ماذا يعني انضمام السويد تحديداً لحلف الناتو؟ ولماذا يمثل ذلك كارثة بالنسبة لروسيا؟ وما سر عسكرة بحر البلطيق التي تجري على قدم وساق؟
إذ إن السويد، مثل فنلندا، هي واحدة من الدول الاسكندنافية التي تقع شمال أوروبا وليست عضواً في حلف الناتو، لكن تاريخها المعقد مع روسيا القيصرية أضفى بعداً آخر على حالة الذعر التي تعيشها أوروبا بشكل عام منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، فلماذا غيرت السويد استراتيجية "الحياد" التي اتبعتها منذ عام 1812 وقررت الانضمام للناتو؟
منصة "أسباب" رصدت إجابة السؤال وكيف سيؤثر انضمام السويد لحلف الناتو على روسيا وموقعها الجيوسياسي في منطقة بحر البلطيق تحديداً وفي أوروبا بشكل عام، بعد أن تقدمت السويد، في مايو/أيار 2022، بطلب رسمي للانضمام إلى الحلف العسكري الغربي.
"الروس قادمون".. السويد والهيمنة على البلطيق
وحتى تتضح الصورة أكثر بشأن القلق السويدي من روسيا، والذي جاءت الحرب الأوكرانية لتحسم الموقف تماماً، من المهم هنا إلقاء الضوء على تاريخ الدولتين، فالسويد قبل أكثر من أربعة قرون كانت تعتبر من الدول الكبرى في أوروبا.
وكانت السويد قد بدأت في نشر قوات عسكرية في جزيرة غوتلاند المطلة على بحر البلطيق خلال الأيام القليلة التي سبقت الهجوم الروسي على أوكرانيا، وأرسلت الدولة الاسكندنافية تعزيزات عسكرية إلى الجزيرة المطلة على بحر البلطيق والقريبة من روسيا.
مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيات، رسلان بوخوف، قال لموقع "روسيا اليوم" إن "روسيا بالنسبة إلى السويد هي مرعبة منذ زمن بعيد حتى قبل عهد كارل الثاني عشر (ملك السويد)، وهم يجلُّون هذه الذكريات"، مضيفاً أن السويديين أقاموا بناءً تذكارياً لتخليد ذكرى كنيسة أحرقتها قوات بطرس الأول، رغم مرور 400 سنة على الحادث.
والإشارة هنا إلى وقت كانت فيه السويد إمبراطورية وقوة عظمى في أوروبا وسعت إلى غزو الأراضي الروسية وضمها إليها، لكن القيصر الروسي بطرس الأول انتصر على ملك السويد في معركة "بولتافا" عام 1709، فكانت تلك المعركة بداية النهاية لمملكة السويد التي كانت تشمل منطقة البلطيق. ومنطقة "بولتافا" تقع في أوكرانيا حالياً.
ومنذ ذلك الوقت أصبحت عبارة "الروس قادمون!" محفورة في أذهان السويديين، إذ عندما عاد ملكهم كارل الأول مع القليل المتبقي من رجاله كانوا يصيحون بالعبارة تحذيراً لأهالي البلاد.
وبعد 100 عام من معركة "بولتافا"، ومنذ نهاية الحرب الفنلندية عام 1809 وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، أصبح بحر البلطيق أشبه ببحيرة روسية بشكل كامل.
وخلال التسعينيات من القرن الماضي، دخلت المنطقة في وقتٍ جيوسياسي مستقطع، لكن بعد أن بدأ حلف الناتو تمدده شرقاً في أوروبا وضم بولندا، وإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، لم يعد لدى روسيا سوى نقطة وصول واحدة قرب سانت بطرسبرغ، وأصبحت قاعدتها البحرية في كالينينغراد معزولةً عن بقية البلاد. وبالتالي فإن توسع حلف الناتو شرقاً قد أدى إلى إضعاف قبضة روسيا في البلطيق بشدة.
ولطالما كانت الجغرافيا في صالح السـويد، إلا أن أراضيها الصالحة للعيش لا تتجاوز ثلث مساحتها، حيث تغطي الجبال والغابات الكثيفة شمال السويد يتعذر معها الوصول إلى الكثير من أجزاء البلاد، إذ يحتوي الشمال على مواقع تعدينٍ قيّمة لكن بقية أراضيه تظل شبه خالية من السكان، بينما يقع في أقصى الجنوب القلب السكاني والصناعي للسويد. ويعيش ويعمل غالبية مواطني السـويد البالغ عددهم 10 ملايين داخل الحزام الممتد من غوتنبرغ إلى ستوكهولم إلى مالمو.
ولأن قلب السـويد النابض محاطٌ بالبحر من كل جانب، نجد أن التجارة البحرية مع أوروبا لها دورٌ كبير في رخاء السويد، وإذا غابت تلك التجارة مع أوروبا ستخسر السويد نحو 45% من ناتجها المحلي الإجمالي. ويُعتبر بحر البلطيق من أزحم الممرات المائية في العالم، حيث يمثل 15% من حركة التجارة البحرية العالمية.
لكن روسيا لها نصيب الأسد من حركة الشحن في بحر البلطيق بشكل عام، حيث تتجمد الكثير من موانئ خليجي فنلندا وبوثنيا في الشتاء.
ولأن رخاء دول البلطيق يعتمد بالأساس على الوصول البحري لموانئ بحر البلطيق، تسعى دول تلك المنطقة للسيطرة على أكبر عدد ممكن من نقاط الوصول، وكانت السويد تهيمن على المنطقة بأكملها في القرن السابع عشر لكنها خسرت كل شيء تقريباً.
عسكرة كالينينغراد.. قلق سويدي فنلندي
وفي هذا السياق، وجدت روسيا من منظورها أن السبيل الوحيد لمواجهة الناتو يكمن في عسكرة كالينينغراد وهذا ما فعلته موسكو تحديداً، حيث نشرت أسلحة منع دخول المنطقة والأنظمة المضادة للطائرات والصواريخ، ونشرت القاذفات المقاتلة والصواريخ المضادة للسفن. وقدّر الروس أن إنشاء فقاعة بحرية جوية سيُتيح لهم تقييد حركة قوات الناتو في المنطقة وتحويل بحر البلطيق إلى بحيرةٍ روسية من جديد.
ونجحت الاستراتيجية الروسية لفترة من الزمن، إذ تحملت الدول المجاورة أسلوب اللعب الروسي الجديد، لكن الصراع في أوكرانيا قلب موازين المعادلة، حيث سارعت السويد وفنلندا إلى الانضمام لحلف الناتو حتى تصبح جزءاً من المظلة الأمنية الأمريكية.
ماذا يعني انضمام السويد للناتو بالنسبة لمنطقة البلطيق؟
انتاب السـويد وفنلندا شعورٌ بالقلق من عودة روسيا فأعلنتا ترشحهما لعضوية الناتو في مايو/أيار 2022، وتستطيع عضوية فنلندا في الناتو أن تسحق النفوذ الروسي داخل شبه جزيرة كولا، كما سيؤدي انضمام السـويد إلى سحق النفوذ الروسي في بحر البلطيق.
إذ تُعتبر السويد جزءاً من شبه الجزيرة الإسكندنافية، لكنها في الوقت تظل قوة كبرى في دول البلطيق، حيث تمتلك أكبر مجالٍ بحري في بحر البلطيق مع وصولٍ حر إلى بحر الشمال بفضل مدينة غوتنبرغ.
وتجعل هذه العوامل من السويد الدولة الأهم استراتيجياً في منطقة البلطيق تقريباً، وتمثل جزيرة غوتلاند درة التاج في الأراضي السويدية، حيث تقع على بعد 170 كيلومتراً جنوب ستوكهولم.
ورغم أن غوتلاند تشغل أقل من 1% من إجمالي مساحة أراضي السويد، إلا أن شواطئها الممتدة تجعلها موقعاً مثالياً للقواعد العسكرية، وتستقر غوتلاند في قلب بحر البلطيق على بُعد 250 كم فقط من القاعدة البحرية الروسية في كالينينغراد، ويضم بحر البلطيق العديد من نقاط الاختناق التي يمكنها إعاقة خطوط الاتصال الروسية لكن غوتلاند تحتل رأس القائمة.
وبالتالي فإن السويد -وحلف الناتو بالتبعية- تستطيع تحويل الجزيرة إلى برج مراقبة للسيطرة على جزءٍ كبير من الحركة البرية والبحرية في محيطها. وكانت السويد قد فككت وحداتها على الجزيرة عام 2005 لكنها بدأت إعادة عسكرة الجزيرة الآن تمهيداً لانضمامها إلى الناتو رسمياً.
وتجري حالياً زيادة حجم البنية التحتية وأعداد الأفراد والمعدات على الجزيرة، حيث تستهدف السـويد نشر 4,000 جندي جاهز للقتال داخل جزيرة غوتلاند بنهاية عام 2022.
كما تعتبر جزيرة غوتلاند محطةً قيّمة لربط الكابلات البحرية في بحر البلطيق، إذ ترتبط الدول المحيطة بمجموعة كابلات بحرية تحت الماء لتخدم اتصالات البيانات الرقمية مثل الإنترنت وحركة الشبكات الخاصة، وتمر العديد من اتصالات أعضاء الناتو عبر منشآت الكابلات الخاصة بغوتلاند بما في ذلك اتصالات وظائف القيادة والتحكم.
ماذا تعني عسكرة غوتلاند لروسيا؟
في ظل هذه المعطيات، سيمنح انضمام السـويد للحلف العسكري الغربي عمقاً استراتيجياً داخل المنطقة التي كان الروس يهيمنون عليها بشكل كامل في وقتٍ من الأوقات.
إذ تعد جزيرة غوتلاند أهم الأصول في بحر البلطيق، ولا شك أن الدولة التي ستسيطر عليها وتنشر أنظمتها المضادة للسفن فيها ستتمكن من صياغة شكل النشاط العسكري إقليمياً.
وربما يأتي هذا التطور بسرعةٍ أكبر من أي مكان آخر، فالجيش السـويدي مجهزٌ للتشغيل المتوافق مع قوات الناتو بالفعل، وبمجرد انضمام السـويد وفنلندا إلى الناتو ستصبح جميع الدول المشاطئة على بحر البلطيق جزءاً من التحالف نفسه ليصوبوا جميع أسلحتهم في وجه روسيا.
ستجري عسكرة غوتلاند على وجه السرعة لتضع السويد في قلب الخريطة الجيوسياسية لشمال أوروبا، وهو ما يعني أن روسيا ستخسر تفوقها في العتاد والأفراد، وسيصبح نطاق العمليات الروسية مقيداً نتيجة انعدام حلفائها في بحر البلطيق.
إذ تمتلك روسيا قواعدها العسكرية في بيلاروسيا شرق أوروبا ولديها قواعد في أرمينيا بمنطقة القوقاز وقواعد كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان في آسيا الوسطى، أما في بحر البلطيق، فتقف موسكو بمفردها تماماً وتحاوطها دول الناتو من جميع الجهات.
وفي ظل انعدام الحلفاء لن تمتلك روسيا ما يكفي من الأعداد أو المساحة لمواصلة القتال، ناهيك عن أن حجم وحدات الجيش الروسي الجاهزة للقتال والوحدات المميكنة في شمال غرب روسيا منخفض نسبياً، ويرجع السبب إلى أن الكرملين أعطى الأولوية لاستخدام القوة الصلبة في منطقة القوقاز وعلى الحدود الأوكرانية وفي منطقة القطب الشمالي.
ماذا عن خطط السويد العسكرية؟
وضعت السويد خططاً عسكرية ضخمة بالفعل، حيث تخطط ستوكهولم لزيادة إنفاقها الدفاعي بنسبة 40% بين عامي 2021 و2025، بالإضافة إلى زيادة أعداد قوات جيشها من 60,000 إلى 90,000 جندي بحلول عام 2025.
كما طلبت عدة سفن وغواصات جديدة وأعادت تنشيط قواعدها الجوية والبحرية السابقة.
ولا شك أن هذه التطورات السريعة جديرة بالاهتمام لأن السويد تُعَدُّ قوةً بحرية عميقة الجذور ولها تقاليدها البحرية التي ترجع أصولها لحقبة الفايكنغ، وحتى في يومنا هذا تمتلك السويد أكبر أسطولٍ في بحر البلطيق بإجمالي 164 سفينة مقابل 59 سفينة لروسيا.
ولا خلاف على أن الزوارق القتالية تشكل غالبية الأسطول السويدي، لكن حتى إذا استثنينا الزوارق من المعادلة فسنجد أن القدرات البحرية لروسيا والسـويد متقاربة بشدة.
الخلاصة هنا هي أن روسيا، التي لعبت دوراً مهيمناً في الثقافة الاستراتيجية السويدية لدرجة أن السـويد التزمت سياسة الحياد منذ عام 1812، تجد الآن ستوكهولم خصماً خطيراً للغاية يهدد وجود موسكو في منطقة البلطيق، بعد سنوات طويلة من تركيز ستوكهولم على شؤونها الخاصة ومُحاولةً الابتعاد عن طريق روسيا.
لكن الهجوم على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، جاء بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير ودفعت لانضمام السويد لحلف الناتو.