوضى في العاصمة بعد أشهر من الانتخابات، تتويجاً لحملة ممتدة من الشحن والاستعداد من جانب أتباع تيار اليمين المتطرف، عبر منصات التواصل الاجتماعي، بحسب تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
وأثارت تلك الأحداث، التي وُصفت بأنها محاولة انقلاب فاشلة في البرازيل، تساؤلات عديدة بشأن موقف المؤسسة العسكرية بالبلاد، في ظل ما تتمتع به من نفوذ هائل وسيطرة كبيرة على أغلب مناحي الحياة في الدولة الأمريكية الجنوبية.
ويعتبر لولا دا سيلفا واحداً من أكثر رؤساء البرازيل السابقين شعبية على الإطلاق، كما أنه أحد أشهر السياسيين في البلاد وشهدت مسيرته السياسية تحولات درامية كبرى. تولى رئاسة البرازيل فترتين متتاليتين من 2003 وحتى 2011، قدَّم خلالهما برامج إصلاح اقتصادي ركزت على الجانب الاجتماعي وتحسين حياة الفقراء بصورة أكسبته شعبية هائلة.
كما كان دا سيلفا سياسياً عالمياً اهتم بالقضايا الدولية، خاصةً قضية التغير المناخي، واختارته مجلة التايم الأمريكية عام 2010، الزعيم الأكثر تأثيراً في العالم. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2011، أصيب دا سيلفا، الذي كان مدخناً لأكثر من 40 عاماً، بورم خبيث وخضع لعلاج كيماوي حتى شُفي بالكامل.
وفي عام 2017، تعرض دا سيلفا لمحاكمة بتهم الفساد وغسل الأموال، وصفها هو ومؤيدوه بأنها محاكمة سياسية، وحُكم عليه في الـ12 من يوليو/تموز من ذلك العام، بالسجن 9 سنوات ونصف السنة. لكن في عام 2019، أسقطت المحكمة العليا بالبرازيل الحكم عنه، ليخرج من السجن ويتجه مباشرة إلى نقابة عمال الحديد والصلب في البلاد، والتي كان قد أسسها، حيث استقبل استقبالاً شعبياً جارفاً.
أما بولسونارو، فهو على النقيض تماماً من دا سيلفا، فالرئيس السابق ينتمي إلى تيار اليمين المتطرف، وكان يطلق عليه لقب "ترامب البرازيل"، في إشارة إلى التشابه الكبير بينه وبين الرئيس الأمريكي السابق، ليس من ناحية الشكل بطبيعة الحال ولكن من ناحية السياسات الشعبوية التي يتبعها كل منهما. وكما أصبحت "الترامبية" توجهاً سياسياً، أصبحت "البولسونارية" توجهاً مشابهاً.
فخلال الحملة الانتخابية، صدرت عن الرئيس الشعبوي تصريحات متعددة، تطعن في نظام الانتخابات الإلكتروني المطبق بالبرازيل، كما لوَّح مراراً بأنه قد لا يقبل النتيجة في حال خسارته، إذ قال نصاً: "الله وحده يمكنه هزيمتي"، مضيفاً أن هذه الانتخابات لها ثلاث نتائج محتملة دون ما سواها بالنسبة له وهي "الفوز أو السجن أو الموت".
كما وصف بولسونارو، على طريقة ترامب، استطلاعات الرأي بالـ"كاذبة"، وقال عن معهد استطلاع الرأي "داتافولها" الذي منحه 32% فقط من نوايا التصويت مقابل 45% للويس إيناسيو لولا دا سيلفا: "هنا ليست كذبة داتافولها". وأضاف: "هنا تسود الحقيقة"، خلال خطاب في حشد غفير من مؤيديه بمناسبة احتفالات البلاد بمرور قرنين على نيل استقلالها، قبل الانتخابات مباشرة.
دا سيلفا يقيل قائد الجيش، الذي عيَّنه بولسونارو
حمَّل دا سيلفا، بولسونارو المسؤولية عن "محاولة الانقلاب" على نتائج الانتخابات، كما فتحت المحكمة العليا في البرازيل تحقيقاً رسمياً مع الرئيس السابق بشأن ما تردد عن دوره في تشجيع الاحتجاجات المناهضة للديمقراطية والتي انتهت باقتحام أنصاره المباني الحكومية في برازيليا.
وقال القاضي ألكسندر دي مورايس، الذي وافق على طلب ممثلي الادعاء بدء التحقيق، إن "الشخصيات العامة التي تواصل التآمر الخسيس ضد ديمقراطية تحاول ترسيخ حالة استثنائية، ستتم محاسبتها".
وقال مكتب المدعي العام الأعلى، في بيان، إن بولسونارو، الموجود حالياً بالولايات المتحدة، سيخضع للتحقيق من قِبل المدعين، بسبب ما تردد عن "التحريض والتأليف الفكري للأعمال المناهضة للديمقراطية واللذين أديا إلى التخريب والعنف في برازيليا يوم الأحد الماضي".
كما أمرت المحكمة العليا باعتقال وزير العدل السابق أندرسون توريس، بسبب السماح بوقوع الاحتجاجات في العاصمة البرازيلية بعد أن تولى مسؤولية الأمن العام في برازيليا.
وقال توريس، الموجود مثل بولسونارو في فلوريدا، إنه يعتزم العودة إلى البرازيل لتسليم نفسه. وقال بولسونارو على وسائل التواصل الاجتماعي إنه سيمضي قدماً في عودته إلى البرازيل، بينما قال مسؤول بالحزب الليبرالي اليميني الذي ينتمي إليه بولسونارو، لـ"رويترز"، إن الحزب قرر تعزيز فريقه من المحامين استعداداً للدفاع عن الرئيس السابق.
وانتظر دا سيلفا إلى الجمعة 20 يناير/كانون الثاني، حتى عقد اجتماعه الأول مع قيادات المؤسسة العسكرية في البرازيل، وكان قائد الجيش خوليو سيزار دي أرودا ضمن الحضور، ولم يصدر أي بيان رسمي في ختام ذلك الاجتماع.
لكن وزير الدفاع، خوسيه موسيه، أكد أن القادة العسكريين "يقبلون" فرض عقوبات على أفراد القوات المسلحة المتورطين في أعمال الشغب، وأضاف الوزير أنه لم يكن هناك "تورط مباشر" للجيش في أعمال الشغب في برازيليا، بحسب تقرير لـ"فرانس برس".
ثم أفادت وسائل إعلام محلية، السبت 21 يناير/كانون الثاني، بأن الرئيس لولا دا سيلفا قد أعفى قائد الجيش من منصبه، وأصدر قراراً بتعيين القائد العسكري لجنوب شرقي البلاد، توماس ريبيرو بايفا، مكان أرودا، الذي كان قد تولى المنصب قبل يومين فقط من نهاية ولاية بولسونارو رسمياً، أي يوم 30 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وفي مطلع يناير/كانون الثاني الجاري، أيدت إدارة لولا دا سيلفا ذلك التعيين.
ما طبيعة العلاقة بين الرئيس والمؤسسة العسكرية؟
تعتبر العلاقة مع القوات المسلحة من أكبر التحديات المباشرة التي يواجهها لولا دا سيلفا، وفق محللين يشيرون إلى حضور العسكريين الكبير في الإدارة السابقة. وبدأ الزعيم اليساري "مراجعة عميقة" للمؤسسة العسكرية بعد أن أعرب عن عدم ثقته ببعض المسؤولين المكلفين بتأمين مقار الرئاسة.
وعلى الرغم من أن لولا دا سيلفا لم يدخل قط في صراع مع المؤسسة العسكرية خلال فترته الرئاسية السابقة، فإن خليفته ديلما روسيف، اليسارية أيضاً، أيقظت عداء الجيش لليسار بإطلاقها في 2011 "لجنة وطنية للحقيقة"، لتسليط الضوء على الجرائم التي ارتكبها العسكر بين 1964 و1985.
وبشكل عام، ينقسم التاريخ السياسي البرازيلي إلى فترة ما قبل الثمانينيات، التي انطلقت من 1964 وهي تؤرخ للحكم العسكري، وما بعد الثمانينيات إلى بدايات الألفين وبالضبط 2003 حينما تسلم الرئيس لولا دا سيلفا السلطة، ثم عام 2018 عندما وصل بولسونارو إلى الحكم، حيث استعادت المؤسسة العسكرية كثيراً من نفوذها مرة أخرى.
وفي هذا السياق، كان الآلاف من أنصار بولسونارو قد احتشدوا، بعد ظهور نتائج الانتخابات بفوز دا سيلفا، أمام مقر القيادة العسكرية في ساو باولو وبرازيليا وريو دي جانيرو، حيث دعوا إلى تدخل الجيش، كما قام متظاهرون مؤيدون له بإغلاق الطرق في أكثر من نصف الولايات البرازيلية.
ويفسر تحرك أتباع بولسونارو تجاه الثكنات العسكرية العلاقات الهشة التي ربطت اليسار بالجيش عموماً في هذا البلد، والذي اتخذ موقفاً علنياً ضد لولا دا سيلفا عام 2018، ثم تم استقطاب العديد من أسمائه للعمل في حكومة بولسونارو، ما اعتبر حينها نهاية لصمت عسكري دامَ 25 عاماً، لكن الجيش البرازيلي أظهر في الوقت الحالي احترافية، أشاد بها مراقبون، تلتزم بدستور البلاد، فهل تستمر الأمور على هذا النحو؟
لكن قائد الجيش الجديد الذي عيَّنه دا سيلفا، توماس ريبيرو بايفا، كان قد قال في خطاب عام، قبل ثلاثة أيام من تعيينه، إن الجيش سيواصل "ضمان الديمقراطية"، وأضاف في شريط فيديو نشره موقع "جي1": "إنه نظام الشعب، التناوب على السلطة. التصويت، وعندما نصوّت، يجب أن نحترم نتائج صناديق الاقتراع".