قال وزير الطاقة القطري سعد بن شريدة الكعبي، خلال مشاركته بمنتدى الطاقة العالمي في العاصمة الإماراتية أبوظبي، إن الدول الأوروبية ستعود في نهاية المطاف إلى استيراد الغاز الروسي. كما حذر من عدم استقرار للسوق قد يستمر لسنوات. وصرح الكعبي بحسب ما نقلت فرانس برس: "يقول الأوروبيون اليوم إن لا مجال لذلك (العودة لاستيراد الغاز الروسي)"، وتابع: "لكن الغاز الروسي برأيي سيعود إلى أوروبا". فلماذا قد تعود الدول الأوروبية للغاز الروسي مجدداً؟
الاقتصاد الأوروبي "حبيس" الغاز الروسي لهذه الأسباب
خفضت موسكو إلى حد كبير صادراتها من المحروقات إلى الاتحاد الأوروبي بعد فرض الدول الغربية عقوبات اقتصادية عليها، رداً على شنها الحرب في أوكرانيا.
وتراجعت صادرات غازبروم الروسية من الغاز إلى الاتحاد وسويسرا بنسبة 55% في 2022، حسب ما أعلنت الشركة في وقت سابق هذا الشهر. وبسبب الشتاء الدافئ نسبياً في أوروبا، تمكنت دول التكتل من توفير المخزون.
في هذا السياق، قال الكعبي وهو أيضاً الرئيس التنفيذي لشركة قطر للطاقة خلال الفعالية التي عقدت السبت 14 يناير/كانون الأول 2023: "لحسن الحظ، لم يكن لديهم طلب مرتفع للغاية على الغاز بسبب الطقس الأكثر دفئاً. المشكلة هي ما الذي سيحدث عندما يرغبون بتجديد مخزوناتهم العام المقبل". مشيراً إلى عدم تدفق الكثير من الغاز إلى السوق حتى 2025.
وفي تعليقه على هذه التصريحات، قال عمرو الديب مدير مركز خبراء رياليست الروسي، لفرانس برس، إن الوزير القطري "يؤكد على حقيقة أن القارة الأوروبية ستظل لفترة طويلة تعتمد بشكل كامل على الغاز الروسي. لأنه ورغم المقاطعة ومع إيقاف خطوط الأنابيب، يظل الغاز الروسي المسال الخيار الأنسب والأرخص لأوروبا.. نعلم بأن الغاز المسال الأمريكي والقطري هما لوجيستياً أغلى كثيراً، وبالتالي فإن الوزير القطري يؤكد على مسألة واقعية".
يضيف الديب: "أمام الاتحاد الأوروبي فترة طويلة لكي يتخلص من الغاز الروسي سواء عن طريق الأنابيب التي توقفت بشكل شبه كامل أو الغاز المسال. سيستمر هذا الوضع بشكل أو بآخر لسنوات ولا يمكن لدول المنطقة التخلص من التبعية للغاز الروسي في المستقبل القريب. هذا ما يعلمه الأوروبيون قبل أن تؤكد عليه أي شخصية أخرى".
في الوقت نفسه، يرى الديب أن "قرار تسقيف الأسعار الأوروبي له تأثير طبعاً لكن هدفه هو مبيعات الغاز الروسية. موسكو اعترضت على هذه الآلية وقررت منع تصدير الطاقة لكل دولة تضع سقفاً على أسعار النفط والغاز. لكن في النهاية، روسيا تريد البيع وأوروبا تريد الشراء والحصول على الغاز الرخيص والمتاح والقريب جغرافياً".
لذلك فقرار التسقيف "لن يؤثر بشكل كبير على هذه السوق وسيجد الطرفان بطريقة ما حلاً وسطاً لاستمرار إمدادات الغاز. ثم إن الشركات الخاصة وحتى العامة مهتمة بالحصول على منتجات الطاقة بسعر رخيص؛ حيث إن الصناعة الأوروبية قائمة على الغاز".
وأضاف مدير مركز خبراء رياليست الروسي: "هناك نقاش أوروبي حول حظر الغاز، خصوصاً من دول البلطيق، لكن الدول الكبرى مثل ألمانيا لا تريد مثل ذلك النقاش. وفي النهاية تم الإجماع على قرارات مثل هاته وتلك التي رأيناها في آخر عشرة أشهر، فيما يستمر تدفق إمدادات النفط والغاز الروسيين بطريقة أو بأخرى عن طريق أطراف ثالثة". ويؤكد محدثنا: "الاقتصاد الأوروبي في معظمه يعتمد على الغاز الروسي ما يجعله حبيساً ليس للسلطة الروسية بل لمصلحة المصانع والشركات التي تعتمد على الطاقة".
"لا يمكن للأوروبيين التخلص من تبعية الغاز الروسي"
من جهته، يقول محمد الألفي، خبير في الاقتصاد السياسي إن "قطر دولة لها وزن كبير في سوق الغاز المسال بصفة خاصة ونقله، وهي ترتبط بعقود طويلة الأجل لمدة 30 عاماً مع دول كبرى. والوزير القطري (سعد بن شريدة الكعبي) يعي جيداً ما يقول، لأن أوروبا في النهاية ليست لديها بدائل للغاز الروسي الرخيص في النقل عبر الأنابيب، كما لا توجد هنا تكاليف نقل بحري بل محطات استقبال داخلية لحساب ما تم استهلاكه".
وكان الوزير القطري يقصد أيضاً أن كلفة استيراد الغاز من عميل غير روسيا سترفع كلفة الإنتاج الصناعي الداخلي بالنسبة للشركات والمُصنّع الأوروبي، وستخرج الاقتصاد الأوروبي من دائرة، المنافسة وسترفع سعر الخدمات للمواطن الذي يستهلك الغاز وبالتالي ستضع الاقتصادات الأوروبية في مأزق كبير أمام شعوبها.
كما ستدخلها في عجز موازنات ضخم لتغطية هذا الأمر أو الاضطرار إلى رفع سعر كافة الخدمات، وبالتالي عجز موازنة وتراجع صناعي وفرض ضرائب كبيرة على الشعوب تخرجها للاحتجاج في الشوارع، مع خطر فوضى داخل الاتحاد الأوروبي الذي لا يريد أن يرى هذا المشهد.
يقول الألفي حول ذلك لفرانس برس: "إن التصريح القطري هو اقتصادي وسياسي في آن واحد، لأن قطر من الناحية العملية لا يمكن أن تدخل هي أو كل المنتجين للغاز بديلاً عن روسيا، وسياسياً، لا أحد يريد أن ينازع روسيا في السوق الذي كان ملكاً لها منذ عقود، وبالتالي يدخل في صراع معها وأيضاً يتورط في خريطة الصراع حول النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي. لا أحد يريد أن يدخل في معارك مباشرة مع روسيا وبينها وبين كبار الفيلة المتصارعين الآن".
الشركات الأوروبية الكبرى تعاني بدون الغاز الروسي
لا يتصور خبير الاقتصاد السياسي أن دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين قادرة الآن على التخلص من تبعية الغاز الروسي رغم نجاتها المؤقتة هذا الشتاء. فمثلاً السبع شركات الكبرى في التكتل؛ مثل توتال وإيني والتي تعمل على إنتاج الغاز في شرق المتوسط ومناطق أخرى، "تركز على محاولة تغطية حاجيات دولها الأصلية لأن معظمها شركات تساهم فيها الحكومات، بالتالي لا يتم تغطية سوى جزء من الاحتياجات الكلية للتكتل وتترك الدول الأخرى العشرين في صراع البحث عن مصادر الطاقة وبدائلها".
مشيراً إلى أن في ذلك رسائل سلبية إلى تلك الدول التي لا تستطيع أن تدبر احتياجاتها، ما يُحدث تفسخاً داخل الاتحاد الأوروبي في قراراته السياسية والاقتصادية، وقد شهدنا هذا في إطار اعتراض الدول على وضع سقف سعر للغاز والنفط الروسيين، مثل المجر.
ولا يعتقد الألفي أن بإمكان الاتحاد الأوروبي التخلص من الغاز الروسي بحلول عام 2025، بل أضعاف هذه المدة. ثم هناك مشكلة الاستيراد من الشركات الأمريكية التي تبيع بأسعار أغلى من تلك التي كانت بالنسبة للجانب الروسي. فرنسا لها جزء من إنتاج الطاقة من خلال الطاقة النووية. في المقابل تخلت ألمانيا عن مسألة حماية البيئة واستغلال الطاقة النظيفة وعادت إلى ما قبل مائة عام باستخدامها الفحم الحجري.
في النهاية، يقول الخبير في الاقتصاد السياسي، إن قرار تسقيف أسعار الغاز هو بالنسبة لروسيا "إعلان حرب" وقد رفضت توريد الغاز لكل من يطبق هذا القرار. وهو يرى أنه "سيجابه بمزيد من الإجراءات الروسية التي تمنع التوريد وسيزيد من إصرارها رغم كل العقوبات الأوروبية التي هي في الواقع إطلاق النار على أقدام الأوروبيين الذين قطعوا الحبل السري الذي يغذي الجنين هنا وهو الاقتصاد الأوروبي مباشرة".
ويوضح: "الأوروبيون مختلفون تماماً في نقاشاتهم بالنسبة للموقف من روسيا، والقرارات تتخذ على هوى الولايات المتحدة التي تسيطر على الناتو. وتلك القرارات هي سياسية وليست اقتصادية تضرر التكتل الأوروبي بشكل كبير منها، لكننا لن نشهد نقاشاً موسعاً حول مسألة إلغاء الحظر على الغاز والنفط الروسيين إلا في حال تم التراجع عن التبعية للولايات المتحدة وهيمنتها وبات لأوروبا قرار مستقل عن الناتو وعن الإدارة الأمريكية. أو في حال وقف الحرب في أوكرانيا وجلوس أطراف النزاع على طاولة المفاوضات، لكني أرى أن هذا الأمر بعيد المنال في هذه اللحظة".
"حاجة وجودية لإبقاء حدٍ متوازن من العلاقات"
بدوره، قال عبد الرحيم الهور، وهو كاتب وخبير اقتصادي، إنه في واقع القراءة الجيوستراتيجية للعلاقات الروسية-الأوروبية التجارية المتعلقة بالطاقة، يجب الأخذ بعين الاعتبار بأن روسيا كانت وستبقى جاراً جغرافياً للقارة الأوروبية، وبالتالي ستبقى الحاجة الوجودية للجميع هي في إبقاء حد متوازن من العلاقات، تتفاعل وتتغير مع تغير المعطيات.
وإحدى أهم هذه العلاقات هي "علاقات التبادل التجاري المرتبط بالطاقة، وأذكر هنا إشارة وزير الطاقة القطري سعد بن شريدة الكعبي، إلى رؤية واقعية بتعديل الظروف الراهنة فيما يتعلق بتوقف إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا. وأرى بأن لهذه التصريحات توجهاً بالنظر إلى أهمية تنويع مستهلكي الطاقة الخليجية، ذلك من خلال تعدد بناء الشراكات مع آسيا كوحدة كاملة والصين كاتجاه جديد، كذلك مع الهند. أذّكر في هذا الإطار بأن الدوحة وقعت في القمة العربية الخليجية-الصينية اتفاقاً لتوريد الغاز للصين لمدة 27 عاماً. وعوداً على بدء، فإن روسيا وأوروبا ملزمتان بإيجاد قوائم عمل مشتركة بحكم الجوار الجغرافي، وتقارب المصالح".