متى قد تقرر الصين إعادة توحيد تايوان بالقوة، أو غزوها كما يقول الغرب؟ لا أحد يمكنه توقع إجابة حاسمة، لكن كيف يمكن أن تبدأ الحرب؟ الإجابة هناك على ذلك الأرخبيل التايواني النائي، فما قصته؟
كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولةً ذات سيادة وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين لا تزال تصر على أنه ستتم استعادة الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر.
ولا يعترف بتايوان كدولة مستقلة سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
لكن الرئيس جو بايدن خالف في أكثر من مناسبة سياسة "صين واحدة" التي تتبعها الولايات المتحدة منذ الاعتراف ببكين، بتصريحه بأن الجيش الأمريكي سيتدخل عسكرياً للدفاع عن تايوان إذا ما أقدمت الصين على غزوها، وهو ما تصفه بكين بأنه "لعب بالنار".
ما قصة ذلك الأرخبيل التايواني؟
على أية حال، يبدو الرئيس الصيني شي جين بينغ عازماً على إعادة تايوان إلى سيادة بكين، لكن قرار تنفيذ ذلك بالقوة يظل حبيس دائرة الرئيس المغلقة. وبالتالي فإن التكهنات تتركز حول الكيفية التي قد تبدأ بها الحرب.
وفي هذا السياق، نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً عنوانه: "جزر تايوان النائية في خطر"، ركز على جزيرة كينمن التايوانية، حيث تتكسر الأمواج على صفوف الأعمدة المدببة المانعة للهبوط التي تبرز من الرمال.
هناك يقف وانغ ني-شي، الرجل العسكري المحلي السابق، محدقاً عبر الضفة الأخرى من المياه. ويرى وانغ الظلال الغامضة لناطحات السحاب ترتفع مثل الأعمدة الشبحية نحو السماء. وتشكل الخطوط العريضة لمدينة شيامن الصينية، التي تقف على بُعد أميال قليلة فقط من كينمن في البر الرئيسي الصيني.
تتلاشى ناطحات السحاب عن الأنظار في ضوء الغسق اللطيف، لكن الأشياء حول الجزيرة التايوانية بعيدة كل البعد عن الهدوء هذه الأيام. في مضيق تايوان، إذ تستمر الغارات شبه اليومية للطائرات العسكرية الصينية على منطقة تحديد الدفاع الجوي التايوانية بلا هوادة منذ زارت رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي تايوان في أوائل أغسطس/آب.
وفي الوقت نفسه، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق ضد عمليات الإغلاق القاسية لفيروس كورونا المستجد في نوفمبر/تشرين الثاني في جميع أنحاء المدن الصينية الكبرى في أكبر تحدٍّ لحكم الحزب الشيوعي الصيني منذ أكثر من 30 عاماً. وأقنعت التطورات على الجبهة الداخلية الصينية والسلوك الصيني عبر مضيق تايوان وانغ بأنَّ الصينيين سيحاولون غزو كينمن. وقال لـ"فورين بوليسي": "سنقف في وجوههم.. لكننا لن نكون قادرين على منعهم".
لكن كان ذلك بالتحديد ما فعله المدافعون عن كينمن في عامَي 1949 و1950؛ حيث حاولت قوات البر الرئيسي للصين الاستيلاء على تلك الجزر، ولكنهم تعرضوا للصد.
في ذلك الوقت، غزا الشيوعيون جزر كينمن وماتسو النائية؛ لتمهيد الطريق أمام الاندفاع النهائي نحو تايوان والنصر الكامل في الحرب الأهلية الصينية الذي كان منتظراً تحقيقه بمجرد طرد القوميين من معاقلهم الأخيرة في مضيق تايوان. ولمنع حدوث ذلك، حوّل القوميون في تايوان جزر كينمن وماتسو إلى حصون، ووضعوا عليها عشرات الآلاف من القوات.
كيف تبدو الأوضاع في جُزُر تايوان النائية؟
لكن الوضع صار اليوم مختلفاً جداً في تلك الجزر التايوانية النائية؛ فمنذ تسعينيات القرن الماضي، جُرِّدت كينمن وماتسو من جزء كبير من الأسلحة. ومعظم المنشآت والمعدات العسكرية لم يعُد يديرها جنود، وبدلاً من ذلك، تجذب قطعاناً من السياح. وتضم القواعد والبؤر الاستيطانية المتبقية جزءاً بسيطاً من الأعداد التي كانت موجودة في العقود السابقة.
كان نزع السلاح من الجزر النائية قد بدأ خلال فترة الهدوء وخفض التصعيد في مضيق تايوان. على الجانب الصيني، كان هناك وقف للقصف المدفعي المستمر منذ عقود على الجزر النائية الذي استمر منذ محاولات الغزو الفاشلة.
وعلى الجانب التايواني، كان هناك تخفيض ملحوظ في القوات ضمن خطة إصلاح أكبر لسياسة الدفاع الوطني؛ حيث حُوِّلَت الأموال بعيداً عن الإنفاق الدفاعي نحو مشروعات الرفاهية العامة.
وبينما أدى خفض التصعيد إلى نزع السلاح على الجانب التايواني، لم يكن هذا هو الحال على الضفة المقابلة من كينمن؛ بل على العكس تماماً، ارتفع الإنفاق العسكري الصيني بنسبة 72% منذ عام 2012 مع استمرار الصين في توسيع وتحديث قدراتها العسكرية.
ومع تصاعد التوترات مرة أخرى في مضيق تايوان، تستعرض الصين نتائج هذا التوسع والتحديث باستمرار في جميع أنحاء تايوان؛ حيث ينفذ جيش التحرير الشعبي الصيني أنشطةً محمولة جواً وبحراً بالقرب من الجزيرة.
ولم تُغفَل الجزر النائية ضمن مساعي الصين لتطويق تايوان، فخلال التدريبات المكثفة التي أجريت بعد زيارة بيلوسي، شوهدت طائرات صينية بدون طيار في عدة مناسبات تحلِّق فوق كينمن بالقرب من المنشآت العسكرية للجزيرة؛ مما أدى إلى إسقاط إحداها.
إذا اختارت بكين شن غزو مباشر لكينمن وماتسو، فلن تكون هناك سوى مسافة قليلة جداً في الطريق الفوري لتقدم القوات الصينية نحو الجزر منزوعة السلاح. وحتى لو حاول التايوانيون تعزيز أمن الجزر، فإنَّ مثل هذه التعزيزات يجب أن تغطي حوالي 120 ميلاً (193 كيلومتراً)، بينما سيتعين على المهاجمين الصينيين فقط تغطية ثلاثة إلى 12 ميلاً (16 كيلومتراً) للوصول إلى أهدافهم.
وبالنظر إلى حالة الجزر التي لا تتمتع بالدفاع الكافي، يمكن أيضاً إجراء الاستعدادات العسكرية الصينية سرياً أكثر من الاستعدادات لهجوم شامل على الجزيرة التايوانية الرئيسية. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ قانون العلاقات مع تايوان، والبيانات الثلاثة، والتأكيدات الستة التي تشكل معاً من الجانب الأمريكي المعايير التوجيهية لعلاقة الدفاع بين الولايات المتحدة وتايوان، تقدم تعهدات بحماية تايوان وجزر بنغهو التايوانية، لكنها لا تشمل الجزر التايوانية النائية كينمن وماتسو.
لماذا ستبدأ الصين الحرب من تلك الجزر؟
ياو يوان ييه، أستاذ سياسات شرق آسيا في جامعة سانت توماس في هيوستن، قال للمجلة الأمريكية: "هناك نقص في الضمانات الأمنية الأمريكية لكينمن وماتسو؛ لأنَّ الجزر لا تمتلك سوى القليل جداً من القيمة للاستراتيجية الأمريكية في غرب المحيط الهادئ".
وحتى وقت قريب، قدَّر التايوانيون أنَّ المخاطر على الجزر منخفضة؛ نظراً لأنَّ الاستيلاء عليها لن يحقق الهدف الصيني العام المتمثل في توحيد تايوان مع البر الرئيسي.
وبالنسبة للصينيين، كانت الجزر البعيدة تشكل عقبة استراتيجية يجب التغلب عليها حتى يمكن تحقيق أي غزو برمائي لتايوان. ومع ذلك، كما أظهرت الصين في تدريبات عسكرية لا حصر لها في السنوات الأخيرة، فإنَّ جيش التحرير الشعبي الحديث سيكون قادراً تماماً على ضرب تايوان وضم الجزيرة دون استخدام الجزر البعيدة كمنصة إطلاق.
وإذا شن الصينيون هجوماً على الجزر النائية، فلن يكون ذلك بسبب إغفال الولايات المتحدة أو التسلح الصيني أو نزع السلاح التايواني، وفقاً لما قاله ياو يوان ييه، أستاذ سياسات شرق آسيا.
وأضاف: "إنَّ تهديد الغزو ضد الجزر النائية يعتمد حقاً على الضغط الداخلي على الحزب الشيوعي الصيني و[الرئيس الصيني] شي جين بينغ وكيف يتعاملون مع مثل هذا الضغط الداخلي في المستقبل".
وقد تصاعد الضغط الداخلي على القيادة الصينية في العديد من المجالات في العامين الماضيين؛ فقد وصل النمو الاقتصادي عند أدنى مستوى له منذ عقود، وبطالة الشباب تحوم حول 20%، وعشرات الآلاف من مشتري المنازل يرفضون دفع الرهون العقارية على شقق غير مكتملة في سوق إسكان مشوَّه مرتبط بعقود طويلة من فورة في البناء التي تركت في نفس الوقت ما يزيد على 50 مليون منزل شاغر.
وتفاقمت العديد من هذه المشكلات بسبب ثلاث سنوات من قيود "كوفيد-19″، التي أثارت في نوفمبر/تشرين الثاني أكبر الاحتجاجات في المناطق الحضرية في الصين منذ جيل كامل.
وستزداد صعوبة حل هذه القضايا مع الوقت، وفقاً لكريستينا تشين من معهد الأبحاث الأمنية التايواني للدفاع الوطني وبحوث الأمن، مع انتقال الصين من أسلوب القيادة السلطوي إلى أسلوب استبدادي احتكاري مع وجود الرئيس شي بسلطة أكبر في القيادة.
من السمات المشتركة بين قادة الأنظمة والشمولية إلقاء اللوم على الاضطرابات الداخلية والتدخل الأجنبي والقوى الخارجية التي تسعى إلى تقويض الأمة وتدميرها في نهاية المطاف.
وفي مواجهة عدم الاستقرار الداخلي، يمكن أن تؤدي مثل هذه الاتهامات بالتدخل الأجنبي إلى تدخل عسكري في البلدان المجاورة كوسيلة لتعزيز الدعم المحلي. فقد ارتفعت معدلات تأييد الرئيس فلاديمير بوتين ارتفاعاً ملحوظاً بعد استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014.
وأعرب وزير الخارجية التايواني جوزيف وو، مرتين، في ديسمبر/كانون الأول، عن قلقه من أنَّ القيادة الصينية تتحرك لتنفيذ شيء مماثل. وقال: "نشعر بالقلق من أنَّ الحكومة الصينية ستستهدف تايوان، وسوف تتهمها بأنها سبب الاضطرابات في الصين"، مشيراً في وقت لاحق إلى أنَّ الحكومة التايوانية تعتقد أنَّ الصين تبحث عن ذريعة، وأنَّ الوضع العسكري يبدو أكثر جدية من أي وقت مضى.
وإذا تحققت مخاوف الحكومة التايوانية، فإنَّ ضعف الجزر البعيدة سيجعلها هدفاً واضحاً لمسعى عسكري يهدف إلى تحويل الانتباه بعيداً عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي المحلي المتدهور المحتمل في الصين.
ومع ذلك، قالت كريستينا تشين، من معهد الأبحاث الأمنية التايواني للدفاع الوطني وبحوث الأمن، إنَّ جزر كينمن وماتسو ربما فقدت الكثير من أهميتها العسكرية الاستراتيجية، إلا أنها لم تفقد أياً من أهميتها الرمزية.
وأضافت: "الاستيلاء على الجزر النائية يمكن أن يقدم دفعة قوية تحديداً لشي جين بينغ منذ حاول جيش التحرير الشعبي مرتين وفشل في الاستيلاء على الجزر في الماضي؛ لذا، فإنَّ الغزو سيكون عملاً فذاً لم يحققه أي زعيم سابق للحزب الشيوعي الصيني".