"المونديال الإفريقي أو المونديال العربي"، يبدو أن هذا الوصف مناسباً تماماً لبطولة كأس العالم بقطر 2022، وهي توشك على الانتهاء بإنجاز غير مسبوق للمنتخبات العربية والإفريقية.
إذ نجحت جميع فرق قارة إفريقيا في تحقيق فوزٍ واحد على الأقل خلال مرحلة المجموعات في كأس العالم بقطر لأول مرةٍ في التاريخ. كما نجح منتخبان من إفريقيا في اجتياز مرحلة المجموعات في رقمٍ قياسي آخر. بينما أصبح المغرب أول منتخبٍ إفريقي وعربي يلعب في نصف نهائي كأس العالم لكرة القدم، حسبما ورد في تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
الأفارقة في كأس العالم بقطر لعبوا البطولة على أرضهم
أظهرت الدول الإفريقية والعربية شغفها في قطر، وجلبت الكثير من الفخر لشعوبها، وذلك في خلفية البطولة التي بدأت السياسات والشركات العالمية تؤثر عليها بنحوٍ متزايد.
وبينما كان الظهور القوي للجمهور العربي متوقعاً، باعتبار قطر دولة عربية وتستضيف جاليات عربية كبيرة، ولكن كان اللافت في البطولة الحضور القوي والمميز لجماهير دول إفريقيا جنوب الصحراء.
ولا عجب في أن براعة وألوان مجموعة التشجيع السنغالية الشهيرة 12eme Gainde جذبت أنظار مديري البث التلفزيوني في المباريات. بينما عزفت مجموعات الجماهير الغانية والكاميرونية أنغامها، التي تشبه الموسيقى التصويرية للأفلام المثيرة، أينما حلت وارتحلت منتخبات بلادهم.
لكن جماهير دول إفريقيا جنوب الصحراء لم تتمكن من مضاهاة حناجر مشجعي المغرب وتونس التي أحدثت صخباً في كأس العالم. إذ كانوا يقابلون كل تشتيت للكرة بصيحات تشجيع صاخبة، بينما يتعالى صوت صفيرهم واستهجانهم مع كل لمسةٍ للمنافسين.
لماذا تدفق الأفارقة على قطر بهذا الشكل غير المسبوق؟
ولم يكن كل ذلك سيحدث لو لم تستضف قطر بطولة كأس العالم الجارية، وفقاً لتقرير لشبكة CNN.
ويقول التقرير إنه لطالما كانت الدوحة مركزاً للسفر في آسيا وإفريقيا أيضاً. ما جعل السفر إلى الدوحة بالنسبة لغالبية المشجعين الأفارقة أسهل مما كان عليه الحال في بطولة 2010، عندما لُعِبَت البطولة على أراضٍ إفريقية وهي جنوب إفريقيا.
ويكشف البحث على جوجل أن السفر الجوي من دوالا إلى الدوحة يُعتبر أرخص من السفر من دوالا إلى جوهانسبرغ. كما تمر أرخص رحلة جوية من الدار البيضاء إلى جوهانسبرغ عبر الدوحة أيضاً.
وليست كأس العالم الجارية هي الأقل تكلفةً بالنسبة للأفارقة فقط، بل كان الوصول إليها أسهل من أي بطولةٍ سابقة أيضاً. حيث سهّلت قطر حصول مشجعي الدول الإفريقية على التأشيرات أكثر من أي مضيف سابق للبطولة، وفقاً لخبير كرة القدم الكاميروني فرانسيس نكواين.
ولا أحد يضاهي الجماهير العربية
ولا يمكن الاستهانة بسهولة الوصول إلى البطولة، لأنها حوّلت المباريات المحايدة بالنسبة للعديد من المنتخبات الإفريقية إلى مباريات يلعبها المنتخب "على أرضه".
وتجلّت تلك الفكرة على نحوٍ خاص مع دول شمال إفريقيا العربية، التي اعتمدت على دعم جماهير إفريقيا والعالم العربي. وسارع مدرب المنتخب المغربي، وليد الركراكي، للاعتراف بتلك الفكرة، حيث قال قبيل فوزه على إسبانيا: "لم يشجعنا في السابق سوى المغاربة. واليوم يشجعنا العرب والأفارقة".
ولا عجب في أن الدول الإفريقية قدمت أفضل كأس عالم منذ البطولة التي استضافتها جنوب إفريقيا، وذلك استجابةً لدعم وشغف جماهيرها.
لا "سباكين" بعد اليوم!
تُنتج القارة الإفريقية مجموعةً من أفضل اللاعبين في تاريخ كرة القدم منذ عقود، لكن الوضع لم يكن كذلك بالنسبة لمدربي القارة.
إذ اعتمدت المنتخبات الإفريقية تاريخياً على قيادة المدربين الأوروبيين، نتيجةً لضعف البنية التحتية لتطوير المدربين الأفارقة، وعدم منحهم أي فرص في المستويات العالية.
ويُطلَق على المدربين الأوروبيين في الأوساط الكروية الإفريقية وصف "السباكين" عادةً. لكن اتجاه المنتخبات الإفريقية للتعاقد مع مدربين أجانب بدأ يتغير.
ويستحق هذا التطور الاحتفال من وجهة نظر البلجيكي توم سانتفيت، مدرب المنتخب الغامبي، الذي وصل بهم إلى بطولة كأس الأمم الإفريقية للمرة الأولى في تاريخهم خلال العام الجاري.
حيث صرّح سانتفيت لشبكة CNN الأمريكية، قائلاً: "تكمن أكبر ميزة الآن في أن المنتخبات الإفريقية لم تختر المدربين الكبار ذوي الأجور المرتفعة".
لأنه لأول مرة كل المنتخبات الإفريقية تحت قيادة وطنية
وللمرة الأولى في التاريخ، شاركت جميع المنتخبات الإفريقية في بطولة كأس العالم تحت قيادة مدربين وطنيين، ونجحوا في تحقيق النجاح بدرجاتٍ متفاوتة.
ولا شك أن أنجحهم كان وليد الركراكي، الذي احتل واجهة ثورة التدريب في القارة، حيث تشهد تلك الثورة تولي اللاعبين السابقين للمهام التدريبية.
وقاد الركراكي فريق المغرب الفاسي المتوسط إلى الفوز بلقب الدوري الأول في تاريخ النادي، كما فاز بدوري نجوم قطر مع الدحيل. ثم عاد إلى المغرب ليفوز مع الوداد البيضاوي بثنائية الدوري المحلي ودوري أبطال إفريقيا، ويصبح ثاني مدرب مغربي يفوز باللقب الإفريقي.
لكن الأبرز من ذلك كله، أن الركراكي عضو في أول مجموعة مدربين تلقت رخصة تدريب المحترفين من الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، وذلك في وقتٍ سابق من العام الجاري.
وقبل مجموعة الركراكي، كان أي مدرب إفريقي يريد الحصول على رخص تدريب قارية مضطراً للسفر إلى أوروبا أو آسيا من أجل حيازة تلك المؤهلات.
مباراة النهائي ستكون إفريقية!
خرج رئيس الاتحاد الكاميروني لكرة القدم، صامويل إيتو، قبل البطولة ليصرح بتوقعات عجيبة تقول إن جميع المنتخبات الإفريقية ستتأهل من دور المجموعات. كما قال إن النهائي سيكون بين المغرب والكاميرون.
وتعرّض إيتو لسخريةٍ كبيرة بسبب تلك التصريحات، لكن تصريحاته المازحة كانت تهدف إلى تغيير الطريقة التي ينظر بها شعبه وقارته إلى أنفسهم. وأدلى الركراكي بتصريحات مماثلة، بعد أن أقصى المغرب إسبانيا من البطولة. حيث قال الركراكي: "يجب أن نتحلى بالطموح في مرحلة ما داخل إفريقيا، لماذا لا نحلم بالفوز بكأس العالم؟".
ويتحدث إيتو والركراكي هنا عن تغيير مطلوب بشدة في عقلية الدول الإفريقية، حتى تتطلع إلى المنافسة على المراكز الأولى، ولا تكتفي بالمشاركة فقط.
ويجب الحفاظ على هذه العقلية الإيجابية مستقبلاً، إذا كانت دول القارة ترغب في التفوق على أداء المنتخبات الإفريقية التي كسرت الأرقام القياسية في قطر، خاصةً أن كأس العالم المقبلة ستشهد مشاركة تسعة منتخبات من إفريقيا.
ويؤيد سانتفيت ذلك الرأي، قائلاً: "يجب أن تؤمن منتخبات إفريقيا بحقيقة أنها قادرة على الفوز بكأس العالم خلال السنوات المقبلة".
إليك خارطة الطريق التي اتبعها المغرب
سيُنسب الكثير من الفضل في أداء المغرب التاريخي إلى لاعبين، مثل ياسين بونو وأشرف حكيمي وحكيم زياش، إلى جانب المدرب الركراكي. لكن الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تستحق الثناء أيضاً على إنجازات "أسود الأطلس" في قطر.
فبعد عقودٍ من الأداء الكروي المتوسط، قررت الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم إصلاح هيكل الرياضة الوطني بدعمٍ من الملك محمد السادس.
وفي عام 2009، افتتحت الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم أكاديميتها الوطنية التي حملت اسم "أكاديمية محمد السادس لكرة القدم". وساعدت تلك الأكاديمية في تطوير العديد من اللاعبين الدوليين الحاليين، مثل نايف أكرد ويوسف النصيري. كما حاولت الكشف عن مواهب الشتات المغربي بتوظيف الكشافة في جميع أنحاء أوروبا، وذلك من أجل رصد أي مواهب مغربية شابة في القارة العجوز.
واستثمرت الجامعة الملكية في كرة القدم النسائية أيضاً، وطورت المدارس وأندية كرة القدم، وأنشأت هيكلاً للدوري الوطني. وأصبح المغرب البلد الوحيد في العالم الذي يمتلك مستويين من دوريات كرة القدم النسائية، بتنظيم احترافي متكامل وبتمويل من الجامعة الملكية لكرة القدم.
بينما يُعد مجمع محمد السادس الرياضي بمثابة درة التاج في استثمارات كرة القدم المغربية، حسب وصف الشبكة الأمريكية.
ولا شك أن تلك الاستثمارات تضافرت مع حصاد النجوم الموهوبين وأفضل مدرب إفريقي، لتتمخض معاً عن وصول المغرب إلى نصف نهائي كأس العالم.
وستشارك إفريقيا بـ9 منتخبات على الأقل في كأس العالم 2026، بدلاً من 5 فقط كما حدث في قطر. ومن المحتمل أن يكون لهذا الأمر تأثير تحوُّلي على أداء المنتخبات الإفريقية في البطولة.
ويجب على منتخبات مثل نيجيريا والجزائر وساحل العاج ومصر أن تحذو حذو المنتخبات الـ5 التي كانت مصدر فخرٍ للقارة في قطر، وذلك إذا أرادت أن تُكمِّل نجاحاتها في كأس العالم المقبلة.
ولا يزال هناك الكثير من العمل اللازم بعد عقود من الإحباط وخيبة الأمل للقارة الإفريقية على الساحة العالمية.
وتقول الشبكة الأمريكية "وربما تكون بطولة قطر 2022 هي نقطة التحول في حظوظ القارة، ونقطة انطلاق إحدى منتخباتها للفوز بكأس العالم يوماً ما".