يعيش العالم منذ 4 عقود في ظل نظام عالمي تحكمه الرأسمالية ويتحكم فيه الأغنياء، فهل نشهد "انقلاباً" نحو اليسار خلال عام 2023؟ وماذا يعني ذلك للشعوب بشكل عام؟
إذ يتخبط العالم في مواجهة أزمة تلو الأخرى، بداية من التغير المناخي وديون الدول النامية وجائحة كوفيد-19، بخلاف الحرب الأوكرانية وأزمة تايوان، وجميعها مؤشرات على ترنح النظام العالمي الحالي.
ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية عاش العالم في ظل نظامين، الأول هو نظام عالم الحرب الباردة ثنائي القطبية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، والذي لم يكن مهتماً إطلاقاً بكيفية إدارة الدول لشؤونها الداخلية. أما بعد الحرب الباردة فقد سقط النظام ثنائي القطبية، وهيمنت الليبرالية الجديدة ليتشكَّل النظام العالمي الليبرالي الحالي أحادي القطبية، الذي تقوده الولايات المتحدة ويتجاهل السيادة الوطنية والحدود، كلما احتاجت واشنطن إلى فعل ذلك.
وادَّعى هذا النظام أنَّه منفتح وليبرالي قائم على القواعد ويدعم قيم الديمقراطية وما يسمى بالأسواق الحرة وحقوق الإنسان وسيادة القانون، لكن في واقع الأمر كان يستند إلى هيمنة القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية للولايات المتحدة. وبالنسبة لمعظم الحقبة التي أعقبت زوال الاتحاد السوفييتي، كانت معظم القوى، من ضمنها الصين الصاعدة، تتبع بوجه عام هذا النظام الذي تقوده الولايات المتحدة.
العالم في مفترق طرق
وبشكل عام، عادة ما يشهد العالم تحولات جذرية في التوجهات السياسية والاقتصادية، فبضع سنوات قد تكون كفيلة بإعطاء بلدان، وحتى قارات، دفعة في اتجاه جديد.
إذ إنه في عام 1945، قرر الأوروبيون أن على بلدانهم قيادة بناء اقتصاد حديث، وتوفير الراحة والسلام لشعوبهم. وعام 1979، نتج عن تضاعف أسعار النفط، الذي أعقب عقداً من الركود التضخمي، الابتعاد عن التعاون المريح بين الدولة والشركات لصالح دور أكبر للأسواق والمشاريع الخاصة.
فهل يمكن أن يكون عام 2023 عاماً آخر شبيهاً بذلك العام؟ مجلة The Economist البريطانية نشرت تقريراً عنوانه "السياسة ستنحى اتجاهاً أكثر يسارية عام 2023"، ألقى الضوء على مؤشرات هذا التحول المتوقع، وبخاصة في الدول الغنية في الغرب.
فالعام الجديد يأتي في وقت ينتهي فيه عقد من أسعار الفائدة المنخفضة، وتعود أسعار الطاقة المرتفعة والتضخم إلى الاقتصاد العالمي، وتطارد الحرب الأوكرانية أوروبا. ويأتي أيضاً في أعقاب واحدة من أكثر الجوائح فتكاً في التاريخ، ومع تراجع الصين عن اندماج عالمي وثيق.
فالعالم يعيش منذ 2020 في ظل أزمات كارثية يعاني منها الجميع دون استثناء، بدأت بجائحة كورونا التي أصابت نحو 666 مليون شخص وأودت بحياة أكثر من 6.7 مليون حول العالم، وتسببت في إيقاف النشاط الاقتصادي لنحو عام كامل. وما أن بدأ العالم يتنفس الصعداء مع التوصل للقاحات حتى تسببت الصراعات الجيوسياسية بين القوى العظمى في تعطيل سلاسل الإمداد وإصابة الإنتاج بمشكلات إضافية.
ثم اندلعت الحرب في أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 لتصيب الاقتصاد العالمي في مقتل، ويعاني الجميع، في الدول الغنية والفقيرة على السواء، من تداعياتها الكارثية، وإن اختلفت حدة المعاناة بطبيعة الحال بين الأغنياء الذين تقلصت ثرواتهم، والفقراء الذين تقطعت بأغلبهم سبل الحياة ذاتها.
وفوق هذا وذاك، يعاني العالم من التداعيات الكارثية للتغير المناخي، التي تهدد الحياة على كوكب الأرض بشكل عام. والمقصود بمصطلح التغير المناخي هو التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض، وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مُسببةً فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها؛ ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة باختصار تهديد وجودي للكوكب ذاته.
تحولات يسارية في الدول الغنية
ولو أن هذه الاتجاهات تنذر بتحولات سياسية واسعة في البلدان الغنية، فمن المتوقع أن تنحى السياسة اتجاهاً يسارياً، ولو أنه يأتي فقط كرد فعل على سياسات حكومات يمين الوسط التي هيمنت على الديمقراطيات الغنية خلال العقد الماضي، بحسب تقرير الإيكونوميست.
ويبدو أن الرأي العام بدأ يتحول إلى اليسار في الديمقراطيات الغنية. ففي الولايات المتحدة، تراجعت نسبة من يرون أن البنوك لها تأثير إيجابي على الاقتصاد من 49% عام 2019 إلى 40% بعد ثلاث سنوات، وفقاً لاستطلاع أجراه مركز بو Pew للأبحاث.
وتراجع دعم شركات التكنولوجيا بنسبة مماثلة وبنسبة أكبر للشركات الكبيرة؛ إذ يرى ربع الأمريكيين فقط أنها ميزة قوية. وهذا يبدو بعيداً كل البعد عن الاعتقاد الذي كان سائداً في الثمانينيات بأن المشاريع الخاصة ستحل العديد من مشكلات العالم.
وهذه المشاعر المعادية للشركات ليست سوى البداية. إذ قال نصف المشاركين أو أكثر في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا لمركز "بو" إن اقتصاداتهم بحاجة إلى تغيير كبير أو إصلاح شامل، وغالبية من طالبوا بإصلاح أكبر وصفوا أنفسهم باليساريين.
ورغبة الجمهور في إحداث تغييرات شاملة قد تكون مدعومة بمخاوف تغير المناخ والاعتقاد بأنه لم تتخذ إجراءات كافية حيالها. وفي استطلاع آخر لمركز "بو" في 19 دولة، وصف ثلاثة أرباع المشاركين تغير المناخ بأنه تهديد كبير، وهذا يجعله مصدر قلق أكبر حتى من الاقتصاد العالمي والجوائح. وفي ظاهر الأمر، يريد الناس ما هو أكثر من سير الأمور على النحو المعتاد.
واحتمالية أن يكون عام 2023 ما يشبه نقطة تحول تدعمها التحولات التدريجية التي تؤدي إلى تغيير واسع النطاق، حتى لو كان تصدُّرها لعناوين الصحف نادراً. فعلى مر عقود من الزمان، نمت نسبة سكان العالم في سن العمل، وهذا أنتج مزيداً من الأيدي العاملة مقارنة بالأطفال والمتقاعدين، ووفر ما يسمى بـ"العائد الديموغرافي" للاقتصاد العالمي.
أفضى هذا إلى ضغط هبوطي على أسعار الفائدة والأجور، ودفع باتجاه تفاوت أكبر في الدخل، ونمو اقتصادي أسرع، وارتفاع قيمة الشركات الكبيرة. لكن خبيريْ الاقتصاد تشارلز غودهارت ومانوج برادهان يعتقدان بإمكانية تغيُّر هذه الاتجاهات، وبسرعة أحياناً.
إذ تراجعت نسبة سكان العالم في سن العمل على مدى عشر سنوات، وبدأت أسعار الفائدة في الارتفاع وانخفضت قيمة الشركات، على الأقل وفقاً لقياسات نسبة السعر إلى الأرباح المعدلة لشركات مؤشر S&P 500، التي انخفضت من 39 نهاية عام 2021 إلى 27 في ديسمبر/كانون الأول عام 2022.
هل يدفع أصحاب المصالح الثمن أخيراً؟
ولكن ما إن كان كل ذلك سيُترجم إلى تغيير كبير في اتجاه السياسة الديمقراطية أمر مختلف. فالرأي العام أو التحولات الاقتصادية ليسا كافيين ليحدث ذلك التغيير. إذ أصبحت نقاط التحول في الماضي ممكنة، لا لأن الأحزاب السياسية تبنت معتقدات جديدة فحسب، ولكن أيضاً لأنها كانت قادرة على تقديم التنازلات اللازمة لوضع هذه الأفكار موضع التنفيذ. وليس واضحاً إطلاقاً أن الأحزاب السياسية لديها التفويضات أو السلطة أو الإرادة لتفعل ذلك الآن.
إذ حققت مارغريت تاتشر ورونالد ريغان انتصارات ساحقة في الثمانينيات، لكن هذه النتائج الحاسمة أصبحت نادرة. فبين عامي 1980 و1996 كان الفائز بالرئاسة الأمريكية يربح التصويت الشعبي بفارق عشر نقاط تقريباً. ومن عام 2000 إلى عام 2020 كان الفارق أقل من 2.6 نقطة.
ويواجه جو بايدن مشكلة جديدة تتمثل في إدارة حكومة منقسمة. وفي بريطانيا، كان الحزب الحاكم يفوز بنسبة 48% من الأصوات في الانتخابات من عام 1945 إلى عام 1960؛ ومنذ عام 2010، كانت حصة الفائزين أقل من 40%، كما تراجعت نسبة إقبال الناخبين تراجعاً حاداً في معظم الديمقراطيات الغنية.
وليس بإمكان الأحزاب الاعتماد على تفويضات شعبية كبيرة. وحتى لو حصلوا على تفويض، فقد لا يدوم. ففي الانتخابات الرئاسية الفرنسية في أبريل/نيسان عام 2022، تغلب إيمانويل ماكرون على مارين لوبان بنسبة 59% إلى 41%. وفي الانتخابات التشريعية بعد شهرين، خسر حزبه أغلبيته وفاز حزب التجمع الوطني الذي ترأسه لوبان بمقاعد جديدة أكثر من أي حزب آخر. ومثل بايدن، أضعفت الحكومة المنقسمة ماكرون.
والأحزاب في أوروبا في الستينيات كانت حركات جماهيرية تضم ملايين الأعضاء. لكنها لم تعد كذلك. وخذ بريطانيا على سبيل المثال، إذ يبلغ عدد أعضاء الأحزاب الستة في البرلمان (باستثناء أحزاب أيرلندا الشمالية) الآن 846 ألف عضو، أي أقل من عدد أعضاء الجمعية الملكية لحماية الطيور.
كما أصبح الناخبون أكثر تقلباً أيضاً، في حين تراجعت أعداد من يعتبرون الأحزاب وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، وعن ذلك، قال روبرت تاليس من جامعة فاندربيلت في ناشفيل بولاية تينيسي في تصريح لهيئة الإذاعة البريطانية BBC: "أصبحت ولاءاتنا الحزبية أنماط حياة، وليست وجهات نظر قائمة على مبادئ عما ما يجب أن تفعله الحكومة".
وأصبحت الأحزاب تمثيلاً لمجموعات المصالح محدودة الأفق -أو في بعض الحالات، للأنانيين المصابين بجنون العظمة- وليست حركات اجتماعية ذات قاعدة جماهير عريضة.
وفي غياب المشاركة الجماهيرية وتزايد الفروق الهامشية في الانتخابات، أصبح ما يحفز الأحزاب في معظم البلدان الديمقراطية الحفاظ على سعادة أكبر عدد ممكن من مؤيديها وتحاشي المخاطرة. وهذا ليس خبراً ساراً لأي شخص يتوقع اتجاهاً جديداً في السياسة، ولربما تكون الرغبة في تغيير شامل موجودة، لكن الحكومات والمعارضة ستكون حذرة في الاستفادة منها.