غموض يسود حول موقف الجيش البرازيلي من أعمال الشغب الهادفة للإطاحة بالرئيس البرازيلي اليساري المنتخَب حديثاً لولا دا سيلفا، حيث تساءل العديد من المواطنين عما إذا كان الجيش البرازيلي المنحاز تقليداً لليمين، سيتدخل لوقف العنف أم لا.
ووصلتهم الإجابة بحلول مساء الأحد، عندما استعاد الجيش والشرطة العسكرية النظام في العاصمة، بأوامر من الرئيس لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، على الرغم من تعدد المؤيدين المفوهين للرئيس اليميني السابق جايير بولسونارو ضمن صفوف الجيش البرازيلي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
بالنسبة للكثير من المشاركين في أعمال الشغب، التي شملت نهباً للمباني الحكومية في العاصمة يوم الأحد، 8 يناير/كانون الثاني، فإن الأمر كان صدمة، حيث كانوا يتوقعون انحياز الجيش لجانبهم، وفي الوقت ذاته فإن موقف الجيش البرازيلي لم يُرضِ الرئيس دا سيلفا.
البعض يرى موقف الجيش البرازيلي انتصاراً للديمقراطية في البلاد
ولكن ينظر لهذا الموقف على أنه كان لحظة انتصار للديمقراطية البرازيلية، وفقاً لضباط سابقين في الجيش البرازيلي، ومحللين يتابعون القوات المسلحة.
ويمثل الأمر انتصاراً بالنظر إلى الدور المؤثر الذي يلعبه الجيش في السياسة العامة للبرازيل، وبالنظر إلى تاريخ البرازيل القريب مع الديكتاتورية التي انتهت آخر جولاتها في البلاد قبل 38 عاماً، حسب الصحيفة الأمريكية.
إذ قال باولو شاغاس (73 عاماً)، الجنرال المتقاعد من الجيش البرازيلي: "اجتازت البرازيل مرحلة الحكم الاستبدادي، وأصبح الجيش يدرك هذا الأمر جيداً". وأوضح أن البرازيل اليوم أصبحت مختلفةً بشدة عما كانت عليه في الستينيات، عندما كان العديد من المشرعين يدعمون تدخلات الجيش بسبب الخوف من الشيوعية في ذروة الحرب الباردة. وأردف: "سيعارض المؤتمر الوطني ذلك الآن، وكذلك حكام الولايات".
الشرطة العسكرية لم توقف الاضطرابات ودعوات متزامنة للجيش للانقلاب
وفي تمام الثانية من ظهر يوم الأحد، اجتاح آلاف الأشخاص ميدان السلطات الثلاث، مرتدين أقمصة المنتخب الوطني البرازيلي لكرة القدم. وبعد ساعةٍ واحدة، شرعوا في نهب مقار الحكومة، وهشّموا نوافذ مبنى البرلمان (المؤتمر الوطني)، والمحكمة العليا، والقصر الرئاسي.
وكانت أعداد قوات الشرطة العسكرية، المكلفة بتأمين مركز العاصمة قليلةً نسبياً. ولهذا أمضى مرتكبو أعمال الشغب أكثر من 3 ساعات في قلب الأثاث وتحطيم الأعمال الفنية، بينما هتف بعضهم بعبارات مؤيدة لبولسونارو.
ودعا آخرون في برازيليا والمدن الأخرى الجيش إلى الإطاحة بدا سيلفا، الذي تولّى الرئاسة في الأول من يناير/كانون الثاني، بمن فيهم أنصار بولسونارو، الذين اعتصموا لأسابيع أمام قواعد الجيش.
وقالت ليني دا سيلفا، التي تعمل مربية أطفال في ساو باولو: "نريد من الجيش أن يُسقط الأفرع الثلاثة للحكومة. نريد من الجيش تولي السلطة". ولم يتحرك الجيش ضد الحكومة، لكن جنرالات الجيش لم يدلوا بأي تصريحات عامة أيضاً. وبدأت الحياة في العودة إلى طبيعتها داخل العاصمة بعدها بيومين. وانفضت خيام الاعتصام التي نصبها أنصار بولسونارو أمام القواعد العسكرية أيضاً.
يبقى السؤال الأساسي كيف اقترب المحتجون من مباني الحكومة، رغم توفر المعلومات
وتستمع السلطات حالياً إلى شهادات أكثر من 1500 شخص جرى احتجازهم بعد أعمال العنف، بينما يقولون إن السؤال الأساسي هنا هو: كيف اقترب المحتجون من مباني الحكومة في المقام الأول؟
إذ كانت الحكومة والسلطات المحلية في برازيليا على علمٍ بتنظيم الاحتجاجات في يوم الأحد، وفقاً لتصريحات وزير العدل، فلافيو دينو، أمام المراسلين يوم الإثنين، 9 فبراير/شباط. وعقد فريق الوزير اجتماعات مع مسؤولي الحكومة المحلية في برازيليا على مدار الأيام الثلاثة السابقة للاحتجاجات، وفقاً لما أفاد به دينو في مقابلة متلفزة. وأوضح أن السلطات المحلية طمأنته إلى أن كل الأمور تحت السيطرة، في تمام الساعة 12:45 من ظهر الأحد.
لكن سرعان ما اجتاح آلاف المحتجين المباني الفيدرالية أثناء وقوف حفنة من ضباط الشرطة العسكرية على الأبواب.
وأوضح دينو: "أظهرت شرطة القطاع الفيدرالي سلوكاً مثالياً قبلها بأسبوع واحد"، في إشارةٍ إلى السيطرة على الحشود أثناء تأدية دا سيلفا للقسم. ثم تساءل: "ما الذي تغيّر في هذا الأسبوع؟ هذا هو سؤال المليون دولار".
وقال دينو إن المحققين يبحثون في سبب التغييرات الأمنية التي طرأت في اللحظات الأخيرة، وسمحت للمحتجين بالاقتراب من المباني الحكومية لمسافةٍ تختلف عن المتفق عليه مسبقاً.
لماذا توسع دور الجيش في الشؤون المدنية بالبلاد؟
ويُذكر أن القوات المسلحة البرازيلية بدأت تركز على تطوير تدريباتها وحماية غابات الأمازون الشاسعة، وذلك عقب سقوط النظام العسكري الذي حكم البرازيل لـ21 عاماً عندما كان بولسونارو لا يزال نقيباً في الجيش.
ومع ذلك، اعتمد قادة البلاد المدنيين على الجيش بشكلٍ كبير لتنفيذ مختلف السياسات العامة. حيث اضطلع الجيش بتوفير الرعاية الصحية في الأمازون، وتوزيع المياه في المناطق الفقيرة شمال شرق البلاد، وتوفير الأمن في ريو دي جانيرو. وكانت العلاقة متوترةً بين بعض ضباط الجيش وبين حزب العمال الذي يتزعمه دا سيلفا، خاصةً بعد أن شكل الحزب لجنة الحقيقة عام 2011 للتحقيق في جرائم حقوق الإنسان التي ارتكبها الجيش إبان الديكتاتورية العسكرية.
وصرح فينيسيوس دي كارفالو، الملازم السابق في الجيش البرازيل: "شهد الجانب المدني نوعاً من الاعتماد على الجيش في تنفيذ السياسات العامة. وليس هذا الأمر جيداً في سياق العلاقات المدنية-العسكرية، لأن المواطنين سيمنحون الجيش سلطةً أكبر من اللازم في حالةٍ كهذه".
بولسونارو عيّن العشرات العسكريين في حكومته
وعيّن بولسونارو عشرات الشخصيات العسكرية في حكومته، وبينهم العديد ممن تدرّبوا معه في القاعدة نفسها كجنود شباب، كما اختار جنرالاً عسكرياً ليصبح نائبه كرئيس.
وخلال الفترة التي سبقت انتخابات أكتوبر/تشرين الأول الماضي، دعا الجيش لفحص آلات التصويت وسط تأكيداته المتكررة -دون دليل- على أن أصواته ستتعرض للسرقة.
وبعد خسارة الانتخابات التي جرت المصادقة على نتائجها بواسطة مراقبي الانتخابات الدوليين، رفض بولسونارو الاعتراف بالهزيمة، وقال لأنصاره في ديسمبر/كانون الأول: "لم نخسر شيئاً. ولن تكون هناك نهاية سوى الموت".
وربما تماسكت المؤسسات البرازيلية في مواجهة حصار يوم الأحد، لكن الرئيس الحالي دا سيلفا أشار إلى احتمالية مواجهة حكومته لتحديات مستمرة.
دا سيلفا يتهم المخابرات بالإهمال والشرطة العسكرية بدعم المحتجين
وقال دا سيلفا في خطاب متلفز يوم الإثنين: "تصرفت الشرطة في برازيليا بإهمال، وتصرفت أجهزة الاستخبارات في برازيليا بإهمال"، ثم اتهم الشرطة العسكرية في العاصمة "بالدعم الصريح للمحتجين".
وأقالت المحكمة العليا البرازيلية حاكم القطاع الفيدرالي لبرازيليا من منصبه في يوم الإثنين. وكان الحاكم من حلفاء بولسونارو. فيما قضت المحكمة بأن اضطرابات يوم الأحد لم تكن ستحدث دون "موافقة السلطات المحلية أو مشاركتها النشطة".
واستغرب عدم انتقاد القادة لما حدث، ولكن البعض يراه مؤشراً إيجابياً
كما أعرب دا سيلفا عن مخاوفه من عدم انتقاد كبار ضباط الجيش لأعمال العنف التي وقعت في العاصمة. وأردف: "لم يخرج أي جنرال ليقول: لا، يجب ألا يحدث هذا".
لكن بعض المراقبين رأوا أن عدم إدلاء جنرالات الجيش بتعليق علني أثناء الأزمة يعد أمراً إيجابياً بالنسبة للبرازيل. وأوضح كارفالو، الذي يعمل اليوم خبيراً في شؤون الجيش بكلية كينغز لندن: "لم يكن هناك أي إعلانٍ واضح من جانبهم، وهذا مؤشر جيد".
بينما كان تقاعس القوات المسلحة بمثابة خيبة أمل مريرة على الجانب الآخر من الشقاق السياسي. إذ كشف استطلاع أجرته مجموعة Atlas أن نحو 40% من البرازيليين لا يزالون مقتنعين بأن بولسونارو حصد أصواتاً أكثر من دا سيلفا في الانتخابات الأخيرة، رغم عدم وجود أي أدلة تدعم ذلك. وقال 37% منهم إنهم سيدعمون أي تحرك من الجيش للإطاحة به.
وقال ويليام أمورم (46 عاماً)، الكهربائي الذي جاء من ولاية أخرى إلى العاصمة لأنه يريد من الجيش الإطاحة بالحكومة: "بدأت أفقد ثقتي في الجيش. يجب أن يدافعوا عن الشعب".