بعد وقت قصير من الحرب الروسية على أوكرانيا، وصلت أسعار السلع الغذائية في "مؤشر منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) لأسعار الغذاء" إلى أعلى مستوى مسجل لها، وكان ذلك دليلاً على زيادة أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء العالم. ففي بريطانيا، على سبيل المثال، كانت أسعار الخبز والبيض قد زادت في ديسمبر/كانون الأول بنسبة 18% على نظيرتها في العام السابق، وزادت أسعار الحليب بنسبة 30%.
فكيف يهدد استمرار ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية الأمن الغذائي في العالم، وما هي توقعات الخبراء الاقتصاديين لتذبذب الأسعار بالنسبة للعام 2023؟
أسعار المواد الغذائية انخفضت مؤخراً، فهل يعني ذلك عدم ارتفاعها مجدداً؟
تهدد الزيادة في أسعار المواد الغذائية قدرات الأمن الغذائي بالعالم، لا سيما في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل التي تعتمد اعتماداً كبيراً على أوكرانيا وروسيا في إمدادات الحبوب والزيوت النباتية. ويشمل ذلك الكثير من بلدان إفريقيا وآسيا، التي استحوذت على 95% من صادرات القمح الأوكرانية في عام 2021 (ما يقرب من عُشر إمدادات القمح العالمية).
وأدى هذا النقص إلى انتشار الحديث في وسائل الإعلام عن احتمال حدوث مجاعات في مناطق مختلفة بالعالم، إلا أن أسعار المواد الغذائية تراجعت أثناء المدة الماضية، وتدل البيانات الواردة في "مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء" على عودة الأسعار إلى مستويات ما قبل الغزو بعد عام من الحرب الروسية على أوكرانيا.
فلماذا تراجعت الضغوط التي تسببت في ارتفاع أسعار الغذاء بحلول نهاية عام 2022، وماذا يتوقع الخبراء بشأن أسعار السلع الغذائية خلال عام 2023؟
يقول موقع Salon الأمريكي إنه لا يمكنك النظر في التغيرات الطارئة على أسعار المواد الغذائية بمعزل عن تداعيات جائحة كورونا وإجراءات الإغلاق المرتبطة بها، فقد حبس الوباء كثيراً من العاملين بصناعات الطاقة والغذاء، سواء بالإصابة أم بالقيود التي فرضت للحد من انتشار العدوى، لكن المحصلة أن إمدادات الغذاء تقلصت في أنحاء كثيرة من العالم. وهكذا، لما رُفعت القيود وبدأ الطلب في الارتفاع، زادت أسعار الغذاء والطاقة أيضاً.
اشتعلت الحرب في أوكرانيا في وقت لم يكن العالم قد تجاوز فيه تداعيات جائحة كورونا بعد، ومن ثم فقد بلغ تضخم أسعار المواد الغذائية ذروته، لا سيما أن الأسواق كانت مرتبكة حيال تأثير الحرب في الإنتاج والصادرات ومدى قدرة سلاسل التوريد العالمية على التكيف مع هذه الظروف.
سلاسل توريد المحاصيل الزراعية ما زالت تعاني
استؤنفت صادرات الحبوب الأوكرانية بعد الاتفاق الذي عقدته روسيا وأوكرانيا بوساطة من الأمم المتحدة في يوليو/تموز لإنشاء ممر إنساني لنقل الحبوب عبر البحر الأسود. وكان محصول القمح أكبر من المتوقع، وإن لم تُحصد المحاصيل في كثير من المناطق على خط المواجهة. وتعرضت محاصيل الذرة للأمر نفسه، لأن عملية التجفيف تتطلب كميات مكثفة من الطاقة، ولم يتمكن المزارعون من تلبية الأسعار المرتفعة. وكانت النتيجة أن انخفضت صادرات الحبوب الأوكرانية في عام 2020 بنحو 30% عن نظيرتها في العام السابق.
تُصدر روسيا القمح بكميات تفوق أوكرانيا، فهي توفر نحو 15% من الطلب العالمي. ويصعب تعقب إمدادات روسيا من القمح، لأنها توقفت عن إصدار بيانات بشأنها، لكن المؤكد أن سياسة موسكو بحصرِ الإمدادات على الدول "الصديقة" ستكون لها تداعيات على توافرها في كثير من البلدان.
اضطرت الدول التي تعتمد بدرجة كبيرة على استيراد الحبوب من أوكرانيا وروسيا إلى شرائها من أماكن أخرى. وزادت اليمن ومصر، على سبيل المثال، من كميات الحبوب المستوردة من الهند والاتحاد الأوروبي؛ ما أدى إلى ارتفاع أسعاره أيضاً.
من جهة أخرى، أدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى تقليص إنتاج الأسمدة في بعض الأماكن. واضطرت بريطانيا، على سبيل المثال، إلى إيقاف أكبر منشآتها لإنتاج الأسمدة النيتروجينية في عام 2022. وزاد متوسط أسعار الأسمدة في بريطانيا بنسبة 18% عما كان عليه في الشتاء السابق لغزو أوكرانيا، وأعلى بنسبة 66% عما كان عليه قبل عامين.
عانت المحاصيل الغذائية في صيف عام 2022 من وعورة الطقس، فقد ضربت موجات الحر والجفاف مناطق كثيرة في شمال أوروبا وأمريكا والصين، واجتاحت الفيضانات باكستان، وأصابت الأراضي الزراعية في الأرجنتين موجات من الجفاف. وزادت عمليات الري صعوبة في مناطق عدة، وأدى الجفاف في أوروبا إلى انخفاض المعروض من المحاصيل المستخدمة في تغذية الحيوانات؛ ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار اللحوم والخضراوات.
كشفت بيانات واردة عن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة عن تعرض الكثير من الناس لصعوبات جمة في سبيل الوصول إلى الغذاء، بسبب التضخم والحرب ووعورة الطقس في مناطق الزراعة. وزاد عدد الأشخاص الذين عانوا النقص الحاد في الأمن الغذائي بنسبة 20% منذ بدء الحرب.
ما توقعات الخبراء الاقتصاديين بالنسبة لأسعار المواد الغذائية خلال عام 2023؟
انخفضت أسعار الغاز والنفط في الجملة عن أعلى مستوياتها في عام 2022، وهو أمر سيعود بالفائدة على سلسلة الإمداد الغذائي بأكملها، وهو أحد الأسباب التي أدت إلى تراجع التضخم قليلاً خلال الخريف في كثير من البلدان.
هذا من شأنه أن يخفف بعض الضغوط الواقعة على أسعار الغذاء العالمي، وقد انخفضت أسعار الحبوب واللحوم والزيوت النباتية خاصةً في نهاية العام، وإن زادت أسعار السكر والألبان؛ لذلك ظل التضخم العام لأسعار الغذاء في مستويات مرتفعة تاريخياً.
أما توقعات العام الجديد فتشير إلى أن مساحة المحاصيل المزروعة في أوكرانيا ستنخفض بنسبة 17% عما كانت عليه في عام 2022. وفي المجمل، تستمر الضغوط على المحاصيل الزراعية بسبب ارتفاع تكاليف الزراعة، وظروف الطقس القاسية.
وما دامت الإمدادات مقيدة، فالأقرب احتمالاً أن تبقى أسعار الأسمدة مرتفعة. وعلى الرغم من ارتفاع الأسعار، فإن الأسمدة قد تتوافر بكميات طبيعية لدى المزارعين في البلدان الثرية.
أما البلدان الفقيرة، فإن إمدادات الأسمدة قد تنخفض فيها، ما يعني ضعف المحاصيل وتناقص جودتها وتعريض أصحاب الحيازات الصغيرة لمزيد من المعاناة المرتبطة بانعدام الأمن الغذائي.
النقص في المعروض سيستمر خلال 2023
الخلاصة أنه من المرجح أن يظل الكثير من السلع الأساسية يعاني نقصاً في المعروض خلال عام 2023؛ ما يعني استمرار الضغوط الدافعة إلى زيادة الأسعار. وسيضطر تجار التجزئة إما إلى استيعاب الزيادة في التكاليف وإما تحميلها على المستهلكين. وكذلك يتعين على الحكومات النظر في كيفية زيادة الدعم للمستهلكين والمزارعين لزيادة الإنتاج.
ويقول موقع Salon إنه يجب على المجتمع الدولي أن يتوصل إلى اتفاق عاجل لتيسير عمليات توريد الأسمدة، للحد من اضطراب الإمدادات، وإعطاء الأولوية في ذلك للمجتمعات المعرضة للخطر في الدول الفقيرة. وعلى المدى الطويل، ينبغي أن يقلل المزارعون اعتمادهم على الأسمدة وتطوير وسائل زراعية تعتمد على تدوير المغذيات العضوية.
ويشمل ذلك تحسين استخدام الأسمدة، واستخراج المغذيات من مياه الصرف الصحي، وتدوير كميات أكبر من المحاصيل البقولية، لتعزيز العناصر الغذائية في التربة، فضلاً عن الاستعانة بتقنيات زراعية أكثر إحكاماً في استخدام الموارد وزيادة كفاءتها.