"رب ضارة نافعة"؛ فلقد أدت النزاعات والحروب إلى انتشار الطاقة الشمسية في البلدان العربية المنكوبة بالصراعات الداخلية، ما أدى إلى ثورة في هذا المجال لم تشهدها البلدان العربية المستقرة، ولم تكن لتتحقق في الظروف الطبيعية.
ولأن الحروب والنزاعات سبب رئيسي في انهيار منظومات الكهرباء، فإنها شجعت على انتشار الطاقة الشمسية في البلدان العربية الأكثر تضرراً منها.
ويُعد الصومال واليمن ومخيمات اللاجئين الصحراويين بالجزائر ومحافظة إدلب السورية التي تسيطر عليها المعارضة، مثالاً حياً على هيمنة الطاقة الشمسية في إنتاج الكهرباء للاستخدام المنزلي والفلاحي على الكهرباء المنتجة من مصادر أحفورية ملوثة للبيئة.
أسباب توسع الطاقة الشمسية في البلدان العربية المنكوبة
وجاء إنتاج الطاقة الشمسية في البلدان العربية المنكوبة بسبب الظروف القاهرة مثل انهيار منظومات الكهرباء الحكومية، وعدم القدرة على توفير الوقود الأحفوري اللازم لإنتاج الكهرباء على نطاق مركزي وواسع لارتفاع تكلفته، وليس من أجل الحفاظ على البيئة، ولكن ذلك شكل نتيجة إيجابية عرضية نادرة للنزاعات بالمنطقة، وأظهر قدرة الإنسان العربي على التكيف مع الظروف الصعبة.
ما يميز إنتاج الطاقة الشمسية في مناطق النزاعات في المنطقة العربية أنها لامركزية، وساهم انخراط القطاع الخاص بشكل واسع في استخدامها على نطاق شخصي أو عائلي أو تجاري محدود، في تحولها إلى اقتصاد قائم بذاته.
فما دام هناك طلب ثمة سوق، ما حوّل تجارة الألواح الشمسية والمولدات الصغيرة، فضلاً عن الأسلاك الكهربائية والقواطع، إلى تجارة مزدهرة في مناطق النزاعات، ينشط فيها المستوردون والمهربون وتجار الجملة والتجزئة ومحلات الصيانة والمهندسون والفنيون المتخصصون والهواة أيضاً.
إنها صورة مصغرة عن عالم المستقبل ولو بصورة بدائية، حيث تمثل الطاقة الشمسية النظيفة أساس إنتاج الكهرباء على نطاق واسع، حسبما ورد في تقرير لوكالة الأناضول.
الأمر بدأ من المساعدات الإنسانية ثم تحول لتجارة مزدهرة
انتشار استخدام الطاقة الشمسية انطلق بداية بمساعدات كانت تقدمها منظمات إنسانية للعائلات المنكوبة خاصة في مخيمات اللاجئين والنازحين لمساعدتهم على إضاءة خيامهم ومنازلهم.
فحالة النزوح أو اللجوء والترحال من المناطق الساخنة إلى أماكن أكثر أماناً، جعلت اللاجئين والنازحين محرومين من أدنى الخدمات، وبينها الكهرباء.
ونظراً لصعوبة ربط المخيمات المؤقتة في المناطق النائية بشبكات الكهرباء لأسباب كثيرة بينها التكلفة الكبيرة، زودت منظمات إنسانية بعض العائلات بألواح شمسية فردية مع مولدات صغيرة، وكل ما يحتاجونه من أسلاك وقواطع لإضاءة خيامهم ومنازلهم البائسة.
كانت هذه التجربة عمليةً وناجحةً، خاصة مع اشتراك مؤسسات مانحة مثل البنك الدولي والمفوضية الأوروبية وحتى متبرعين في تزويد العائلات النازحة أو اللاجئة بألواح شمسية ومولدات صغيرة ليست غالية جداً، توفر الحد الأدنى من الطاقة.
ومع ظهور أعطاب في المولدات والألواح الشمسية، وعدم كفايتها للحاجة خاصة في الأيام غير المشمسة، وضعف حجم التخزين الذي لا يصمد طويلاً مع كثرة الاستهلاك، ظهرت الحاجة إلى مهندسين وفنيين متخصصين لإصلاح الأعطاب وتركيب منظومات الطاقة الشمسية في المنازل.
كما سعى بعض اللاجئين لشراء مولدات أكبر حجماً وألواح أكثر قدرة على استقطاب الطاقة الشمسية، خاصة مع تحسن الأوضاع المعيشية لبعضهم، وتوسع استعمالها لتشمل المتاجر والمستشفيات والمدارس، ما أوجد طلباً على مختلف التجهيزات المتعلقة بالطاقة الشمسية.
هذا الطلب المتزايد حفّز كبار التجار والمهربين لاستيراد مختلف مستلزمات الطاقة الشمسية وبيعها في مخيمات النزوح وفي البلدات النائية، بل حتى في المدن العامرة، وأصبح هناك نازحون ولاجئون اكتسبوا خبرة تقنية في تركيب وصيانة تلك المنظومات.
وبذلك أصبحت الطاقة الشمسية أمراً شائعاً ومألوفاً بين الناس في مناطق النزاع، وحتى التكلفة التي تعد عائقاً أمام ازدهارها في العالم، لم تعد كذلك بالنسبة للنازحين واللاجئين، إما لأنهم يحصلون عليها مجاناً، أو أنها أقل تكلفة من الكهرباء التقليدية، خاصة في ظل تهالك منظومات الكهرباء القديمة وكثرة انقطاعاتها.
اليمن أصبح رائداً في مجال الطاقة الشمسية، والانطلاقة من دول الخليج
"الأزمة السياسية والحرب نجحتا خلال الأعوام الماضية، فيما فشلت فيه الجهود السابقة"، بهذه الجملة اختصر مسؤول بقطاع الكهرباء اليمنية، في تصريح صحفي، النجاح الذي تحقق في استخدام الطاقة الشمسية خلال 10 سنوات من الحرب، بينما فشل القطاع الحكومي في تحقيق هذا الهدف طوال 30 عاماً من النظريات والدراسات.
ففي مفارقة غريبة، تحول اليمن بفعل الحرب وانقطاعات الكهرباء لساعات طويلة، مع غلاء الوقود المستخدم في إنتاج الكهرباء، إلى إحدى الدول الرائدة في انتشار استخدام الطاقة الشمسية.
حيث لا يكلف كيلوواط من الطاقة الشمسية سوى 10 سنتات على أقصى تقدير، بينما يكلف 21 سنتاً عندما يستخرج من الطاقة الأحفورية، وفق الحكومة اليمنية.
كما تم تزويد أكثر من ألف مضخة للمياه بالطاقة الشمسية، بحسب وسائل إعلام عربية، ما ساعد الفلاحين في العودة لاستغلال أراضيهم التي هجروها مع ارتفاع أسعار الوقود.
فمن بين المشاريع الحكومية المدعومة خليجياً مشروع "استخدام الطاقة المتجددة لتحسين جودة الحياة في اليمن"، في 5 محافظات: (تعز، وحضرموت، وأبين، ولحج، والساحل الغربي).
كما وقعت الحكومة اليمنية مع شركة "مصدر" الإماراتية المتخصصة في الطاقات المتجددة، نهاية 2022، اتفاقية لتشييد محطة للطاقة الشمسية، الأكبر من نوعها في البلاد، بقدرة إنتاج 120 ميغاواط/ساعة.
لكن القطاع الخاص ما زال يلعب الدور الأساسي في إنتاج الجزء الأكبر من الكهرباء بالطاقة الشمسية، مع أن المشاريع الحكومية الممولة خليجياً ودولياً أكبر حجماً، رغم قلتها.
الصومال.. طاقة الرياح تستخدم بالإضافة لتلك المولدة من الشمس
لا تختلف تجربة الصومال في استغلال الطاقة الشمسية كثيراً عن تجربة اليمن، بل قد تتفوق عليها في استخدام طاقة الرياح التي تتميز بها منطقة القرن الإفريقي.
فالحرب الأهلية وما تلاها من عدم استقرار أمني أديا إلى انهيار منظومة الكهرباء، وتسببا في ساعات طويلة من انقطاع التيار، فضلاً عن ارتفاع أسعار الوقود الأحفوري الذي تستورده البلاد لتوليد الطاقة، والذي يعادل ثلاثة أضعاف السعر العالمي.
هذا الوضع المتأزم على أكثر من جبهة، دفع الناس للتوجه نحو الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، فمناخ البلاد مشمس لأيام طويلة في السنة، وسرعة الرياح هي الأعلى في العالم، ما يجعل الصومال مؤهلاً لإنتاج كميات مهمة من الطاقات النظيفة.
فانهيار شبكة الكهرباء ساعد على انتشار استخدام الألواح الشمسية في المنازل والمدارس والمستشفيات ومضخات المياه بفضل تقليص كلفة إنتاج الكيلوواط إلى أقل من 40 سنتاً، مقارنة بـ2.5 دولار للكيلوواط، وفق وسائل إعلام.
وساهمت المساعدات الدولية في دعم قطاع الطاقات المتجددة وانتشاره من خلال توفير التمويل والمساعدات التقنية، ما قلص سعر الكيلواوط من الكهرباء، وأدى إلى دخوله المرحلة التجارية باستثمار عدة شركات صغيرة ومغتربين عائدين من الخارج في توليد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وإعادة بيعها للمستهلكين.
فالقطاع الخاص يلعب الدور الرئيسي في إنتاج الطاقات النظيفة في ظل ضعف القدرات المالية للحكومة، التي تعتمد بشكل كبير على المنح والمساعدات المالية لتمويل مشاريعها في هذا القطاع.
المساعدات الأوروبية والجزائرية تبقي مخيمات الصحراويين مضاءة
ما يلفت الزائر أول مرة لمخيمات اللاجئين الصحراويين في ولاية تيندوف جنوب غربي الجزائر، توفر الكهرباء ولو بشكل متواضع في خيم ومنازل اللاجئين.
وتعتمد المخيمات بشكل كبير على الطاقة الشمسية في توليد الكهرباء، حيث استفاد اللاجئون من دعم منظمات إنسانية ودولية، خاصة الأوروبية منها، وعلى رأسها الإسبانية، المستعمر السابق لإقليم الصحراء (1975-1884) المتنازع عليه بين المغرب وجبهة البوليساريو.
كما تساهم جمعيات ومتبرعون جزائريون بتزويد الأسر الصحراوية بألواح شمسية، ومولدات كهربائية صغيرة لإنارة الخيام والمنازل، وبالكاد تكفي أيضاً لشحن الهواتف والحواسيب.
وفي الأيام الغائمة، لا تكفي الطاقة المولدة من الشمس لإنارة بيت لليلة واحدة، فالقدرة التخزينية للمولدات المتبرع بها غالباً ما تكون محدودة.
بينما تكون الطاقة الشمسية المستخدمة في المستوصفات أعلى قدرة على غرار تلك الممولة من جمعية "ADERS" السويسرية.
فعلى عكس الصومال واليمن، يعتمد معظم اللاجئين الصحراويين المنتشرين في 5 مخيمات بالجنوب الغربي الجزائري على المساعدات الدولية، بما في ذلك تمويل مشاريع صغيرة للطاقة الشمسية، التي تمثل حلاً عملياً لنقص تغطية المخيمات والمناطق الخاضعة لسيطرة البوليساريو في إقليم الصحراء بالكهرباء.
ثورة الطاقة الشمسية بشمال سوريا
بشكل غير متوقع، انطلقت ثورة للطاقة الشمسية بشمال سوريا، جراء الأوضاع المأساوية في الجيب المحاصر الذي تسيطر عليه المعارضة المسلحة في محافظة إدلب، حيث لجأ عدد كبير من الأشخاص الذين انقلبت حياتهم رأساً على عقب بسبب الحرب الأهلية في البلاد، إلى استخدام تكنولوجيا الطاقة الشمسية، لأنها بكل بساطة أرخص مصدر كهرباء حولهم.
وعلى العكس من إدلب، لا تواجه المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في سوريا مشكلة في الطاقة، لأنهم يسيطرون على معظم نفط سوريا، ويبيعون النفط لنظام الأسد، بل ويحاولون استغلال الأزمة الناتجة عن العقوبات التي فرضها قانون قيصر الأمريكي على النظام السوري للحصول على حق بيع نفط البلاد الذي يسيطرون على أغلبيته في الأسواق الدولية.
تتبدى ثورة الطاقة الشمسية بشمال سوريا حيث تسيطر المعارضة، في الألواح الشمسية بأحجام كبيرة وصغيرة، وموديلات جديدة وقديمة، في كل مكان بمحافظة إدلب السورية على الحدود مع تركيا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وتكون هذه الألواح مجهزة في أزواج أو مجموعات ثلاثية على الأسطح والشرفات الخاصة بالوحدات السكنية، وكذلك مثبتة أعلى خيام اللاجئين وبالقرب من المزارع والمصانع فوق أرصفة ضخمة تدور كي تتبع مكان الشمس في السماء.
قال رضوان الشمالي متحدثاً عن اللوحة الشمسية التي تولد 270 واط، والتي تعد المصدر الوحيد للكهرباء لدى عائلته: "إنها مهمة للغاية لحياتنا، عندما تكون هناك شمس أثناء النهار، نستطيع الحصول على إضاءة في الليل".
ومنذ 12 ديسمبر/كانون الأول 2018، تشرف منظمة "بنفسج" على مشروع لإنارة منشآت طبية وصحية بالطاقة الشمسية في الشمال السوري، كما انتعشت تجارة الألواح الشمسية في مناطق النظام، خاصة في أوقات تفاقم أزمات النفط التي أثرت على خدمات الكهرباء.
إنها الخيار الوحيد المتاح أمام كثيرين في منطقة قطعت الحكومة الطاقة عنها، وحيث يفوق استيراد الوقود للمولدات الخاصة إمكانيات غالبية الأشخاص.
قال أكرم عباس، وهو مستورد لوحات طاقة شمسية في مدينة الدانا: "ليس هناك بديل. الطاقة الشمسية هي نعمة من الله".
الأسد قطع عنهم الكهرباء فلجأوا في البداية للمولدات
برزت إدلب في بداية الحرب بوصفها معقلاً للمعارضة المسلحة، وذلك هو السبب الذي جعل الحكومة السورية تحذفها من شبكة الطاقة الوطنية، التي تزوَّد بالوقود عن طريق محطات طاقة تعمل بالغاز وسدود كهرومائية قائمة على نهر الفرات.
لجأ السكان المحليون في البداية إلى المولدات، وصار الزئير الدائم والعادم الضار الناتجان عن هذه المولدات جزءاً أساسياً من نمط الحياة في المدن التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة.
كان معظم الوقود لبعض الوقت يأتي من الآبار النفطية الموجودة في شرق سوريا، التي كان يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وتذهب للنظام السوري في صفقات بعضها معروف بين الطرفين. وكان يجري تكريرها محلياً وتكون قذرة للغاية، ما يعني أنها تفسد المولدات، وهو ما يتطلب صيانة دورية مكلفة.
وعندما خسر داعش آخر معاقله في سوريا في عام 2019، كان الجزء الشمالي الغربي من سوريا يستورد الوقود من تركيا، وكان أنقى بكثير، لكنه يكلف ضعف السعر، إذ يصل إلى حوالي 150 دولاراً للبرميل بحجم 58 غالوناً من الديزل التركي، مقارنة بـ60 دولاراً للبرميل من النفط القادم من شرق سوريا قبل أعوام قليلة من ذلك الوقت، خاصة أن تركيا دولة غير نفطية، وأسعار الوقود فيها محررة.
الألواح الشمسية.. ثمن باهظ عند الشراء
دفع ارتفاع الأسعار المستهلكين إلى أحضان الطاقة الشمسية، فيما أطلق عليه ثورة الطاقة الشمسية بشمال سوريا، وذلك حسبما قال أحمد فلاحة، الذي يبيع ألواحاً شمسية وبطاريات في مدينة بنش بمحافظة إدلب.
كان فلاحة يبيع في الأساس المولدات، ولكنه أضاف إلى بضاعته الألواح الشمسية في عام 2014. لم تكن هذه الألواح شائعة في البداية، لأنها أنتجت طاقة أقل، ولكن عندما ارتفعت أسعار الوقود لاحظ الناس في الليل أن جيرانهم الذين يملكون الألواح الشمسية كان لديهم ضوء بينما كان الآخرون يعيشون في ظلام. ارتفع الطلب على الألواح الشمسية، وتوقف فلاحة عن بيع المولدات في عام 2017.
وأوضح قائلاً: "الآن نعمل باستخدام الطاقة الشمسية نهاراً وليلاً".
ومع اعتياد الناس على استخدام الطاقة الشمسية بدأ أحمد فلاحة في بيع أجهزة طاقة شمسية كبيرة للورش ومزارع الدواجن. فقد باع مؤخراً أكبر صفقة حتى الآن، وهي 160 لوحاً شمسياً مقابل 20 ألف دولار، واشتراها مزارع أوشك على الإفلاس بسبب شراء الديزل من أجل تشغيل ماكينات الري، وكان في حاجة إلى بديل أرخص.
قال فلاحة: "إنها باهظة الثمن في البداية، لكنها مجانية بعد ذلك". وعرض فيديو على هاتفه لرشاشات ري مدعومة بالطاقة الشمسية، بينما كانت تسقي حقلاً أخضر مورقاً.
أعرب المزارعون الذين تبنوا الطاقة الشمسية عن تقديرهم لميزاتها، وأبرزها التخلص من الضوضاء والدخان الناتجين عن المولدات، لكن الأسعار هي التي مثلت أهمية بالنسبة لهم.
غالبية الأشخاص في شمال غرب سوريا تكون احتياجاتهم من الطاقة أبسط بكثير، ولا يحتاجون إلا لقليل من المال لاستثماره في هذه الألواح.
ولذا فإن غالبية عائلات اللاجئين التي تعيش في خيام مكتظة تملك لوحاً شمسياً واحداً على الأقل، يكفي لشحن هواتفها وتوليد الطاقة اللازمة للإضاءة في الليل. بينما تملك عائلات أخرى 3 أو 4 ألواح شمسية توفر الطاقة لمظاهر الرفاهية الأخرى، مثل أجهزة راوتر الإنترنت والتلفاز.