بعد أن نقل دونالد ترامب مستندات سرية من البيت الأبيض إلى منزله، تم اكتشاف تقارير لها نفس الصفة مهملة في مكتب كان جو بايدن يستخدمه عندما كان نائباً للرئيس، فهل فقد مصطلح "سري للغاية" معناه؟
كانت وسائل الإعلام الأمريكية قد ذكرت، الإثنين 9 يناير/كانون الثاني الجاري، أن مستندات تحمل ختم "سري للغاية" تم العثور عليها في مركز أبحاث تابع لجامعة بنسلفانيا في واشنطن، ملقاة في مكتب كان الرئيس جو بايدن يستخدمه أحياناً عندما كان نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما.
متى تم اكتشاف تلك المستندات السرية في مكتب بايدن؟ على ماذا تحتوي تلك المستندات؟ وكيف يتم التعامل الآن مع تلك القصة، خصوصاً أن الرئيس السابق دونالد ترامب يواجه حالياً تحقيقاً جنائياً بسبب مستندات سرية للغاية أيضاً؟
ما قصة المستندات السرية التي "نسيها" بايدن؟
بعد أن نشرت وسائل الإعلام قصة العثور على مستندات تحمل تصنيف "سري للغاية" في مكتب بايدن بمركز أبحاث "بن بايدن" في جامعة بنسلفانيا، أعلن البيت الأبيض أن محامين يعملون لدى بايدن عثروا على تلك الوثائق في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي "أثناء إفراغهم مكتب بايدن في مركز الأبحاث وسلموها لهيئة المحفوظات المسؤولة عن حفظ هذا النوع من المستندات الرسمية".
وقال المستشار القانوني لبايدن ريتشارد ساوبر، في بيان، إن "البيت الأبيض يتعاون مع هيئة المحفوظات الوطنية ووزارة العدل"، موضحاً أنه عثِر على هذا "العدد الصغير من الوثائق المصنفة على أنها سرية" في "خزانة مقفلة" في مركز "بن بايدن".
وقال ساوبر: "لم تكن المستندات موضع أي طلب مسبق"، ومنذ تسليمها إلى المحفوظات، واصل محامو جو بايدن التعاون من أجل "ضمان اشتمال الأرشيف كل محفوظات إدارة أوباما-بايدن"، بحسب تقرير لشبكة BBC البريطانية.
أما بايدن نفسه، فقد تجاهل الرد على الصحفيين بشأن تلك المستندات السرية، حتى مساء الثلاثاء 10 يناير/كانون الثاني، وجاء رده بأنه لم يكن "يعرف ما تحتويه تلك المستندات"، وقال، على هامش قمة أمريكية – كندية- مكسيكية عقدت في مكسيكو: "لقد أبلغت بما تم العثور عليه وفوجئت عندما علمت أن وثائق متعلقة بالحكومة نقلت إلى ذاك المكتب. لكني لا أعرف ما تحتويه تلك الوثائق"، وأضاف أن محاميه "سيتعاونون بالكامل" خلال فحص تلك الوثائق، معرباً عن أمله في أن تنتهي هذه الإجراءات "قريباً".
وأوضح بايدن أن هذه الوثائق عثر عليها "عندما قام محامٍ بتنظيف مكتبي في جامعة بنسلفانيا"، لافتاً إلى أنه حالما اكتشف محاموه أن بعض هذه الوثائق كان سرياً "فعلوا ما يتعين عليهم فعله، واتصلوا بهيئة المحفوظات" لتسليمها إياها، بحسب تقرير لموقع فرانس24.
وأفادت تقارير إعلامية أمريكية بأن وزير العدل، ميريك غارلاند، أمر المدعي العام الفيدرالي في شيكاغو بمراجعة الوثائق، كما باشرت الشرطة الفيدرالية تحقيقاتها في القضية. وقال مصدر مطلع لقناة "سي بي إس" إن الوثائق لم تتضمن أسراراً نووية، ووضعت داخل ملف بجانب أوراق أخرى غير سرية.
ماذا احتوت مستندات بايدن "السرية"؟
المستندات السرية التي "عثر" عليها في مكتب بايدن يوم 2 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أثناء إخلاء المكتب، قُبيل الانتخابات النصفية، عبارة عن نحو 12 وثيقة تحمل شعار "سري للغاية"، أغلبها عبارة عن تقارير استخباراتية حول برنامج إيران النووي وأمور تخص الصين أيضاً، بحسب تقرير لشبكة CNN. وأفادت التقارير بأن بعضاً من تلك المستندات يحمل "معلومات حساسة وملفات سرية للغاية" أعدتها مصادر استخباراتية.
وتم إخطار إدارة الأرشيف الوطني بشأن تلك المستندات السرية وتسلمت الإدارة تلك الملفات بالفعل، بحسب تقرير شبكة CBS، التي كانت أول من نشر القصة، لكن إدارة الأرشيف ووزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالية لم يصدروا حتى الآن أية بيانات عامة خاصة بالقصة.
ويشارك مكتب التحقيقات الفيدرالي "FBI" في التحقيق في تلك الوثائق التي عثر عليها بمركز "بين بايدن"، وطُلب من المدعي العام ميريك غارلاند مراجعة الأوراق.
واحتفظ بايدن بمكتب في مركز الأبحاث الذي يبعد مسافة ميل واحد عن البيت الأبيض، من 2017 إلى 2020، أي بعد أن غادر البيت الأبيض مع أوباما في نهاية الفترة الرئاسية الثانية (2012-2016).
وقال سوبر: "منذ أن اكتشفت (الوثائق)، تعاون محامو الرئيس مع مركز الأرشيف الوطني ووزارة العدل ضمن إجراءات تضمن الاحتفاظ بالسجلات الخاصة بإدارتي بايدن وأوباما، بشكل مناسب في الأرشيف".
وعلى الرغم من أن بايدن والبيت الأبيض والديمقراطيين عموماً يتعاملون بشكل هادئ تماماً مع مسألة العثور على مستندات "سرية للغاية" داخل مكتب خاص منذ سنوات، إلا أن ما حدث ويحدث يعيد للأذهان قصة مشابهة تخص نقل الرئيس السابق دونالد ترامب مستندات "سرية للغاية" من البيت الأبيض إلى منزله مارالاغو في فلوريدا.
وكان بايدن قد انتقد ترامب بشدة، واصفاً تعامله مع وثائق تحمل شعار "سري للغاية" بأنه "تصرف غير مسؤول بشكل لا يمكن تصديقه"، وفي مقابلة مع برنامج 60 دقيقة على شبكة CBS الصيف الماضي، قال بايدن: "كيف يمكن أن يحدث أمر كهذا؟ كيف يمكن لأي شخص أن يتسم بعدم المسؤولية لهذه الدرجة؟ إنني أفكر ماذا قد تحمله مستندات تحمل طابع السرية المطلقة من معلومات حساسة قد يتسبب التعامل غير المسؤول معها في إلحاق الأضرار بمصادرنا ووسائلنا؟ أقصد أسماء أشخاص يساعدونا أو… إلخ. هذا الأمر ببساطة ينم عن انعدام تام للمسؤولية".
ماذا عن رد فعل ترامب والجمهوريين؟
الآن وقد انقلبت الأدوار، من الطبيعي أن يكون رد فعل ترامب عنيفاً للغاية، وتفاعل الرئيس السابق مع الأمر على منصة التواصل الاجتماعي التابعة له "Truth Social"، قائلاً: "متى سيداهم مكتب التحقيقات الفيدرالي منازل بايدن العديدة، وربما البيت الأبيض أيضاً؟".
بينما قال الرئيس الجديد للجنة المراقبة في مجلس النواب، الجمهوري جيمس كومر، إن التعامل مع قضية وثائق بايدن أثار أسئلة حول حياد وزارة العدل، وأضاف متحدثاً لمراسلين: "الأمر الذي يزيد من القلق، أن يكون هناك نظام عدالة يكيل بمكيالين في وزارة العدل، وكيفية تعاملهم مع الجمهوريين مقابل الديمقراطيين، وبالتأكيد كيف يعاملون الرئيس السابق مقابل الرئيس الحالي".
وكان الجمهوري كيفين مكارثي، رئيس مجلس النواب الجديد، أكثر حدة، إذ رد على أحد الصحفيين الذين حاول التقليل من واقعة بايدن في مقابل واقعة ترامب، بقوله: "حقاً؟ هل عثروا على (تلك المستندات السرية) الآن فقط؟ بعد كل تلك السنوات؟"، بحسب تقرير لشبكة Foxnews الأمريكية.
وأضاف مكارثي أن ما حدث يثبت أن "الديمقراطيين قد بالغوا في التعامل مع ترامب واقتحموا منزله في سابقة لم تحدث إطلاقاً من قبل"، مقارناً ذلك بما حدث مع بايدن للتدليل على عدم حياد وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي.
كانت مداهمة قوات من مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI لمنتجع دونالد ترامب مارالاغو، وهو منزل الرئيس السابق، قد أثارت عاصفة من ردود الفعل الغاضبة من جانب المعسكر الجمهوري، والمرحِّبة من جانب المعسكر الديمقراطي، إذ كانت المرة الأولى على الإطلاق التي تداهم فيها قوات الأمن منزل رئيس سابق بناءً على مذكرة تفتيش فيدرالية.
صحيح أن ترامب ملاحَق من جانب الأجهزة القضائية الفيدرالية لعدد من الأسباب، منها ما يتعلق بالتهرب الضريبي ومنها ما يتعلق باقتحام أنصاره الكونغرس الأمريكي يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، لكن تلك الغارة التي نفذتها قوات مكتب التحقيقات الفيدرالي كان سببها نقل الرئيس السابق مستندات مصنفة على أنها "سرية للغاية" من مكانها داخل البيت الأبيض إلى منزله الخاص، أو على الأقل هذا ما قالته وزارة العدل الأمريكية.
وبعيداً عن الاستقطاب الحاد بين الديمقراطيين والجمهوريين وكيفية استغلال كل منهما لأي شيء يسيء للآخر ويشوه صورته، وكذلك الاختلاف الكبير بين ملابسات تعامل كل من بايدن وترامب مع مستندات "سرية للغاية"، تطرح هذه القصة المتكررة تساؤلات بشأن التصنيف نفسه "سري للغاية" وكيفية التعامل مع المستندات التي تحمل ذلك الشعار.
وكانت مجلة The Atlantic الأمريكية قد نشرت تقريراً عنوانه "حتى الرئيس لا يمكنه رفع السرية عن المعلومات النووية"، رصد كيفية تصنيف الوثائق في الولايات المتحدة والصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس وغيره من كبار المسؤولين، يتضح منها مدى تعقيد ذلك النظام، الذي تنفرد به واشنطن.
إذ إن نظام تصنيف الوثائق المعمول به في السلطة التنفيذية الأمريكية يعد من أغرب مظاهر الحكومة الأمريكية، ويبدو في بعض الأحيان أن أفضل من يفهمونه هم من لديهم خلفية في الممارسات الدينية المبهمة -مثل الأسرار اللاهوتية المقدسة في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية- وليس الصحفيين أو المحامين.
فبعض المسؤولين يتمتعون بـ"سلطة أصلية في تحديد السرية"، أي يمكنهم تصنيف الوثائق في بند السرية دون اعتبار التصنيف السابق؛ وبعضهم يمكنه تصنيف الوثائق ولكنهم يستمدون سلطتهم من آخرين، ويمكن حرمانك من هذه السلطة لأسباب مختلفة.
لكن سلطة إضافة السرية ونزعها تأتي مباشرة من شخص يتمتع بسلطة شبه مطلقة، وهذا الشخص هو الرئيس، وهذه السلطة المذهلة التي كان يتمتع بها ترامب ستحميه من التقاضي، ولكن بدرجة محدودة.
لكن على أية حال، يبدو أن مصطلح "سري للغاية" بدأ يفقد معناه في كثير من الأحيان، فها هي وثائق سرية للغاية ظلت مهملة في مكتب خاص بشخص كان يعمل نائباً للرئيس وتم الكشف عن وجودها بالصدفة البحتة، بينما قام آخر كان يشغل منصب الرئيس بنقل الاف الوثائق من البيت الأبيض إلى منزله الخاص، وتم العثور على بعض الوثائق السرية في خزانة ملابسه.